لقاء اليوم

دينيس هاليداي .. الحصار الأميركي على العراق

ما الأسباب الحقيقية وراء استقالة مساعد الأمين العام من منصبه؟ هل العقوبات المفروضة على العراق قانونية؟ ما أثر العقوبات الدولية على العائلة العراقية والأطفال الرضع بالذات؟ هل اهتزت مصداقية الأمم المتحدة عندما فرضت العقوبات الجائرة على العراق؟
مقدم الحلقة طلال الحاج
ضيف الحلقة دينيس هاليداي، الرئيس السابق لبرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق
تاريخ الحلقة 03/03/1999

undefined
undefined

طلال الحاج: مشاهدينا الكرام، أسعد الله أوقاتكم، وأهلاً وسهلاً بكم في هذه الحلقة من برنامج (لقاء اليوم) التي تأتيكم من المقر الوطني للصحافة في واشنطن، والتي نستضيف من خلالها السيد دينيس هاليداي (الرئيس السابق لبرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق) ونستهل هذا اللقاء بهذا السؤال: دينيس هاليداي عمل دام أربعة وثلاثين عاماً في الأمم المتحدة مساعد الأمين العام، رئيسا لبرنامج النفط مقابل الغذاء في العراق لماذا استقلت من منصبك؟

دينيس هاليداي: ثلاثة وأربعون عاماً بالفعل وقت طويل، ولكن أثناء وجودي في العراق ممثلاً للأمين العام ورئيساً لوكالات الأمم المتحدة في البلاد شعرت أن وجودي أمر غير مقبول مع استمرار آثار العقوبات التي تفرضها الدول الأعضاء في مجلس الأمن فقد كنت أواجه يومياً النتائج المؤسفة لسوء التغذية ووفيات الأطفال بالذات، كنت في نفس الوقت مديراً لبرنامج المعونات الإنسانية مع الحكومة العراقية، وهو برنامج اتسم بضعف التمويل ولعبت فيه السياسة دوراً كبيراً، وفشل في معالجة النواقص الناتجة عن العقوبات الاقتصادية، وجدت أن وضعي هناك لم يكن يتمشى مع المهمة التي أناطتها بي الأمم المتحدة ولذا صعب على قبول الوضع، وقررت الاستقالة لكي أتمكن من التحدث بحرية كما أفعل الآن، بهدف تسليط الأضواء على المأساة العظمى التي يمثلها العراق اليوم.

طلال الحاج: في رأيك وطبقاً للقانون الدولي هل العقوبات المفروضة على العراق قانونية؟

دينيس هاليداي: لا أؤمن بأن قرارات مجلس الأمن هي قرارات مرسلة أو مقدسة فالحرب في يومنا هذا تغطيها معاهدتا (لاهاي) و(جنيف)، ولكن لا توجد -وللأسف- وسيلة مشابهة للإشراف على قرارات مجلس الأمن، والآثار المترتبة عليها، قرارات العقوبات هي بمثابة إعلان الحرب، فنتائجها أكثر ضراوة من نتائج أي حرب، فمنذ عام 90 و91 قتل على الأرجح نحو مليون مواطن عراقي كنتيجة مباشرة للعقوبات، فالعراق يفقد ما بين 5 و 6 آلاف طفل كل شهر وذلك كنتيجة مباشرة للعقوبات، أعتقد أن المجتمع الدولي أدرك الآن أن هذا الوضع غير مقبول، وأثار عدد من المحامين الدوليين هذه القضية، وأؤمن بوجود حاجة إلى تشكيل هيئة محلفين دولية عليا، مهمتها النظر في قرارات مجلس الأمن تضع لها المقاييس والاعتراف وتجعلها أكثر قبولاً.

طلال الحاج: إذا كانت هذه العقوبات غير مقبولة بالنسبة إليك فلماذا خدمت في البداية لمدة ثلاثة عشر شهراً، واستقلت فقط في أغسطس، وعملياً في أكتوبر عام 98؟

دينيس هاليداي: قررت أنني أريد أن ألعب دوراً في وضع العراق فذهبت إلى هناك في نهاية أغسطس عام 97، وفي خلال ستة أسابيع وبناء على تقارير (اليونيسيف) بشأن وفيات الأطفال وسؤ التغذية بدأت أحاول أن أؤثر على الدول الأعضاء والأمين العام في (نيويورك ) لمضاعفة حجم برنامج النفط مقابل الغذاء، كانت هذه هي الخطوة الأولى في محاولتي معالجة فشل البرنامج في حل القضايا المتعلقة بشأن سوء التغذية، فهذه لم تكن مشكلة غذاء وحسب، بل مشكلة الحاجة إلى إعادة البنية التحتية الأساسية في جميع أنحاء البلاد.

