من ماعز الأفغان إلى بيض الأوكران.. الحرب تفتح شهية الفساد

بعد عامين على عودة طالبان، أفغانستان في المرتبة الـ150 بمؤشر الشفافية الدولية مقارنة بالمرتبة 174 عام 2021 (الأوروبية- أرشيف)

يوم 13 سبتمبر/أيلول 2021 بعد مرور أقل من شهر على الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان، الذي انتهى 30 أغسطس/آب 2021، نشر معهد واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون -إحدى أعرق الجامعات في الولايات المتحدة- تقريرا تحت عنوان "أرباح الحرب.. الشركات المستفيدة من فترة ما بعد أحداث 11سبتمبر/أيلول 2001".

جاء في التقرير أن إجمالي إنفاق وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بلغ أكثر من 14 تريليون دولار، منذ بداية الحرب الأميركية في أفغانستان، إذ ذهب ما بين ثلث إلى نصف هذا المبلغ إلى مقاولي الدفاع. وحققت هذه الشركات أرباحا واسعة النطاق.

وحسب التقرير، ذهب ثلث عقود البنتاغون إلى 5 شركات دفاعية كبرى، هي لوكهيد مارتن، وبوينغ، وجنرال دايناميكس، ورايثيون، ونورثروب غرومان.

كما يذكر أن عقود البنتاغون البالغة 75 مليار دولار التي تلقتها شركة لوكهيد مارتن في السنة المالية 2020 تزيد مرة ونصف على إجمالي ميزانية وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية لعام 2020، التي بلغ مجموعها 44 مليار دولار.

ويستعرض التقرير المفصل عن تلك المرحلة "أرباحا أخرى مشكوكا فيها، أو فاسدة، ناتجة عن الممارسات التجارية التي ترقى إلى مستوى الهدر، أو الاحتيال، وإساءة الاستخدام، أو التلاعب بالأسعار، أو التربح"، موضحا أنه في عام 2011 قدرت لجنة "التعاقدات في زمن الحرب في العراق وأفغانستان" قيمة الهدر والاحتيال وسوء الاستخدام ما بين 31 و60 مليار دولار.

تاجر عملة أفغاني في العاصمة كابل (الأوروبية)

فتش في المطابخ

من أطرف الأمثلة التي يستشهد بها معدو التقرير والتي تكشف عن حجم الفساد في توظيف تلك الأموال في زمن الحرب مشروع بقيمة 7.5 ملايين دولار لـ"تعزيز مبيعات السجاد في البلاد"، تحت بند "إعادة الإعمار" في أفغانستان -الذي أنفقت الولايات المتحدة فيه 146 مليار دولار، كما تم إنفاق أكثر من 6 ملايين دولار بين عامي 2012 و2014 على شراء وشحن 9 عنزات من إيطاليا إلى هيرات في أفغانستان، وبناء مزرعة لهذا الغرض.

لم تراقب البنتاغون أو فريق العمل البرنامج لمعرفة عدد الوظائف التي وفرها، أو كمية الصوف التي تم إنتاجها، وحتى الآن لا يعرف أحد مصير تلك العنزات الثمان وتاسعها تيسها.

وغالب الظن أنها وجدت طريقها إلى مطابخ من استوردوها لإعداد صواني "البرياني" أو "الكابولي بالاو" (أحد أشهر الأكلات الأفغانية)، هذا إن كانوا استوردوها حقا، والاحتمال الثاني أنها ظلت عنزات من ورق لم تغادر الفاتورة، ولم يتضح بعد سبب اختيار إيطاليا تحديدا لشراء ماعز من هناك، وما الذي يميز عنزات وتيوس إيطاليا عن نظيراتها في أفغانستان، حيث لا يتعدى سعر الواحد 60 دولارا.

كان ما يسمى "برنامج دعم الكشمير" في أفغانستان مجرد مثال واحد على التكاليف الباهظة وغير الضرورية التي تكبدتها فرقة العمل المعنية بعمليات استقرار الأعمال (TFBSO)، وهي وكالة تابعة لوزارة الدفاع الأميركية أنفقت نحو 800 مليون دولار لمحاولة تحفيز الاقتصاد الأفغاني.

