الحدود الإستراتيجية لروسيا.. هل تخفي حربا أخرى بعد أوكرانيا؟

epa04194623 A Russian soldier sits on military vehicle in front of a Russian strategic ballistic missile Topol-M launching vehicle on Tverskaya street during a general rehearsal for a military parade in Moscow, Russia, 07 May 2014. The parade will take place on the Red Square on 09 May to commemorate the victory of the Soviet Union's Red Army over Nazi-Germany in WWII. EPA/SERGEI ILNITSKY
روسيا تمتلك إمكانيات عسكرية هائلة وترفض وجود حلف الناتو قرب حدودها (الأوروبية)

مع كل تحرك عسكري روسي، يتم في دول الغرب استحضار طرفة تعود إلى عام 2016 للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما قال أمام تجمع طلابي إن حدود بلاده لا نهاية لها.

وعلى نحو مستمر، يحذر مسؤولون في الغرب من أن الحرب الروسية قد لا تقف عند أوكرانيا.

وجاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول احتمال إرسال قوات برية غربية إلى أوكرانيا بصيغ غير واضحة ودقيقة لترفع منسوب التوتر في مواجهة روسيا.

وقد ترافق ذلك مع تسريب وسائل إعلام روسية تسجيلا صوتيا لمحادثات سرية بين ضباط من الجيش الألماني يناقشون الاحتمالات النظرية لاستخدام صواريخ تاوروس الألمانية في أوكرانيا وإصابة أهداف محددة.

وبعدها لم يتأخر الرد من سيد الكرملين نفسه، ففي "خطاب الأمة" السنوي حذر بوتين من مخاطر نشوب نزاع نووي مدمر للحضارة، ومن صواريخ قادرة على ضرب المدن الغربية.

لم يخل الخطاب أيضا من اتهامات للغرب بمحاولة زعزعة استقرار روسيا، وإضعافها من الداخل وجرها عمدا من قبل واشنطن إلى سباق تسلح.

حرب كلامية

ومنذ اندلاع النزاع في أوكرانيا فإن الحرب الكلامية بين موسكو والعواصم الغربية لا تتوقف، لكن على الأرض التطورات على الجبهات هي وحدها التي يمكن أن تنبئ بما قد يحدث في أي لحظة، لهذا تظل عيون العالم شاخصة على الحدود المحيطة بروسيا تحسبا لما قد يطرأ.

ويرى المحلل السياسي المتابع للشؤون الأوروبية رشدي الشياحي أن "نهاية الحرب لا تبدو قريبة. لقد حولت الحرب الأوكرانية اقتصادات بأكملها إلى إنتاج المواد الحربية، وضاعفت دول أخرى ميزانيات الدفاع لديها مثلما فعلت روسيا، وهذا من شأنه أن يطيل أمد الحرب وقد يجعلها تتوسع جغرافيا".

وفي حديث للجزيرة نت، قال الشياحي "لعل التسريب الذي نشرته وسائل إعلام روسية عن حديث بين قيادات عسكرية ألمانية لشن ضربات على أهداف محددة قد يُقرأ من طرف موسكو على أنه نية غربية مبيتة تنتظر ساعة الصفر لشن ضربات عسكرية استباقية، في الحين ذاته تريد أوروبا ومن خلفها واشنطن أن تثبت أنها كتلة فاعلة واحدة قادرة على حسم الحرب لصالح جهة معينة سواء من خلال دعمها العسكري لأوكرانيا أو من خلال تقليص تعاملات الطاقة مع روسيا".

حدود متوترة

تشترك روسيا عبر حدودها البرية -البالغ طولها أكثر من 20 ألف كيلومتر- مع 14 دولة من بينها 11 بلدا في قارة أوروبا و4 دول في قارة آسيا، لكن العلاقات ليست على الدرجة نفسها من الدفء مع جميع الدول، وهو ما لاحظته صحيفة "لوموند" الفرنسية في ملف نشر في الأسبوع الأخير من فبراير/شباط 2024.

ومع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، ضمت موسكو 5 مناطق جديدة إلى أراضيها، ومع ذلك ليس واضحا أين ستقف مطالبها الإقليمية، بينما تركز أوكرانيا على تعزيز خطوط دفاعاتها في المناطق الشمالية تحسبا لهجوم روسي جديد على كييف.

وعلى الحدود الدولية المعترف بها، تظل نقطة عبور واحدة قائمة بين البلدين في كولوتيلوفكا-بوكروفكا مخصصة لتبادل الأسرى وللأوكرانيين الراغبين في العودة إلى ديارهم. لكنها ليست في مأمن من المخاطر والاعتقالات.