طلال الحاج: هل يمكنك من خبرتك في العراق أن تحدثنا عن أثر العقوبات على العائلة العراقية، وعلى النساء والأطفال؟

دينيس هاليداي: كما تعرف جيداً نظام الأسرة العراقية المسلمة هو نظام قوي جداً يراعي بصورة كبيرة جميع أفراد العائلة ولكن اليوم يتداعى نظام الأسرة هناك، فنرى كثيراً من الأسر تعولها الأم فقط، بعد أن هرب الرجل بحثاً عن العمل أو بسبب الاكتئاب والشعور باليأس، تجد الأطفال يدفع بهم إلى الشوارع للاستجداء، وهو ما لم يكن قائماً في العراق حتى الآونة الأخيرة، تجد الآن أطفالاً يرتكبون جرائم الشوارع، ومعدلات طلاق مرتفعة، وانهيار في القيم التقليدية للعائلة التي سادت بغداد والمدن العراقية الأخرى لسنوات طويلة.

طلال الحاج: إذاً للعقوبات أثر على نسبة الجريمة والسلوك الاجتماعي في العراق؟

دينيس هاليداي: نعم، أعتقد أن مستوى الأخلاقيات ومدى احترام القانون انهارا إلى درجة ملموسة، فعلى سبيل المثال كان الناس في الثمانينات يتركون بيوتهم وسيارتهم مفتوحة وفي داخلها مفاتيحها دون أي قلق، وفي المساء في وسط بغداد تجد المقاهي مفتوحة والناس يسيرون في الشوارع كجزء من الحياة الاجتماعية في المدينة، كل هذا انتهى، فالمحلات تغلق أبوابها بحلول الظلام، ونلاحظ الآن أيضاً ارتفاع نسبة الدعارة فالوضع المؤسف قد يضطر عائلة ما إلى اختيار إحدى بناتها لممارسة الدعارة لمنع المجاعة ووضع الطعام على المائدة، ولإرسال الأطفال إلى المدرسة، وشراء ضروريات الحياة، هذه قرارات حرجة ومؤسفة جداً ولها أثر سيئ جداً على الأسرة والعلاقة بين أفراد الأسرة في المستقبل.

طلال الحاج: ما أثر العقوبات على الأطفال الرضع بالذات؟

دينيس هاليداي: نسبة الوفيات بين الأطفال معروفة جداً، فمنظمة اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية أصدرت أرقاماً تفيد أن ما بين 5، و6 آلاف طفل يموتون شهرياً بسبب العقوبات، وطبقاً لمنظمة الصحة العالمية فإن هذه الأرقام هي تقديرات منخفضة بسبب وفيات الأطفال غير المسجلين، ولكن سواء كان العدد ألفاً، أو خمسة آلاف فإنه كبير جداً، وناتج بصورة مباشرة عن عدم توفير نظام العقوبات الاقتصادية للمياه النظيفة، ونظم المجأرى الفعالة، والرعاية الصحية، وحتى الرعاية الطبية الأساسية غير متوفرة في أغلب الحالات، هذا له أثره السلبي جداً على صحة الأمهات والأطفال، ويؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات بين الأطفال الرضع.

طلال الحاج: ما هو أثر العقوبات على جيل الشباب قادة المستقبل في العراق؟

دينيس هاليداي: ما نراه الآن هو ترك الأطفال للمدارس فهم يتركون المدارس الثانوية بنسب تصل إلى 30%، كما ترك عشرة آلاف مدرس وظيفته من أنحاء مختلفة من البلاد، أما الجامعات فهي تعاني بشدة، ومع ذلك مازالت تخرج الطلاب، ولكنهم وبكل أسف عاجزون عن العثور على العمل، سوق الوظائف الشاغرة سيئ جداً بسبب قلة المواد الخام، وقلة الأسواق، وذلك نتيجة للأضرار التي ألحقتها قوات الحلفاء في عام 91، هناك الآن عدد كبير من الشباب والرجال والنساء الذين طفح بهم الكيل بسبب الوضع الحالي الذي أثر عليهم وعلى مستقبلهم وعلى فرصهم في الحياة، وبدؤوا ينظرون للحكومة الحالية على أنها حكومة لا تخدم مصالحهم بالصورة المطلوبة بسبب استمرارها بقبول الحلول الوسط مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة فهم لا يعتبرون أن هذا هو الطريق الأمثل.

