كيف يساهم الذكاء الاصطناعي والمحاكاة الحيوية في تحسين جودة الحياة؟

يهتم قسم آخر من برامج الحاسوب بعمل نماذج تحاكي الواقع لدراسة الظواهر المختلفة. وكانت هذه النماذج تستخدم بتوسع في تطبيقات هندسية وفيزيائية وفلكية. لكن مع الانتشار الواسع لأجهزة الحاسوب بدأ تطوير نماذج محاكاة في جميع المجالات.

يعمل الذكاء الاصطناعي بشكل فعال في مجالات علوم البيانات والسيارات الذاتية القيادة وتشخيص وعلاج الأمراض (شترستوك)

لعل من أكثر المصطلحات العلمية ترددا في الآونة الأخيرة مصطلح الذكاء الاصطناعي، وذلك بعد ظهور الإصدار الأحدث من برنامج "شات جي بي تي" (ChatGPT) المتخصص في إنشاء نصوص مكتوبة تحاكي النصوص البشرية بدرجة غير مسبوقة من الدقة وبسرعة فائقة أيضا.

وخلال شهر واحد فقط، غطت شبكة الإنترنت نصوصا مكتوبة عن طريق هذا البرنامج وصلت إلى إصدار كتب كاملة ألفها البرنامج أو شارك في تأليفها، كما تمت إضافته كمؤلف مشارك في أحد الأبحاث العلمية المنشورة.

لفت هذا نظر الجميع إلى التقدم المذهل الذي وصلت له تقنيات ونماذج الذكاء الاصطناعي والمحاكاة وتطبيقاتها في مختلف المجالات. والواقع أن الذكاء الاصطناعي يعمل بشكل فعال في مجالات شتي من حولنا، منها تطبيقات عديدة في علوم البيانات والسيارات الذاتية القيادة وتشخيص وعلاج الأمراض والعديد من المجالات البحثية في البيولوجيا والكيمياء وعلم الأدوية ودراسة الأورام، وألعاب الحاسوب وبرامج التصميم وغيرها.

تنفذ نماذج الذكاء الاصطناعي مهامها دون تعليمات مسبقة ولكن بناء على فهمها للموقف وتحليلها للبيانات (شترستوك)

نماذج الذكاء الاصطناعي

تعمل برامج الحاسوب عادة وفق تعليمات مسبقة تمت تغذيتها بها عن طريق مبرمجيها. بناء على هذه التعليمات، تتخذ البرامج قراراتها وتنفذ المهام الموكلة بها. وتعمل بهذه الطريقة أغلب البرامج المستخدمة منذ اختراع الحاسوب وحتى اليوم.

على الجانب الآخر، بدأت في منتصف القرن الماضي محاولات لتطوير ذكاء خاص بالحاسوب يسمح للبرامج التي تستخدمه بأن تنفذ مهام وتتخذ قرارات دون تعليمات مسبقة، ولكن بناء على فهمها للموقف وتحليلها للبيانات المتاحة، وهو ما يسمى بنماذج الذكاء الاصطناعي.

تطورت هذه النماذج ببطء وتناسب تطورها طرديا مع القدرات الفائقة للحواسيب الحديثة والزيادة المطردة في قدرة البشر على إنتاج وجمع البيانات وجعلها متوفرة في أماكن مركزية (مثل خوادم الإنترنت والحواسيب السحابية)، حيث يمكن الدخول عليها وتحليلها باستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة. وذلك لأن إنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي الجديدة يعتمد على استخدام قدر كاف من البيانات في مرحلتين أساسيتين هما التدريب والاختبار.

The crystal structure of the protein. Molecular Graphic, 3D model.
باستخدام الذكاء الاصطناعي تم استنتاج التركيب الثلاثي الأبعاد لأكثر من 200 مليون بروتين (شترستوك)

إنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي

في مرحلة التدريب، يستخدم الجزء الأكبر من البيانات (70% إلى 80% منها عادة) لتدريب النموذج على فهم تركيب وطبيعة البيانات حتى يستطيع وحده تمييزها ومعرفة مكوناتها. وفي مرحة الاختبار، يتم استخدام الجزء الباقي من البيانات لاختبار أداء النموذج الجديد، وهل سيستطيع تحليل البيانات تحليلا صحيحا بناء على ما سبق من تدريب؟

على سبيل المثال، في حالة إنشاء نموذج يساعد على تشخيص الأورام من صور الأشعة التشخيصية، يتم تدريب النموذج عن طريق تغذيته بكمية كبيرة من صور الأشعة للأصحاء والمرضى ليتعلم كيف تبدو صورة الأشعة للشخص المعافى مقارنة بالمريض. وفي المرحلة التالية، يتم اختبار النموذج بإعطائه عددا من صور الأشعة وقياس نسبة تمييزه لصورة أشعة الأصحاء مقارنة بالمرضى بشكل صحيح.

الميزة الأساسية في نماذج الذكاء الاصطناعي مقارنة ببرامج الحاسوب العادية هي قدرتها على تحسين أدائها ذاتيا أو من خلال زيادة التدريب وتنويع البيانات. ففي المثال السابق، إذا كان أداء النموذج غير كاف لتشخيص موثوق فيه، يمكن رفع كفاءة النموذج عن طريق زيادة التدريب وزيادة وتنويع البيانات المستخدمة في التدريب، ومن ثم الحصول على أداء أفضل.