ويحصي تقرير مفصل للمفتش العام عن إعادة إعمار أفغانستان قائمة طويلة من المشاريع التي غرقت في الفساد أيضا خلال 20 عاما من الوجود الأميركي في ذلك البلد، ومنها مشروع منشأة لتخزين الفواكه والخضروات للمزارعين بقيمة 3 ملايين دولار، ولم تُستخدم مطلقا، كذلك إنفاق 43 مليون دولار على محطة وقود الغاز الطبيعي في بلدة شبرغان عاصمة مقاطعة جوزجان (شمال أفغانستان)، وكان من المفترض أن تتكلف 500 ألف دولار فقط.

الإمدادات اللوجستية للجيش الأوكراني لم تسلم من الفساد (الأوروبية)

بيض الأوكران

النماذج السابقة للفساد في زمن الحرب في أفغانستان تتكرر بصيغة أخرى في أوكرانيا بعد الحرب المفتوحة التي شنتها روسيا عليها يوم 24 فبراير/شباط 2022، وإن اختلف الحجم والتفاصيل، وما رشح منها وما لم يكشف عنه بعد، لكن يظل القاسم المشترك هو التدفقات المالية الأميركية والغربية على البلدين، أفغانستان قبل الخروج الأميركي، وأوكرانيا في ظل الحرب الروسية.

ومن أطرف حالات الفساد في أوكرانيا -ذلك البلد الغني بموارده الزراعية، وإحدى الدول الرائدة في مجال تصدير الحبوب واللحوم والزيوت ومشتقات الألبان- توريد بيض للجيش الأوكراني بأسعار باهظة.

وحسب تقرير نشرته صحيفة "دزيركالو تيزنيا" الأوكرانية، قيّد موردو الأغذية للجيش سعر البيضة الواحدة بـ17 هريفنيا، أي نحو نصف دولار أميركي، وهو سعر أعلى بكثير من الأسعار السائدة في السوق الأوكراني.

لا يتعدى سعر دزينة البيض (12 بيضة) دولارين بأي حال، والمفترض أن يتم توريده إلى الجيش بسعر أقل لاعتبارات كثيرة منها التفضيل وسعر الجملة، والأغرب أن المورد قدم تبريرا غير مفهوم لسعر البيض، قائلا إنه احتسبه بالكيلو وليس بالحبة.

وامتد تلاعُب الموردين من البيض إلى الفاصوليا، حسب الصحيفة الأوكرانية التي ذكرت أنه تم شراء فاصوليا معلبة من تركيا بأكثر من السعر المعروض في المحلات التجارية الأوكرانية، على الرغم من أنه من المفترض أن يشتري الجيش بأسعار أقل من أسعار التجزئة.

وإلى جانب الفساد الذي طال أسعار البيض والفاصوليا التركية المعلبة، تأتي أيضا السترات العسكرية الشتوية التي تم استيرادها من تركيا وظهرت رداءتها لاحقا، رغم تقييدها بسعر باهظ لا تستحقه، إذ تبين أنها غير مبطنة بشكل كافٍ لتناسب لفصل الشتاء القارس في أوكرانيا.

وبعد الكشف عن حالات الفساد تلك في يناير/كانون الثاني الماضي، استقال فياتشيسلاف شابوفالوف، نائب وزير الدفاع الأوكراني، وهو المسؤول عن الخدمات اللوجستية للجيش التي تشمل إمداد القوات بالأغذية والمعدات.

وفي الشهر نفسه، تم عزل نائب المدعي العام الأوكراني أوليكسي سيمونينكو من منصبه، ومايو/أيار الماضي أعلنت النيابة العامة لمكافحة الفساد الأوكرانية توقيف رئيس المحكمة العليا الأوكرانية فسيفولود كنيازيف في قضية فساد بقيمة 2.7 مليون دولار.

ونهاية يوليو/تموز الماضي، أعلنت السلطات الأوكرانية اعتقال ليفين بوريسوف المفوض السابق في الجيش الذي كان مكلفا بعملية التعبئة في أوديسا، للاشتباه في أنه اشترى فيلا في إسبانيا بـ4 ملايين يورو خلال وقت الحرب.