طلال الحاج: هل يخلق هذا جيلاً أكثر تطرفاً؟

دينيس هاليداي: هذا ما نخشاه فالقيادة الحالية في العراق سافرت إلى الغرب، وكثير من أعضاءها لديهم شهادات الدكتوراه من أميركا ومن المملكة المتحدة، ومن أماكن أخرى وهم لذلك يفهمون صورة إجمالية شمولية لعالم اليوم، أما الجيل القادم في القيادة والذي بدأ ينمو ويصعد الآن من خلال حزب البعث فهو جيل لا يحظى بهذه المميزات، وسيصبح جيلاً مغلقاً على نفسه بالنسبة للعراق والعالم المحيط به، يوجد بالفعل خطر انعدام فهم العالم بأكمله، وقد ينتهي الأمر في العراق إلى وضع مشابه لحركة طالبان في (أفغانستان) اليوم، هذه تكهنات من طرفي وقد يكون هناك نوع من التطرف، ولكن هذا الموضوع خطير خاصة عندما نرى أثر العقوبات على شباب اليوم داخل حزب البعث مما يجعل أشخاصاً مثل طارق عزيز يبدون وكأنهم أناس معتدلون في العراق في الوقت الذي يريد فيه الشباب الصاعد إجراءات مثيرة وربما أكثر عنفاً تجاه الولايات المتحدة والأمم المتحدة بسبب العقوبات وأثرها على الشعب العراقي.

طلال الحاج: ما هو أثر العقوبات على المفكرين في العراق؟

دينيس هاليداي: يواجه العراق مشكلة كبيرة بعد الانخفاض الكبير في عدد المفكرين والعلماء في العراق، فكثير من الأساتذة الجامعيين، والمفكرين، والعلماء، والمهندسين من جميع فروع الهندسة غادروا العراق، فنجد الآن أساتذة ورؤساء جامعات عراقيين يعملون في المنطقة العربية بدلاً من عملهم في بلدهم لخدمة شعبهم، ولذا يوجد للعقوبات وقع كبير تسبب في فقدان العقول التي تمثل الطبقة الحرفية المتوسطة، وهي الطبقة التي قد تناصر نوعاً آخر من الحكومات في العراق، فإذا كنا نأمل أن نرى الديمقراطية في العراق في وقت ما، فمن هذه الطبقة ستبدأ الانطلاقة، هذه الطبقة منهكة الآن إلى حد كبير، فمن بقي منهم في العراق يعيشون على معاش ثابت فقد قدرته الشرائية، ويعانون الكثير من العقوبات بسبب انخفاض قيمة العملة وارتفاع أسعار السلع، وبكل أسف هذه الطبقة المنهكة من المجتمع العراقي لا تملك القدرة الآن من أجل إحراز التغيير.

طلال الحاج: استقلت بسبب سوء الأوضاع هل تحسنت الأمور أم ساءت منذ تركك لمنصبك؟

دينيس هاليداي: برنامج النفط مقابل الغذاء نفسه تضاعف حجمه في بداية عام 98، ولكن أسعار النفط المنخفضة –وللأسف- أثرت سلبياً وبصورة كبيرة على هذا البرنامج، أضف إلى ذلك انخفاض القدرة الإنتاجية للنفط في العراق، هذان العاملان مسحا تماماً فائدة مضاعفة قيمة هذا البرنامج الذي اقترحه الأمين العام في أوائل عام 98 ومع ذلك تستمر الإمدادات الغذائية وإمدادات الأدوية فأكثر من ثمانية ملايين طن من الأغذية وصلت إلى العراق، وهي كميات كبيرة، هذا البرنامج لم يكن المقصود منه حل المشكلة بل دعم الترتيبات الموجودة داخل البلاد.

