سجلات وثائقية لا تقدر بثمن.. لوحات العيد في القرن التاسع عشر

قدم المستشرقون الأجانب آلاف اللوحات التي تتناول منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ككل في الفترات التي سبقت الاستعمار أو المصاحبة له

لوحة "الصلاة في مسجد السلطان حسن" 1876​، للفنان الإنجليزي فريدريك جودال (مواقع التواصل الاجتماعي)

تعددت لوحات المستشرقين في تصوير وتسجيل الأجواء الإسلامية التي عاشها المسلمون في انتظار العيدين الفطر والأضحى، بداية من الأسواق المزدحمة استعدادًا للعيد وصولا لشراء الثياب والخروج للصلاة، فقد مثَّل الشرق الأوسط مصدر إلهام وإغراء لرسامين عدة حتى منتصف القرن العشرين.

ويعود السبب إلى هذا الفيض من الأعمال الفنية إلى أن الشرق كان هدفًا للمستعمرين الذين -على حد وصف المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد- تعاملوا مع الاستشراق "باعتباره استمرارًا أدبيا وفنيا للإمبريالية"، في حين يرى آخرون أمثال جون ماكنزي، أن الهوس بتسجيل حياة العرب والمسلمين لم يكن يتعلق فقط بالإمبريالية، فقد كانت الحرفية الفنية للعمال المسلمين والعرب في النقش اليدوي والهندسي والاهتمام بالعمارة والموسيقى أمرًا مثيرًا بالنسبة للفنانين الذين أتوا من أوروبا.

التسجيلات المرئية لأجواء العيد

"سوق مزدحم في يافا" هي تلك إحدى اللوحات المرسومة التي تسجل تناوب الناس على شراء احتياجات العيد من الأقمشة والثياب وغير ذلك.

وتعود اللوحة لأواخر القرن التاسع عشر، عام 1887، وهي للرسّام الألماني غوستاف باورنفايند (1848 – 1904)، والذي كان رسامًا ومصورًا ومهندسًا، ويعتبر من أبرز الرسامين المستشرقين الألمان الذين ولعوا بالشرق. كما أنه انتقل للعيش في القدس فيما بعد حتى توفي فيها.

يقول بورنفايند في رسالة إلى والدته بتاريخ ديسمبر/كانون الأول 1885 "مدينة مثل يافا، مع العديد من بساتين البرتقال الموجودة في كل مكان، تجعلها ذات ملامح مميزة خاصة عندما يتم حصاد الفاكهة في الشتاء حيث يتحول لون السوق إلى اللون الأصفر مع الفاكهة. ثم يأتي موسم الفواكه الأخرى لتترك انطباعها في السوق هي الأخرى … وما يجعل هذا المكان العتيق أكثر إثارة للاهتمام من غيره هي الأجواء وأزياء الناس".

وتصور اللوحة عددا من الباعة والناس الذين يتناوبون على شراء احتياجاتهم في سوق شعبي في يافا. كمعظم لوحات باورنفايند، تتكون لوحة السوق من عناصر واضحة ودقيقة لطبيعة الحياة في فلسطين قبل الاحتلال، فقد اهتم الرسام في المقام الأول بالمناظر المعمارية للقدس والصروح المعروفة هناك.

اللوحة تصور عددا من الباعة والناس الذين يتناوبون على شراء احتياجاتهم بسوق شعبي في يافا (ويكيميديا)

صلاة العيد

تعد لوحة "الصلاة في مسجد السلطان حسن"، 1876، للفنان الإنجليزي فريدريك جودال (1822-1904)، واحدة من أشهر اللوحات التي تتناول صلاة العيد. وكان جودال نفسه بارعًا في نقل المناظر المعمارية بحرفية عالية. وقد تم توثيق أنه زار مصر عدة مرات بسبب اهتمامه بالصروح المعمارية التاريخية فيها.

رسم جودال الكثير من تفاصيل حياة العرب والمسلمين شأنه شأن العديد من المستشرقين في القرن التاسع عشر. كما نقلت لوحته أكثر ما يميز مسجد السلطان حسن الشهير في القاهرة وهو حجمه الكبير ومفاهيمه المعمارية المبتكرة. وهو واحدٌ بين أكثر المساجد إلهامًا ومن أكثر المعالم التاريخية في القاهرة شهرة وزيارة.

ونرى في اللوحة وضعيّات مختلفة للمصلين بالإضافة للكثير من التفاصيل الدقيقة مثل الخطوط الضخمة المطبقة بشكل مقروء على نافورة الوضوء. كما تظهر آية الكرسي مكتوبة بخط الثلث أيضًا. وانعكست النقوش الكوفية الضخمة على جدران الإيوانات الأربعة العظيمة بمهارة على القماش.

وبحسب المؤرخ الفني بورا كيسكينر فإن "الرواية التي قدمها جودال عن زيارته لمصر لا تترك مجالًا للشك في أن الإثارة البصرية التي عاشها في القاهرة هي ما حفزته لرسم هذه المشاهد، لقد فُتِنَ برشاقة المصريين وعظمة المناظر الطبيعية، الأمرُ الذي جعلهم محورا مركزيا لفنه ومشاهده الاستشراقية العديدة".

الخروج للشوارع والاستمتاع

سجل الرسام النمساوي، رودولف إرنست (1854-1932)، في لوحاته الاستشراقية المتعددة الكثيرمن مظاهر البهجة والفرح التي عاشها المسلمون في أيام الأعياد، حيث ولع بالآلات الموسيقية والمعازف والألحان الشرقية الخالصة حتى إنه رسم لوحات عدة تحت عنوان "عازف الموسيقى"، والتي تصور فردًا أو عدة أفراد يتسامرون ويشدون بالناي في الأعياد.

ونرى في لوحته "عازفو الموسيقى"، التي رسمها عام 1886، رجلين أحدهما يجلس متمددًا، على مصطبة يغطيها السجاد، والآخر يفترش الأرض، يجلسان في مكان مزدان بالزهور والنقوش الإسلامية على الجدران، يعزفان على آلتين موسيقيتين في أجواء ساحرة. توحي الألوان بالبهجة وتظهر تفاصيل الثياب والسجاد واضحة وممتعة لعين الرائي.

لوحة "عازفو الموسيقى"، التي رسمها الرسام النمساوي، رودولف إرنست عام 1886 (مواقع التواصل الاجتماعي)

وقد عُرِفَ عن إرنست أنه كان مأخوذًا بسحر الشرق لدرجة أنه كرّس نفسه حصريا لرسم اللوحات ذات الزخارف الإسلامية خاصة المشاهد المعمارية مثل المساجد من الداخل. كما رسم مشاهد عدة للحرملك تصوّر الحياة اليومية في شمال أفريقيا معتمدًا على رحلاته المتعددة لتلك المناطق.

وبشكل عام، فإن تلك اللوحات تعتبر غيضا من فيض، فقد قدم المستشرقون الأجانب آلاف اللوحات التي تتناول منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي ككل في الفترات التي سبقت الاستعمار أو المصاحبة له.

فالحياة اليومية للعرب والمسلمين كانت على النقيض من حيواتهم والمناطق التي أتوا منها، فثلوج أوروبا قابلها دفء الشرق. والفنون البيزنطية والقوطية قابلتها العمارة الإسلامية المختلفة شكلا وموضوعًا حتى أن الناس أنفسهم كانوا أكثر عطفا وخيرا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية