العالم مزين بالثلوج.. لوحات سجلت جمال الشتاء ووحشيته

الجمال الأبيض.. لفلسفة العودة للطبيعة وسيادة العقل أبلغ الأثر في تشكيل أوروبا الجديدة

لوحة العَقْعَق أشهر لوحات الرسّام الفرنسي كلود مونيه (مواقع التواصل الاجتماعي)

لطالما كان الشتاء مصدرا للإلهام بالنسبة للعديد من الرسّامين وفي الوقت الذي يكسو فيه الشتاء المدن بالثلج والصقيع، اكتسى الشتاء نفسه في المخيّلة الشعبية بالكثير من لحظات البهجة والاحتفال.

وقد خلّد الكثير من الرسّامين الشتاء في أعمالهم، تارة عبر مشاهد واقعية للمدن والغابات بعدما صارت بيضاء بفعل الثلج. وتارة أخرى في ضوء أشعة الشمس الذهبية التي تشرق على هذا البياض فيذوب بعضه تدريجيًا. إلا أن التركيز البالغ للرسّامين كان على نقل روح الشتاء ومظاهر الاحتفال والبهجة التي تصاحبه بالرغم من أن الأمر لم يكن كذلك في البداية.

فالشتاء قبل القرن الـ15 لم يكن موضوعا ذا أهمية، فقد تسببت الحروب الدينية في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت في هيمنة المواضيع الدينية على الرسم. وحتى اللوحات القليلة التي لم تكن تدور في إطار ديني، كان منوطا بها إبراز عبقرية الرسّام وموهبته الفذة.

وبحلول عصر النهضة وصولا للقرن العشرين، شهدت المواضيع الفنية تنوعًا كبيرًا بحكم سيادة مذاهب فكرية جديدة، وهو الأمر الذي انعكس على الفن. فتنوعت المدارس التشكيلية نفسها بين واقعية وانطباعية وسريالية وغير ذلك. وقد كان للشتاء ولوحات المناظر الطبيعية نصيب الأسد من ذلك التنوع.

فقد كان لفلسفة العودة للطبيعة وسيادة العقل أبلغ الأثر في تشكيل أوروبا الجديدة. ومنذ القرن الـ15 حتى منتصف القرن الـ20 تقريبًا حل الشتاء ضيفًا في مئات اللوحات، وقد وصل تمثيل الشتاء إلى ذروته مع المدرسة الانطباعية على يد رائدها الرسّام الفرنسي كلود مونيه.

الشلل الأبيض

في عام 1564، عاشت أوروبا واحدًا من أبرد فصول الشتاء في تاريخها حتى أُطلق عليه "عصر الجليد الصغير" (The Little Ice Age). في ذلك الشتاء بارت الأرض وضاعت المحاصيل وتجمدت الأنهار وندرت المياه وتفشت مجاعة تسببت في أعمال سلب ونهب واسعة النطاق. وتكرر الأمر عينه حتى القرن الـ18.

ترك العصر الجليدي الصغير أثرا بالغا في كافة أشكال الحياة في أوروبا. وبالرغم من أنه كان كارثيًا فإن شخصًا ما استفاد منه بشكل مُبهر ولافت للنظر. ذلك الشخص هو الرسّام الفلمنكي الهولندي بيتر بروغل الأكبر (1525 – 1569)، الذي رسم في تلك الفترة أول مشهد بانورامي لقريته وهي مغطاة كليا بالثلج.

كانت تلك هي أول لوحة تتناول الشتاء كموضوع، "صيّادون في الثلج" عام 1565، وكانت بمثابة ثورة في الفنّ التشكيلي، فقد خالفت التقليد السائد في القرون الماضية والذي كان يدور حول رسم المواضيع الدينية. وتعد اليوم واحدة من أشهر لوحات المناظر الطبيعية في العالم بأسره.