ومع ذلك، فإن هذا لا يمثل سوى حالة واحدة من الحالات العديدة التي ظهرت الأشهر الأخيرة. وكشف وكيل وزارة الدفاع أولكسندر بافلوك -في بيان صدر يوم 26 يوليو/تموز الماضي- عن أن المجموعة المخصصة للتحقيق في هذه الكيانات سجلت 2300 تقرير يغطي مجموعة متنوعة من الشكاوى.

وأغسطس/آب الماضي، أقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كافة المسؤولين عن مراكز التجنيد الإقليمية في البلاد بعد أن أصبحت مركزًا لفضائح الفساد، حيث اتُهم كبار المسؤولين بقبول رشاوي من أفراد يسعون إلى تجنب التجنيد الإجباري أو إرسالهم إلى الخطوط الأمامية.

وجاءت تلك الخطوة في إطار محاربة فساد مستشر على هذا الصعيد ويستغله مجندّون للفرار من الخدمة. وقال زيلينسكي -عبر قناته على تطبيق تليغرام- "يجب أن يدير النظام أشخاص يعرفون بالضبط ما هي الحرب ولماذا تُعتبر السخرية والرشوة في زمن الحرب خيانة".

زيلينسكي تعهد بمكافحة الفساد (غيتي)

الكوميدي المحارب

حتى انتخابه رئيسا لأوكرانيا في أبريل/نيسان 2019، كانت السيرة الذاتية لزيلينسكي خالية من أي خبرة سياسية سابقة، ولا تعدو كونه مقدم برامج هزلية محلية في تلفزيون بلاده، لعب فيها دور مدرس ثانوي تولى منصب الرئيس، محققا شعبية مكّنته من تسجيل سابقة انتخابية.

ومن المفارقات أن انتخاب زيلينسكي رئيسا لأوكرانيا جاء على خلفية الدعوة لمحاربة الفساد في دولة سبق أن اعتبرتها صحيفة غارديان البريطانية "الأكثر فسادًا في أوروبا"، منذ تفكك الاتحاد السوفياتي. وجاء انتخابه بعد أن سئم الشعب الأوكراني رؤية السياسيين غير العابئين بمشاكله ومشاكل البلاد.

وبعد الحرب الروسية على بلاده، تحول زيلينسكي من رئيس "خفيف الوزن" إلى أكثر رؤساء العالم حضورا وحديثا، مستفيدا من خبراته التمثيلية السابقة، كما أصبحت أوكرانيا تحتل المرتبة 116 من بين 180 دولة في أحدث مؤشر لمدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.

الحرب ضد الفساد التي وعد بها زيلينسكي ضرورية لضمان ثقة الشركاء الغربيين الذين خططوا لاستثمار عشرات المليارات من الدولارات في إعادة بناء البلاد خلال السنوات المقبلة، كما أنها وضرورية أيضا لتحقيق الهدف الطويل الأجل المتمثل في العضوية النهائية في الاتحاد الأوروبي، إذ تعتبر محاربة الفساد المستشري في أوكرانيا أحد شروط الاتحاد الأوروبي للحفاظ على ترشح كييف لعضوية التكتل.

عمائم وتحديات

وإذا كانت مكافحة الفساد أحد العناصر التي دفعت بممثل كوميدي سابق إلى سدة الرئاسة في أوكرانيا، فقد سبق وكانت أيضا أحد الأسباب لتأسيس حركة طالبان في أفغانستان عام 1994، فقامت حينئذ بما يمكن تسميته ثورة تصحيح لمسار فرقاء الجهاد السابقين الذين اشتعلت الحرب بينهم عقب سيطرتهم على العاصمة الأفغانية كابل أبريل/نيسان1992، وأفرز هذا الصراع فسادا من نوع جديد كان رموزه أمراء الحرب المفتونين بما لديهم من سلاح.

مكنت الدعوة لمحاربة الفساد حركة طالبان من السيطرة على البلاد والعاصمة كابل في طبعتها الأولى (1996ـ2001)، كما كان استشراء الفساد في ظل الحكومات التي أعقبت الإطاحة بطالبان، والتي كانت مدعومة من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أحد الأسباب في سرعة انهيار آخر حكومة بعد الانسحاب الأميركي، وهروب الرئيس أشرف غني حاملا معه حقائب مليئة بـ160 مليون دولار.