كل هذا لم ينتج عنه الأمن الغذائي المطلوب، ولم ينتج عنه التمويل اللازم لإعادة بناء القطاع الصحي، بما في ذلك نظم المجاري والمياه الصالحة للشرب، هذه جميعها نواحي أساسية للصحة العامة، فالمياه الملوثة تقتل في أغلب الأمر عدداً من الأطفال يفوق ما تقتله أي مسببات أخرى، وهناك أيضاً الأمراض التي يمكن وقاية الأطفال منها، ولكن العراقيين عاجزون عن التعامل معها بسبب شح الأدوية والمعدات الأساسية، برنامج النفط مقابل الغذاء فشل فشلاً ذريعا في حل المشكلتين الأساسيتين، وهما: سوء التغذية وكيفية خفض الوفيات، ولكن بدون هذا البرنامج ستكون الأوضاع أسوأ حالاً في العراق إذا ما افترضنا استمرار العقوبات.

طلال الحاج: عندما احتجت إلى المعدات لتعقيم أو لتنقية المياه -على سبيل المثال- هل كنت تحتاج إلى أخذ الأذن المسبق من (أونسكوم)؟

دينيس هاليداي: كانت (أونسكوم) ملزمة بالنظر في بعض المواد المستوردة ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء مثل غاز ليكلور الذي يمكن استعماله استخدامات مختلفة، وكذلك كانوا ينظرون في غيار طائرات الهليوكوبتر التي تستخدم في الأغراض الزراعية فكانوا يشرفون على تركيب القطع التي نستبدلها أنت على حق فقد كان لديهم دور في النظر فيما يسمي بمعدات الاستعمالات المزدوجة، وذلك بسبب قلق بعض أعضاء مجلس الأمن من إساءة استخدام برنامج النفط مقابل الغذاء.

وبكل صراحة كان عملهم لا يحظى بأهمية كبيرة في هذا المجال فقد كانوا يعملون كقوة عسكرية في بلد محتل، فكانوا يشعرون بعدم الأمن، وكانوا يغطون مساحات واسعة من خلال أعمالهم، أثناء السنوات الأولى من رئاسة (رالف أوكيس) لأونسكوم تمكنوا من إحراز قدر ضخم من مهمتهم، وبحلول عام 98 كان الملف النووي جاهزاً للقفل وهذا ما أكدته الوكالة الدولية للطاقة الذرية مؤخراً بصدد تعاون العراق، وعدم وجود ما يقلق العالم فيه وهذا ينطبق أيضاً على ملف الصواريخ العراقية، ولكن للأسف توقف عمل أوكيس في عام 98، وأصبحت الأمور الآن أكثر غموضاً.

طلال الحاج: باختصار هل كان مفتشو أونسكوم متعاونين، متعاونين مع فريقك؟

دينيس هاليداي: كان يوجد بيننا خلاف فلسفي رئيسي، وكذلك اختلاف في طريقة التعامل مع الأمور، وهذا ما عكسه وبوضوح (ريتشارد بتلر) نفسه، فمثلاً قام بتلر بإخلاء موظفيه في منتصف الليل قبل توجيه ضربة إلى العراق دون أن يبلغ رئيسه فريق العاملين في البرنامج الإنساني، وترك وراءه ثلاثمائة أو أربعمائة من موظفي الأمم المتحدة العاملين في الإغاثة هذا يوضح انعدام التعاون بين شقي فريق الأمم المتحدة في العراق.

طلال الحاج: هل تعتقد أن مصداقية الأمم المتحدة اهتزت بسبب العقوبات المفروضة على العراق؟

دينيس هاليداي: نعم أعتقد هذا، فمن دواعي القلق أن تمثل أونسكوم الأمم المتحدة بينما العاملون فيها هم من خارج موظفي المنظمة الدولية لقد أساءت أونسكوم إلى سمعة الأمم المتحدة، أما قرارات مجلس الأمن فهي في اعتقادي مستمرة في فرض العقوبات الاقتصادية على العراق، بالرغم من معرفة الدول الأعضاء الجيدة لآثارها، وخاصة فيما يتعلق بارتفاع الوفيات بين الأطفال وسوء التغذية، هذا كله يسيء جداً إلى سمعة الأمم المتحدة، فالدول الأعضاء تهمل الآن وبصورة متعمدة -في رأيي- مبادئ وروح ميثاق المنظمة وتخرق ما جاء في إعلان حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بشعب العراق وأطفال العراق، فهي تخرق جميع معاهدات حماية حقوق الطفل، والحقوق الاقتصادية، والاجتماعية للشعوب مثل: حق الإسكان وحق الشعب في الطموح إلى الأفضل.

ومن سخرية القدر أن الدول الأعضاء الأمم المتحدة تخرق المبادئ التي أسست عليها المنظمة والتي كنا نعمل كل يوم من أجل تحقيقها هذه مأساة للأمم المتحدة التي ترى بأم عينيها ما يحدث، أضف إلى ذلك أن دولتين عضويين في المنظمة تقومان دون تأييد مجلس الأمن أو حتى موافقة الدول الخمسة ذات العضوية الدائمة تقومان بشن هجمات عسكرية على العراق، ولأسباب يصعب تحديدها من أجل تحقيق نتائج يصعب فهمها.

طلال الحاج: بكل أمانة هل تشعر أن الأمين العام للأمم المتحدة قادر على الوقوف في وجه دول مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؟

دينيس هاليداي: الأمين العام -في رأيي- يشغل واحدة من أصعب الوظائف، فهو جزء من الأمم المتحدة كمؤسسة، وعليه أن ينفذ تعليمات وقرارات الدول الأعضاء، وعليه أيضاً موازنة عديد من القضايا في جميع أنحاء العالم، لا قضية العراق وحدها أو أي قضية منفردة أخرى، ولذا فهو في وضع غير مريح بتاتاً، ومع ذلك أشعر أن من الواجب على الأمين العام أن يقول رأيه بصراحة، وأن يقول الحقيقة التي تعكس روح ميثاق منظمة الأمم المتحدة، فهو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يقف مدافعاً عن أهداف المنظمة والغرض من إنشاءها.

طلال الحاج: هل فعل ذلك؟

دينيس هاليداي: أعتقد أنه فعل ما يقدر عليه، فمثلاً ذهب إلى بغداد بالرغم من احتجاج البعض، وتحدث إلى الرئيس صدام حسين، وذهاب أيضاً إلى ليبيا وقام بأعمال لا ترضي بعض الدول الأعضاء، أنا متأكد أنه سيستمر في ذلك وفي محاولاته للتوصل إلى حلول وسط، وهذا هو كل ما نستطيع أن نتوقعه من رجل في مثل هذا المنصب الصعب.

طلال الحاج: ندرك أنك كسرت بعض قواعد الأمم المتحدة في العراق عندما شرعت باحثاً عن الأدوية في السوق السوداء في عمان، ما الذي دفعك على هذا؟

دينيس هاليداي: عندما ترى مستشفيات بغداد والبصرة والمناطق الأخرى، وترى آلاف الأشخاص وخاصة الأطفال منهم يعانون من أمراض يمكن وقايتهم منها يسبب لك هذا بعد وهلة من الزمن الحزن الشديد، وأعتقد أن آخرين فعلوا ما فعلت، سيقولون لك نفس الشيء، لم أستطع مساعدة الآلاف أو حتى المئات ولكني رأيت مرة أربعة أطفال في أحد الأجنحة فقررت على المستوى الشخصي أن أقوم بمساعدتهم في مشكلتهم وكانوا يعانون من سرطان الدم، وبمساعدة آخرين تمكنت من العثور على الدواء اللازم لهم خارج البلاد، ولكن لسوء الحظ عندما أحضرنا الدواء وجدنا أن اثنين من الأطفال الأربعة قد توفيا، أما الطفلتان الأخريات، فهما على قيد الحياة، اليوم تتسلمان الدواء من مصدر خارجي.

طلال الحاج: هل كنت غالباً ما تزور المستشفيات أثناء تواجدك في العراق؟

دينيس هاليداي: صدقني توقفت عن زيارة المستشفيات لأنني شعرت بأنني مجرد رجل أجنبي آخر ينظر عن بعد، ويتأمل في هذا الوضع ولكنه عاجز عن حل المشكلة وشعرت أن هذا هو بدون جدوى.

طلال الحاج: ولكنك رئيس الإغاثة الإنسانية؟

دينيس هاليداي: نعم كنت رئيس البرنامج، ولكن لا تنسى أنه كان لدي مائة وخمسون مراقباً يقومون يومياً بزيارة المستشفيات للوقوف على انتظام قدوم الإمدادات وكيفية استعمالها، كانوا يقومون بواجباتهم، وزيارة المستشفيات كانت مسألة سطحية لا تخدم غرضاً مفيداً.

طلال الحاج: وجهت إليك الدعوة لزيارة العراق من الرئيس العراقي صدام حسين لماذا لم تقبل هذه الدعوة؟

دينيس هاليداي: قررت حتى قبل أن تطأ قدماي العراق أن أسلك نفس النهج والحياد وهو النهج المناسب لمسؤول رسمي في الأمم المتحدة وإذا ما أغضبت بغداد، أو أغضبت واشنطن أو نيويورك في نفس الوقت فهذا في رأيي لا بأس به، أحاول الآن الاستمرار في حيادي بالرغم من أنني شخص مستقل حالياً ولا أنتمي إلى المنظمة الدولية، لم أكن مرتاحاً لفكرة الذهاب إلى بغداد للاشتراك في احتفالات حقوق الإنسان، في الوقت الذي أدرك فيه أن في الأمم المتحدة دولاً أعضاء تخرق حقوق الإنسان ولكن في نفس الوقت توجد في العراق أيضاً مشكلة تتعلق بحقوق الإنسان، ولذلك لم أشاء أن أشكل جزءاً من احتفالات حقوق الإنسان تحت هذه الظروف.

طلال الحاج: وصفت القصف الأخير للعراق بأنه غير مشروع، هل تعتقد أنه حقق أي شيء؟

دينيس هاليداي: ما أفهمه الآن أنهم ربما حققوا نتائج عسكرية، ولكن كما قال (سكوت ريتر) فإن المباني التي قصفت كانت خالية بالتأكيد، فأونسكوم كانت تعرف موقعها وتعرف أنها لم تكن تساوي شيئاً، ولذا أتساءل من أين جاءت معلومات نجاحها، وهو يظل أمراً غامضاً؟ ولكن يفترض الإنسان أنها تأتيهم من خلال وكالات الاستخبارات الدولية، من الصعب التحقق مما حدث، ولكن الأضرار الناتجة تفوق في حجمها، أي نجاحات عسكرية، فقد أدى الهجوم إلى ازدياد عداء الشعب العراقي للولايات المتحدة وللمملكة المتحدة، وربما كذلك ازداد عداء الشعوب في العالمين العربي والإسلامي، فمن المسيء جداً أن يهاجم العراق على افتراض أنهم سيضربون الأهداف العسكرية، ولكنه في حقيقة الأمر يقتلون النساء والأطفال، ويلحقون الضرر ببلد عانى من العقوبات على مدى ثمانية أعوام الجميع يدرك الآن أن الشعب العراقي يعاقب ويظلم بسبب السياسة التي تنتهجها القيادة العراقية وهو أمر لا يتحمله الشعب العراقي.

طلال الحاج: تجادل الولايات المتحدة دائماً بأن رفع العقوبات هو لمصلحة النظام العراقي فقط، ما هو تعليقك؟

دينيس هاليداي: هذا جدل لا يقنعني بل إن استمرار العقوبات هو الذي يقوي النظام العراقي فوجود العقوبات والآثار الناتجة عنها، قوت من عضد الحكومة، وكمثال على ذلك دفعت الهجمات العسكرية الأخيرة بالشعب العراقي إلى الالتفاف حول قيادته، وهذه هي ظاهرة طبيعية، في اعتقادي أن الفائدة ستجنى برفع العقوبات والسماح للاقتصاد بالعودة إلى طبيعته السابقة عندما كانت البطالة منعدمة، والطبقة المحترفة آخذة لوضعها المناسب في المجتمع، هذه عملية قد تكون بطيئة وطويلة إلا أن الشعب عندما يكون سعيداً وبطنه ممتلئ يفكر حينئذ في نظم الحكم وفي الديمقراطية وممارساتها، ولكن اليوم في العراق يركز من قد يفكرون بالتغيير على البقاء، وعلى الغذاء، وعلى صحة أطفالهم، وعلى كبار السن في أسرهم، وعلى الأمور الأساسية جداً، العقوبات الاقتصادية لا تخدم التغيير الإيجابي أو الديمقراطي، أو أي تعديل ذي معنى على النظام الحالي في العراق.