نماذج المحاكاة الحيوية القائمة على الذكاء الاصطناعي تساعد أيضا في الزراعة وتحسين جودة الغذاء (شترستوك)

نماذج المحاكاة

يهتم قسم آخر من برامج الحاسوب بعمل نماذج تحاكي الواقع لدراسة الظواهر المختلفة. وكانت هذه النماذج تستخدم بتوسع في تطبيقات هندسية وفيزيائية وفلكية. لكن مع الانتشار الواسع لأجهزة الحاسوب بدأ تطوير نماذج محاكاة في جميع المجالات.

خلال وباء كورونا تابعنا جميعا توقعات انتشار أو انحسار الوباء بناء على نتائج لنماذج علم الوبائيات، كما تم إنشاء نماذج تحاكي بروتينات الفيروس واللقاحات وكيفية ارتباطها معا في الفيروس الأصلي وفي متحوراته لقياس مدى فاعلية اللقاحات مع المتحورات الجديدة.

تعتمد نماذج المحاكاة على معادلات رياضية واختبارات إحصائية لإجراء المحاكاة والتأكد من صحة نتائج النموذج، على الترتيب. ويستخدم الحاسوب في إنشاء مثل هذه النماذج وتغذيتها بالبيانات اللازمة واختبار مخرجاتها ورسم النتائج بطرق سهلة الفهم وقادرة على إيصال معنى النتائج لدى مستخدمي النموذج.

نماذج محاكاة قائمة على الذكاء الاصطناعي

تعد تقنيتا الذكاء الاصطناعي ونماذج المحاكاة من أحدث التقنيات وأكثرها فائدة واستخداما في الوقت الحالي. ومن ثم فقد كان طبيعيا أن يتم دمجهما معا لإنشاء أطر عمل تكاملية تستخدم مميزات كلتا التقنيتين. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة مجموعة من التطبيقات التي تدمج التقنيتين معا لتحقيق أداء استثنائي، ومن ثم تحقيق نتائج جديدة غير مسبوقة.

في عام 2021 قدمت شركة "ديب ماند" (DeepMind) التابعة لشركة "غوغل" نموذج محاكاة للتنبؤ بالتركيب الثلاثي الأبعاد للبروتينات، قائم على تقنية للذكاء الاصطناعي تسمى ألفافولد (AlphaFold).

وقد أظهر النموذج دقة غير مسبوقة في التنبؤ بالتركيب الثلاثي الأبعاد للبروتين تقارب دقة التجارب المعملية، الأمر الذي جعله النموذج الأكثر استخداما في دراسة تركيب البروتينات من وقت نشره وحتى الآن.

الذكاء الاصطناعي ونماذج المحاكاة من أحدث التقنيات وأكثرها فائدة واستخداما في الوقت الحالي (مواقع إلكترونية)

وتوضح قاعدة بيانات "غوغل سكولر" (Google Scholar) للأبحاث أن البحث الخاص بـ"ألفا غو" والمنشور بدورية "نيتشر" (Nature) قد تم استخدامه مرجعا لأكثر من 8100 بحث في مجالات مختلفة منذ نشره في 2021.

وبسبب دقته العالية، قامت العديد من الجهات البحثية باستخدامه بشكل موسع لتحقيق نتائج كانت تعد مستحيلة أو شديدة الصعوبة سابقا. على سبيل المثال، تعاون المعهد الأوروبي للمعلوماتية الحيوية (EBI) التابع للمعمل الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية (EMBL) مع شركة "ديب مايند" صاحبة نموذج "ألفافولد" لعمل تنبؤ واستنتاج للتركيب الثلاثي الأبعاد لأكثر من 200 مليون بروتين من البروتينات المعروفة في مختلف الكائنات الحية وجعلها متاحة للجميع في قاعدة بيانات ألفافولد لتركيب البروتينات.

من أحدث هذه التطبيقات أيضا استخدام "ألفافولد" في إيجاد دواء جديد لعلاج سرطان الكبد. حيث قامت مجموعة بحثية من الصين وكندا والولايات المتحدة بإنشاء منصة كاملة لتصميم الدواء تسمى Pharma.AI وتعتمد على نموذج "ألفافولد" مع بعض نماذج الذكاء الاصطناعي الأخرى. واستطاعت المجموعة أن تتوصل إلى الدواء الجديد باستخدام هذه المنصة.

كما تظهر الأبحاث الحديثة التوجه لاستخدام نماذج الذكاء الاصطناعي مثل "ألفافولد" وغيره في إنشاء نماذج للمحاكاة الحيوية تستخدم في الزراعة وتحسين جودة الغذاء وإيجاد مصادر بديلة للبروتينات تكون أكثر وفرة وتوفر خيارات أكثر صحية.

الذكاء الاصطناعي والمحاكاة الحيوية هما إذن تقنيتان واعدتان يمكن التعويل عليهما في حل مشاكل رئيسية في مجالات الصحة والدواء والغذاء، وقد حقق العالم تقدما ملحوظا بهما في السنوات الأخيرة لكنهما لا تزالان في مراحل التطوير، ويتوقع أن تصبحا أكثر نضجا في السنوات القليلة القادمة.

المصدر : مواقع إلكترونية