وعقب الانسحاب الأميركي المفاجئ من أفغانستان قبل عامين تمت الإطاحة وبسرعة وسهولة بالحكومة الأفغانية المدعومة أميركيا على يد حركة طالبان التي يشهد لها باحثون غربيون -منهم فاندا فيلباب براون الباحثة في معهد بروكينغز- بأنها "على النقيض من الحكومات السابقة المدعومة من المجتمع الدولي، فإن طالبان لم تكن فاسدة".

ويرجع ماليز داود -زميل باحث في مركز برشلونة للشؤون الدولية- ذلك إلى أن القائد الأعلى لطالبان والمقربين منه أكثر ميلا إلى التركيز على مكافحة الفساد، سواء المعنوي أو المادي، وأنهم نادرا ما يتحدثون عن الملذات الدنيوية.

ظلت حكومات أفغانستان تصنف باستمرار بين الحكومات العشر الأكثر فسادا في العالم، لكن بعد عامين من عودة طالبان تغيّر الوضع. ففي 31 يناير/كانون ثاني الماضي، أصدرت منظمة الشفافية الدولية (منظمة غير حكومية لمراقبة الفساد ومقرها برلين) أحدث مؤشر سنوي لمدركات الفساد، حيث احتلت أفغانستان المرتبة 150، وهو تحسن ملحوظ مقارنة بالمرتبة 174 عام 2021.

ففي عام 2011 وفي ذروة الكثافة العسكرية والتدفقات المالية الأميركية على أفغانستان، احتلت البلاد المرتبة 180، إلى جانب كوريا الشمالية والصومال.

يقول الباحث البارز في المعهد الأميركي للسلام وليام بيرد "لقد أثبتت حركة طالبان قدرتها على الحد بشكل كبير من الفساد في الجمارك وعند نقاط التفتيش على الطرق"، مضيفا أن مكافحة الفساد "وفّرت شريان الحياة المالي لنظام طالبان المعزول الذي يواجه عقوبات اقتصادية ومصرفية دولية معوقة".

لوبي السلاح

يعرّف الخبراء الفساد بأنه "إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة أو سياسية"، ويؤكدون أن الصراعات والحروب تزيد احتمالات إساءة استخدام السلطة العامة، إذ تصبح المساءلة العامة أمرا بالغ الصعوبة، ومن ثم تتاح الظروف المثالية للفساد.

من جهته، يقول مدير الأبحاث في مركز أفريقيا للدراسات الإستراتيجية بجامعة الدفاع الوطني جوزيف سيغل إن "هناك علاقة قوية جدا بين الفساد والحرب. ونصف البلدان التي تقع في الربع الأدنى من قائمة مؤشر مدركات الفساد الأخير الصادر عن منظمة الشفافية الدولية تعاني صراعات".

أما سوزان روز أكرمان، أستاذة القانون والعلوم السياسية الفخرية في جامعة ييل، فترى أن "البلدان التي لديها مستويات أعلى من الفساد أكثر عرضة للصراعات، حيث يخلق الفساد مناخا جاذبا للجرائم والنزاعات".

وحول علاقة صناعة السلاح بالصراع والحروب والفساد، ينبه أستاذ الأنثروبولوجيا في الجامعة الأميركية ديفيد فاين إلى أن "الإنفاق العسكري والحروب لا يغذيان إلا قوة المجمع الصناعي العسكري"، ويذكر بأن "التربح من الحرب… والشركات والأفراد الذين يكسبون المال من الحرب ويزيدون قوتهم من خلال الحروب أنماط قديمة في جميع أنحاء العالم".

أكثر ما يستدعي التأمل والوقوف عنده في تصريحات عالم الأنثروبولوجيا الأميركي قوله "إن المجمع الصناعي العسكري الأميركي مصمم لإبقاء الولايات المتحدة في حروب مستمرة في جميع أنحاء العالم". وكلما استمرت الصراعات والحروب استمر الفساد.

المصدر : الجزيرة