طلال الحاج: العراق يهدد بإنهاء عمل مفتشي برنامج النفط مقابل الغذاء في إبريل( نسيان) المقبل ماذا ستكون آثار مثل هذا التحرك؟

دينيس هاليداي: إذا حدث هذا فهو أمر مقلق من جهة، ولكن من جهة أخرى سيعني أن حكومة العراق واثقة من قدرتها على إطعام ثلاثة وعشرين مليون، هذا سيعني بالطبع أن لدى الحكومة كميات من الاحتياطي، وأن لديها الأموال الكافية لشراء الأغذية، والأدوية، والمتطلبات الأساسية الأخرى، أضف إلى ذلك أن الدول المحيطة بالعراق مستعدة الآن للتعاون والمساعدة، وهو أمر في غاية الأهمية في رأيي، إذا اتخذ العراق هذا القرار أعتقد أن هذا سيعكس أيضاً غضب الجيل الجديد في القيادة، وهو جيل يؤمن بأن العراق يجب أن يشق طريقة بنفسه، وأن يوقف التعاون مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة، وأن يدافع عن موقفه مستعيداً سيادته، وكرامته، واعتزازه بنفسه.

قد يكون الأمر صعباً ولكنهم قادرون على القيام به، فهناك روح مقاومة وصلابة في العراق، هذا هو ما يحدث فلديهم إحساس بالحاجة إلى المضي لوحدهم قدماً، والوقوف على أقدامهم بأنفسهم مظهرين للعالم كله أن الشعب العراقي لا يحتاج إلى برنامج النفط مقابل الغذاء، وأنه سينتصر على نظام العقوبات وسيخرج من المحنة.

طلال الحاج: هل ترى نهاية قريبة للعقوبات؟

دينيس هاليداي: أملي في ذلك كبير، فنحن نرى نقاشات تدور في مجلس الأمن حول هذا الموضوع، ففرنسا وروسيا والصين اتخذت موقفاً مفاداه أن العقوبات الاقتصادية لا يمكن استمرارها إذ لا يمكننا الاستمرار في الأضرار التي ألحقناها لسنين طويلة، الأمر سيحتاج إلى تقديم تنازلات مع إيجاد آلية تحكم، قوية في عمليات الصناعة وبيع الأسلحة إلى العراق، وأملي أن تطبق هذه الآلية على دول أخرى كثيرة، هناك قرار رقم 687 من مجلس الأمن الذي يهدف إلى إزالة أسلحة الدمار الشامل من جميع أنحاء الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج، وينطبق هذا القرار على جميع دول المنطقة ومن بينها العراق.

رفع العقوبات سيخلق نوعاً من القلق حول كيفية صرف العائدات العراقية، ولكن إذا نظرنا إلى الماضي فنحن متفائلون بأن العائدات ستنفق في إعادة بناء البنية التحتية للقطاع المدني، وهو ما يحتاج إليه العراق بشدة، بالإضافة إلى استعادة صحة وتحسين أحوال الشعب العراقي ما أقصده هنا هو استعادة خدمات الطاقة الكهربائية، وخدمات المجاري، وإمدادات المياه، وهي احتياجات أساسية جداً التاريخ يوضح لنا أن مليارات الدولارات استثمرت في الماضي في هذه المجالات، وكان هذا هو سبب استمتاع الشعب العراقي بمستوى معيشي يقارن بالمستوى المعيشي في كثير من الدول الأوروبية خلال الثمانينات.

طلال الحاج: الدول والشعوب العربية تجادل دائماً بأنه يوجد نفاق في تطبيق قرارات الأمم المتحدة في المنطقة، هل توافق هذا الرأي؟

دينيس هاليداي: نعم، وهذا الشعور بكل تأكيد منتشر جداً في العراق فنحن لدينا قرارات من مجلس الأمن تتعلق بالعراق وهي تطبق بشدة إلى درجة شن الهجمات العسكرية، ولكن الدول الأخرى ومن بينها إسرائيل يمكنها أن تتجاهل القرارات، والقيام بالأعمال العسكرية العدوانية ضد لبنان-على سبيل المثال-دون أن تواجه أي عقاب، هذا الأمر يثير القلق الشديد للعرب وللفلسطينيين وللآخرين، وينطبق المثل على تركيا العضو في الحلف الأطلسي فتهاجم تركيا بعنف مراراً أجزاءً في شمال العراق، فأنا شخصياً واجهت دبابات تركية في كردستان العراق، لذا ولسوء الحظ يوجد هناك نفاق في التعامل، وهناك حاجة ماسة للتعامل مع هذا الأمر.

