طبق اليوم.. وصفات وأطعمة خلدتها اللوحات الكلاسيكية

يقول رئيس الطهاة النمساوي وولفغانغ باك إن "الطبخ فن مثل الرسم، ومثلما لا يوجد سوى عدد من الألوان، فهناك عدد من النكهات، والطريقة التي تخلطها بها هي ما تميزك".

لوحة "وجبات الإفطار" للرسام الهولندي فلوريس فان ديك (ويكيميديا)

شغل الطعام مساحة لا بأس بها من إنتاج الفنون التشكيلية منذ أن كان اليونان والرومان يقيمون مآدبهم وولائمهم احتفالا بالنصر في الحروب.

وقدم رسامو عصر النهضة اللوحات الزيتية والجداريات المليئة بالأطعمة والشراب والحيوانات وأدوات المائدة، وكان الرسم الدقيق للطعام وسيلة للرسامين لإظهار مهاراتهم الفنية على مر تلك القرون جميعها، وظل هذا التوجه سمة ثابتة للرسم طوال تاريخ الفن الغربي حتى العصر الحديث.

وزعم المؤرخ الكلاسيكي بليني أن الرسام اليوناني زيوكسيس رسم عناقيد عنب واقعية لدرجة أن الطيور جاءت لتقطفها. كذلك ظهر الطعام في الحقبة الباروكية للرسامين الإسبان، مثل دييغو فيلاسكيز وفرانشيسكو دي زورباران، بهالة من القداسة كنعمة يمنحها الرب للإنسان. وإذا وصلنا للقرن العشرين، كان الطعام محوريا في الرسوم الشعبية بحكم النزعة الاستهلاكية التي سيطرت على فضاء الفن.

العشاء الأخير

قدم الرسام الفلمنكي ميرتين دي فوس (1523-1603) في لوحته الشهيرة "العشاء الأخير" "المسيح" عليه السلام يجلس في وسط مائدة الطعام مع تلاميذه مصطفين من حوله.

ويعد "العشاء الأخير" اليوم واحدا من أشهر المواضيع التي ألهمت الرسامين على مر التاريخ، وهو أيضا أشهر عشاء في تاريخ الولائم والأطعمة التي تم رسمها على الإطلاق، وهذا العشاء رغم شهرته الشديدة ليس غنيًا بالأطعمة أو الشراب؛ إذ يظهر على الطاولة خبز الكفاف موّزع بين "الحواريين" فقط لا غير.

وصفات الجدات

قدم الرسّام الهولندي فلوريس فان ديك (1575-1651) في لوحته "وجبات الإفطار" المكونات الكلاسيكية لوجبة الإفطار المتعارف عليها بين الأجداد في هولندا. وجبة الإفطار الكلاسيكية الهولندية تلك مكونة من الجبن والخبز والمكسرات والفاكهة، بسبب ثرائها بالمعادن الغذائية، وهي مقدمة على منديل من الكتان الأبيض الفاخر لحماية مفرش المائدة الأحمر، وهو اللون الشائع للمفارش في هارلم في القرن 17.

تنتمي اللوحة للمذهب الباروكي، وهي حقبة ازدهرت فيها الفنون في أوروبا منذ أوائل القرن 17 حتى أربعينيات القرن 18. واتبع الباروكيون أساليب عصر النهضة ودمجوها مع الأساليب الكلاسيكية الجديدة؛ فأتت اللوحات ثرية بالتفاصيل ودرامية في الأحداث والموضوعات.

نرى أيضا في لوحة الرسام الإسباني دييجو فيلاثكيز (1599-1660) "سيدة مُسنّة تقلي بيض" واحدة من الوجبات الكلاسيكية ليس فقط في أوروبا، بل في العالم كله على مر العصور. كان فيلاثكيز في 18 أو 19 من عمره عندما رسم هذه اللوحة.

لوحة الرسّام الأسباني دييجو فيلاثكيز "سيدة مُسنّة تقلي بيض"
لوحة الرسام الإسباني دييجو فيلاثكيز "سيدة مسنة تقلي البيض" (ويكيميديا)

رسم فيلاثكيز الأشخاص والأدوات اليومية مباشرة من الحياة الواقعية، كما أدى افتتانه بالمواد والأنسجة المتباينة وانعكاس الظل والنور على الأسطح غير الشفافة والعاكسة إلى ثراء مواضيعه الفنية. نرى المرأة المُسنّة في اللوحة تنظر نحو الحفيد الذي تعد الوجبة من أجله على الأرجح، وسلّط فيلاثكيز الضوء من اليسار نحو اليمين لإضاءة وجه المرأة والأواني والبيض، لدرجة أنه جمع بين الظلام الغامق والتباين العالي للضوء مع استخدام درجات ألوان دقيقة ولوحة يغلب عليها اللون البني الداكن.

الطعام والحياة الاجتماعية

الاهتمام المفرط من قبل الرسامين بتسجيل أنواع الطعام والوجبات من عصر لعصر ليس مرده الاهتمام بالأكل فقط كغذاء للجسد، بل لأن أنواع الطعام نفسها كانت تستخدم للدلالة على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها الناس؛ فالأُسر شديدة الفقر كانت تصوّر وهي تأكل البطاطس التي كانت تستخدم طعاما للحيوانات في أواخر القرن 19 ومطلع القرن العشرين.

وقدم الرسّام الانطباعي فنسنت فان غوخ في لوحته "آكلوا البطاطس" واحدة من تلك العائلات، عام 1885، والتي تعيش حياة قاسية في الريف، وأفرادها مجتمعون حول طاولة العشاء يأكلون البطاطس. وكتب في أحد خطاباته أنه اختار عمدا نماذج فظة وقبيحة لأنه أراد انعكاسا حقيقيا لمعاناة الفقراء في الريف.

لوحة "آكلوا البطاطس" للرسّام الانطباعي فنسنت فان غوخ
لوحة "آكلوا البطاطس" للرسام فنسنت فان غوخ (ويكيميديا)

وقال فان غوخ في خطاب لأخيه ثيو "أردت أن أنقل فكرة أن الأشخاص الذين يأكلون البطاطس على ضوء مصباح الزيت استخدموا الأيدي نفسها التي يأخذون بها الطعام من الصحن للعمل في الأرض؛ إنهم يكدحون بأيديهم وقد كسبوا الطعام بوسيلة مشروعة وأمينة".

عاش الفلاحون في الريف الأوروبي حياة معدمة، ويتم تصويرهم غالبًا على هيئة حسنة بسبب هوس الأوروبيين بالجسد الأبيض العاجي ممشوق القوام، إلا أن فان غوخ كان يراهم عيانًا ببشرتهم الباهتة والمحروقة من أثر الشمس؛ كانوا يشبهون "التربة التي يحفرونها"، على حد تعبيره. وكانت لوحته تلك عن البطاطس من دون الخبز لأنهم أفقر من أن يشتروا القمح للخبز فيستبدلونه بالبطاطس.

ويقول فان غوخ "إنها لوحة ريفية حقيقية، لكن إذا كان الناس يفضلون رؤيتها مغطاة بالسكر (يقصد هوس الرسامين بالجسد ناصع البياض) دعهم يفعلون ذلك، أنا شخصيا أعتقد أنه من الأفضل رسمها مبتذلة كما هي بدل منحها سحرا غير موجود".

المصدر : الجزيرة