العصر الجليدي الصغير ترك أثرا بالغا على كافة أشكال الحياة في أوروبا (مواقع التواصل الاجتماعي)

توضّح اللوحة حالة التناقض بين العدم الصارخ الذي تعيشه القرية تحت أنقاض الجليد وحركة الحياة التي لا تتجمد مهما حدث. على اليسار فوق التلة، هناك عودة 3 صيادين من رحلة استكشافية برفقة كلابهم الهزيلة، وجثة ثعلب صغير تدل على ندرة الصيد بحكم وفاة معظم الحيوانات.

وهناك أيضًا نسوة يحرقن بعض الأخشاب للتدفئة، والسماء مُلبدة بالغيوم، والألوان صامتة وباردة، والأشجار دون أوراق، وفي الوادي أسفل التلة عدد من الناس يتزلجون على الجليد، في حركة تناقض الجمود الذي يفرضه الثلج، كرمزية لانتصار غرائز الإنسان التليدة في البقاء.

الثلج المُسْتَطَاب

في لوحته "الشفق"، 1912، يقدم الرسّام الأسكتلندي جوزيف فاركوهارسون (1846-1935) منظرا طبيعيا لغابات أسكتلندا يكسوها الثلج وقت الشفق مع أرانب تجري بين النباتات. وعلى النقيض من وحشية الشتاء في لوحة بروغل، يظهر الشتاء في لوحات فاركوهارسون حنونا وهادئا ومحتملا.

لوحة "الشفق" للرسّام الأسكتلندي جوزيف فاركوهارسون (مواقع التواصل الاجتماعي)

 

"إنها صورة رومانسية جدا لغروب الشمس والثلج والنهر والجبال، فقد كانت مناظر فاركوهارسون الطبيعية تدور حول الحالة المزاجية"، كما يقول غريفين كو، أمين معرض أبردين للفنون.

برع فاركوهارسون في التقاط حسّ الدفء والسكينة. وكانت لوحاته تحمل عناوين غير عادية وأحيانًا مستوحاة من قصائد بيرنز وميلتون وشكسبير بحكم ولعه بالأدب الإنجليزي. وبالطبع كانت مناظر أسكتلندا الطبيعية مصدرا سخيا للإلهام بالنسبة له.

الشتاء الكريمي

وصل الشتاء لذروة مجده على يد الرسّام الفرنسي كلود مونيه (1840-1926)، حيث رسم 140 لوحة في حُبّ بياض الثلج، وأشهرها لوحة "العَقْعَق" (The Magpie)، والتي رسمها خلال شتاء (1868-1869) على المذهب الانطباعي. وتصوّر اللوحة طائر العقعق يقف فوق سياج خشبي في مزرعة بالقرب من بلدية إتريتات في نورماندي.

"في اللوحة استحضار غير عادي للثلج المكسو بالبرودة في فترة ما بعد الظهيرة في فصل الشتاء. إن زرقة الظلال الطويلة تخلق تباينًا دقيقًا مع بياض السماء والمناظر الطبيعية الكريمية"، كما تقول لين أور، أمينة متحف الفنون الجميلة في سان فرانسيسكو.

كان استخدام الظلال الملونة أمرا غير معروف قبل مونيه، ويحسب له إدخالها في الرسم، كما تحسب له ريادة المذهب الانطباعي ككل. وقد أدرجها رسامون عدة في أعمالهم مثل فنسنت فان جوخ وكاميل بيسارو، حتى صارت بعد ذلك إحدى السمات المميزة للمذهب الانطباعي.

وهكذا، ظهر الشتاء بأشكال مختلفة في الفن التشكيلي وتربع على عرش اللوحات بعد قرون من الغياب. وبالرغم من كونه مصدر بهجة للكثيرين في العصر الحديث بحكم توفر وسائل الحماية، فإن الشتاء حتى القرن الـ18 كان رمزا للموت والجوع والجمود القاتل.

المصدر : الجزيرة