تمثل الحدود مع فنلندا إحدى مفارقات الحرب الروسية في أوكرانيا، وفي حين شكلت أزمة توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) على أعتاب الأراضي الروسية أحد الأسباب الدافعة لتحرك موسكو العسكري، فإن ضم فنلندا إلى الحلف في خريف 2023 وضع روسيا أمام ما يفوق 1340 كيلومترا من الحدود البرية الإضافية مع الحلف، ليصبح طول الحدود المشتركة بين روسيا والناتو نحو 2630 كيلومترا بعد أن كانت 1290 كيلومترا قبل عملية الضم.

تدفق اللاجئين

اتخذت فنلندا وجارتها النرويج إجراءات على الحدود بسبب تدفق المهاجرين، حيث تتهم الدولتان موسكو بالسماح بمرور المهاجرين من دول المنشأ.

وبموازاة الحرب وفي مؤشر على التوتر القائم على الحدود، حركت موسكو تحقيقا في مزاعم ارتكاب هلسنكي إبادة جماعية خلال الحرب العالمية الثانية.

وفي جانب آخر من الحدود، وضعت الحرب على أوكرانيا دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا) في دائرة الضوء، خشية هواجس من مقترح روسي في منتصف 2022 بمراجعة الاعتراف بالاستقلال "غير القانوني" لهذه الدول عن موسكو عام 1991.

ووسط حذر كبير، عززت دول البلطيق الحراسة على حدودها، ووقعت اتفاقا لبناء خط دفاع مشترك في يناير/كانون الثاني 2024 تحسبا لزحف محتمل للجيش الروسي.

وفي خطوة عكست التحفظات الكبيرة لدول البلطيق من نوايا موسكو، لم يعد متاحا للروس الحاملين لتأشيرات شنغن السياحية الدخول إلى الدول الثلاث، بالإضافة إلى بولندا، منذ سبتمبر/أيلول 2022.

وفي تقرير صحيفة لوموند، يمثل الجيب الروسي "كالينينغراد" بؤرة توتر مستمرة على بحر البلطيق، وتنشر موسكو منذ 2014 رؤوسا نووية في الجيب في وقت وضع فيه الناتو أقدامه في دول البلطيق.

وينظر الجانبان إلى هذا الجيب بوصفه مصدر تهديد مستمر للمنطقة لطبيعة موقعه الجغرافي.

حدود الحلفاء

وعلى الجانب الآخر من حدودها، تتمتع موسكو بعلاقات مزدهرة مع حليفتها الوثيقة روسيا البيضاء، بالإضافة إلى أذربيجان وكوريا الشمالية والصين.

وتمثل هذه الدول حلفاء تقليديين لروسيا ليس على المستوى الاقتصادي فحسب حيث مثل بعضها ملاذا للالتفاف على عقوبات الغرب وإعادة تصدير السلع الأوروبية، ولكن أيضا على المستوى السياسي والتنسيق الدبلوماسي الذي يتجاوز الحرب في أوكرانيا إلى ملفات دولية أخرى.

وعلى سبيل المثال، نقلت صحيفة لوموند معلومات أوردتها مخابرات كوريا الجنوبية، تفيد بشحن نظام كوريا الشمالية ذخائر وعتادا إلى موسكو عبر حوالي ألفي حاوية عن طريق البر والبحر.

وسبق أن كشفت كييف رصد صواريخ وطائرات مسيرة من صنع كوريا الشمالية استخدمها الجيش الروسي في الحرب.

علاقات متضاربة

تمثل جورجيا التي تضم عددا كبيرا من المعارضين الروس في المنفى، منطقة مثالية للنزاع على النفوذ بين الروس والغرب، فمن جهة أصبح البلد منذ 2023 مرشحا رسميا لعضوية الاتحاد الأوروبي، ومن جهة ثانية حققت الحكومة في تبليسي منذ 2022 تقاربا لافتا مع موسكو وقعت ترجمته عبر بعض الإجراءات، كإعادة الرحلات الجوية بين البلدين في مايو/أيار 2023 بعد انقطاع دام 4 سنوات، وإلغاء موسكو التأشيرة عن مواطني جورجيا.

ترى لوموند أن العلاقات المعقدة بين تبليسي وموسكو تظل رهينة الوضع في إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الانفصاليين واللذين اعترفت روسيا باستقلالهما في 2008.

أما في كازاخستان، فهناك تتنامى النزعة الوطنية والثقافية ومحاولات النأي بالبلد عن المظلة الروسية. وتبدو العلاقة مع موسكو متضاربة بالفعل.

يضم البلد أقلية روسية معتبرة وعددا كبيرا أيضا من الروس الفارين من التعبئة العسكرية. وقد انتقد الرئيس قاسم جومارت توكاييف صراحة عمليات الضم الروسية لأراض أوكرانية، وأدانت أستانا مواطنيها الذين التحقوا بالجيش الروسي في الحرب. ولكن في الوقت نفسه يحتفظ البلد بسياسة الحياد الرسمية.