طلال الحاج: هل ساورك أي ندم منذ استقالتك من منصبك كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة؟

دينيس هاليداي: في حقيقة الأمر لا، فقد كنت محظوظاً في عملي، وسافرت في جميع أنحاء العالم، وعملت في نيويورك، وحظيت بفرص رائعة كثيرة، وأثرت بصورة متواضعة هنا أو هناك فالشخص الواحد هو شخص واحد، ولذا أدين بالامتنان للفرص التي سنحت لي، ولكن حان الوقت الآن للتغيير والقيام بمهام جديدة، وهي في هذه الحالة التحدث بصراحة بشأن العقوبات والسياسة تجاه العراق وآثارها، فربما كان لى أثر متواضع على طريقة التفكير هنا وعلى السياسة المتبعة بهدف إعادة العراق إلى المجتمع العربي والدولي فهذا هو المستقبل.

طلال الحاج: ما هي خطتك للمستقبل القريب؟

دينيس هاليداي: توجه إلي الدعوات المتعددة لإلقاء الخطب في الجامعات والجمعيات المختلفة، وللحديث في شبكات التليفزيون، والإذاعات، وإجراء المقابلات، والاشتراك في البرامج أقوم بهذا لإيماني بأن المطلعين على الأمور في العراق من بيننا يجب عليهم التحدث بصراحة، وتوضيح الأمور لمن يريد أن يعرفها، ألقيت الخطب بشأن العراق في إيطاليا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وسويسرا، وقمت خلال شهر فبراير بجولة للحديث عن العراق في ولاية كاليفورنيا، وتكساس، وولايات المنطقة الوسطي، والساحل الشرقي للولايات المتحدة، قابلت جمعيات مختلفة، واشتركت في برامج إذاعية من أجل أن اشرح لرجل الشارع الأميركي ماذا يحدث في العراق الآن، وماذا تفعل الإدارة في واشنطن في العراق باسم المواطن الأميركي، يجب أن نذكر المواطن العادي في أميركا، أن المواطن العادي في العراق شبيه به تماماً، فالشعبان العراقي والأميركي متشابهان إلي حد كبير، لديهم نفس القيم، لديهم أسرهم وأطفالهم، لديهم هموم، واحتياجات حياتهم، هناك حاجة لزيادة تفهم المواطن الأميركي، مما سيؤدي إلى تعديل السياسة السيئة المتبعة التي يئن تحت وطأتها الشعب العراقي.

طلال الحاج: إذا أعطيتك الفرصة لمخاطبة كبار السن والنساء والأطفال في العراق فماذا ستقول؟

دينيس هاليداي: لا أدري ماذا سأقول، ولكن رسالتي إلى نساء وأطفال العراق هي أن ما على الإنسان إلا الرجوع إلى تاريخ هذا البلد لكي يكتشف صلابة وميزة الاعتماد على النفس التي يعرف بها العراقيون، أناشدهم المحافظة على شجاعتهم، والتمسك بالأمل بأن هذه المحنة ستنقضي يوماً ما كما تنقضي معظم الأمور، وفي التاريخ الطويل لبلد مثل العراق، ستتلاشى في يوم من الأيام صورة هذه الفترة السيئة جداً من العقوبات، آمل أن تحاول الأمهات اللاتي يؤثرن على تربية أطفالهن، أن يتعاملن مع الآثار السلبية للعقوبات في هذه الفترة من تاريخ العراق بحيث لا تؤدي إلى خلق التطرف والتعصب السياسي الخطر في البلاد.

طلال الحاج: My, dines halidey thank you very much and we wish you success in your career.

دينيس هاليداي: Thank you.

طلال الحاج: وهكذا مشاهدينا الكرام نأتي إلى نهاية هذه الحلقة من برنامج (لقاء اليوم) نشكر لكم حسن متابعتكم ونستودعكم، وحتى نلتقي ثانية نترككم في أمان الله.