ولا يختلف الوضع كثيرا بالنسبة لمنغوليا التي صدرت عنها انتقادات لاذعة لموسكو جاءت على لسان رئيسها الأسبق تساخياجين أدلبورج حينما كتب على منصة إكس "منغوليا وريثة إمبراطورية جنكيز خان يمكن أن تكون لها أيضا مطالب إقليمية".

لكن وفق تحليل لوموند، لا يمكن أن تذهب منغوليا أبعد من ذلك في التعاطي مع موسكو لجهة أنها تعتمد كثيرا على المنتجات الروسية في أسواقها وعلى فوائد عبور السلع الروسية عبر أراضيها إلى الصين.

ويفسر ذلك امتناع منغوليا عن المشاركة في تصويت الأمم المتحدة في مارس/آذار 2022 بشأن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.

حدود إستراتيجية

وفي حين تعرب الدول الغربية عن هواجسها بشأن تمدد محتمل لروسيا قد يطال أراضي التكتل الأوروبي، جاءت تصريحات ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي لتعيد تسليط الضوء على مفهوم "الحدود الإستراتيجية" لروسيا، وفق ما نقلت وكالة سبوتنيك الروسية.

قال ميدفيديف "إنه سيتعين على الجميع أن يحسبوا حساب الحدود الإستراتيجية لروسيا، سواء أرادوا ذلك أم لا، فإن موسكو لن تتراجع عن ذلك"، مضيفا "هذا جزء من هويتنا الأساسية، والمبادئ الأساسية لسياستنا الخارجية لعقود من الزمن".

وأشار المسؤول الروسي إلى أن الحدود الإستراتيجية للدول أوسع من الحدود الجغرافية، مؤكدا أنه "إذا زادت إمكانات أي بلد على مدى فترة طويلة من الزمن، فإن سيادة الدولة تتعزز، وتتوسع حدودها الإستراتيجية، ويمكن بعد ذلك رسم الحدود الجغرافية لها بعد حدوثها".

في كل الحالات يصعب تصنيف تلك الإشارات كتهديدات مبطنة. ولكن يحذر خبراء من قناعات راسخة في روسيا بأن الغرب في موقف ضعيف، مما يرفع من إمكانية الصدام مع التكتل الأوروبي الذي يمثل الخط الأول للمواجهة.

ويرى المحلل رشدي الشياحي المقيم في ألمانيا أن "أي حرب قد تندلع بين الغرب وروسيا لا يمكن التنبؤ بتداعياتها أو بمن سيربح. يعتمد ذلك على مجموعة من العوامل مثل القوة والخبرة العسكريتين والتحالفات الدولية والدعم الشعبي والقدرة على التحمل الاقتصادي والعسكري. إضافة إلى ذلك يجب أن ندرك أن الحروب الحديثة غالبا ما تكون معقدة وتعتمد بالإضافة إلى القوة العسكرية على استخدام الحروب الإلكترونية والاقتصادية والإعلامية وغيرها من الأدوات".

غرب ضعيف

المؤرخة الفرنسية فرانسواز توم، مؤلفة كتاب "بوتين أو الهوس بالقوة"، تقول في مقال لها بصحيفة "لاكروا" إن الرئيس الروسي أدرك منذ الحرب الروسية في جورجيا عام 2008 أن الغرب ضعيف، ليس بسبب عدم الرد على فصل إقليمين انفصاليين عن أراضي جورجيا وسيادتها عليهما فسحب، ولكن أيضا مع تبني الغرب طواعية سياسة "إعادة الضبط" والدخول في اتفاق "شراكة وتحديث" مع موسكو، مما مكن روسيا من بذل جهود هائلة في إعادة التسلح بما في ذلك إعادة تطوير ستة أسلحة مدمرة أعلن عنها بوتين قادرة على ضرب أي هدف بجميع دول حلف الناتو.

وتستحضر المؤرخة في مقالها محادثة بين بوتين وزعيم الحزب الليبرالي غريغوري يافلينسكي إبان انتخابات مارس/آذار 2018 بشأن ما إذا كانت روسيا قريبة من الحرب، ليجيب سيد الكرملين قائلا "نعم وسنفوز بها".

لكن ليس واضحا ما إذا كان الأمر يتعلق بحرب أوكرانيا والتي اندلعت بعد أربعة أعوام من تلك المحادثة، أو ما بعد أوكرانيا في مرحلة لاحقة.

ويقول الشياحي "من غير الممكن تحديد الطرف الأقوى أو الأضعف لأي مواجهة محتملة، أو تقديم أي توقع دقيق بشأن نتائج أي نزاع مباشر بين روسيا والغرب، لكن من المؤكد أن النتائج ستكون كارثية على العالم بأسره".

المصدر : الجزيرة