ماذا بقي من الدين في بريطانيا العلمانية؟ انتقال العرش يثير أسئلة عن هوية البلاد ومستقبلها

The scene inside Westminster Abbey during the Coronation of Queen Elizabeth II, 2nd June 1953. (Photo by Hulton Archive/Getty Images)
تتويج الملكة الراحلة إليزابيث الثانية في كنيسة وستمنستر في يونيو/حزيران 1953 (غيتي)

قلة قليلة من سكان العالم اليوم هم من عاصروا تتويج ملكة بريطانيا الراحلة إليزابيث الثانية في أوائل خمسينيات القرن الماضي، ولذلك فإن صعود ملك جديد إلى عرش المملكة المتحدة يلفت أنظار الأجيال الجديدة بما يحمله من رموز وحمولات دينية تذكّر البلاد بإرثها وتقاليدها الكنسية، وتثير الأسئلة بشأن معاني ذلك كله في حاضر بريطانيا العلمانية ومستقبلها.

وعندما يحين وقت تتويج نجلها الملك تشارلز الثالث -في مراسم لم يعلن موعدها بعد لأن فترة الحداد قد تستمر بضعة أشهر- يُنتظر حينئذ، وفق ما تمليه التقاليد الملكية، أن يقوم كبير أساقفة كانتربري بمسح الملك بـ"الزيت المقدس" ومباركته.

يجري ذلك في مراسم خاصة داخل كنيسة وستمنستر، التي شهدت تتويج كل ملوك بريطانيا منذ عام 1066م في احتفال ديني يضفي القداسة على الملك الجديد، الذي يحمل لقبي "حامي العقيدة" و"الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا".

ومن بين واجبات الملك أن يقوم -بعد مشورة رئيس الوزراء- بتعيين الكهنة الجدد في كنيسة إنجلترا وكذلك الأساقفة وكبار الأساقفة، الذين يحلفون له يمين الولاء.

وتقول الجمعية الوطنية العلمانية -التي تأسست عام 1866 في بريطانيا- إن المملكة المتحدة هي الديمقراطية الوحيدة التي تقيم مراسم مسيحية صريحة بهذه الدرجة عند تنصيب رأس الدولة، حيث يتعهد الملك بتطبيق "قوانين الرب".

وتضيف الجمعية -عبر موقعها الإلكتروني- أن هذه المراسم تتضمن "إيحاءات طائفية معادية للكاثوليك"، فضلا عن أن قوانين المملكة تنص صراحة على منع الكاثوليك من اعتلاء العرش.

وتعود الصيغة الحالية للعلاقة بين الملك والكنيسة إلى القرنين الـ16 والـ17، حين نشأت الأنجليكانية باعتبارها فرعا رئيسيا للإصلاح البروتستانتي، وفي الوقت نفسه نسخة خاصة من المسيحية تجمع خصائص من البروتستانتية والكاثوليكية في آن واحد.

وتعد كنيسة إنجلترا الكنيسة الأم للطوائف الأنجليكانية حول العالم، التي تفرعت وتنوعت مناهجها وطقوسها، لكنها تشترك في الحفاظ على استقلاليتها وتميزها عن الكنيسة الكاثوليكية.

ناشطون علمانيون أثناء مظاهرة سابقة في لندن للاحتجاج على زيارة بابا الفاتيكان (الأوروبية)

بريطانيا العلمانية

وتبدو المفارقة واضحة بين هذا الإرث الكنسي والتقاليد الدينية التي تحرص بريطانيا الملكية على اتباعها، وبين الواقع العلماني في بلد يصنف بأنه من بين "أقل البلاد تدينا في العالم"، وفقا لمسح أجراه معهد غالوب الأميركي عام 2014.

وحسب آخر بيانات متاحة من جانب كنيسة إنجلترا عام 2019، فقد بلغ متوسط عدد المشاركين في صلوات يوم الأحد بكنائس البلاد حوالي 600 ألف شخص بالغ، أي أقل من 1% من مجموع السكان، وكانت أعمار ثلث أولئك المشاركين 70 عاما أو أكثر.

سجال دائم

وعلى الرغم من العلمانية المكرسة في بريطانيا، حيث ما من دور فعال للدين في المجال العام، فإن النقاش لا يتوقف بشأن حدود العلاقة بين الدين والدولة، وحول تأثير الدين في مختلف نواحي الحياة لدى البريطانيين.

وخلال السنوات الماضية، تكرر استدعاء الدين في النقاشات العامة والسياسية، تارة في سياق الحديث عن هوية البلاد و"الخطر" الذي يحدق بها جراء الهجرات، وتارة عند الحديث عن المؤسسات والمدارس الدينية واستقلاليتها، وتارة أخرى لتقديم مسوغات لقرارات كبرى مسّت حياة ملايين البشر.

فقد ألمح رئيس وزراء بريطانيا الأسبق توني بلير -الذي تحوّل من الأنغليكانية إلى الكاثوليكية بعد مغادرته داونينغ ستريت- إلى أنه شعر بأن الرب ألهمه عند اتخاذ قراره بإرسال القوات البريطانية لتشارك حليفتها الأميركية في غزو العراق عام 2003، وذلك في تصريحاته خلال لقاء تلفزيوني في مارس/آذار 2006.

وفي مذكراته المنشورة بعنوان "رحلة" (A Journey)، تحدث بلير -الذي كان زعيما لحزب العمال- عن نشأته الدينية، وقال إنه كان في الماضي مهتما بالدين أكثر من السياسة. كما أن الصحافة البريطانية نقلت عن أحد أقرب حلفائه قوله إن بلير كان يرى قراراته لخوض الحرب في العراق وكوسوفو جزءا من "معركة مسيحية".

بلير ترك كنيسة إنجلترا وتحوّل إلى الكاثوليكية (الأوروبية-أرشيف)

وتجدد جدل الدين والهوية مرة أخرى عام 2014، حين كتب رئيس الوزراء آنذاك ديفيد كاميرون، في مقال، أن مواطني المملكة المتحدة "عليهم أن يكونوا أكثر ثقة في وضعنا بصفتنا بلدا مسيحيا".

وقال كاميرون -الذي كان زعيما لحزب المحافظين- إنه يود أن يرى دورا أكبر للدين في بريطانيا باعتبارها بلدا مسيحيا، وهي تصريحات جاءت في سياق تحسين العلاقة بين ائتلافه الحاكم آنذاك وبين الكنيسة عقب خلافات عدة على خلفية تخفيض تمويلات اجتماعية وقرارات تهدف لإجازة زواج المثليين.

في المقابل، كان السياسي الملحد نيك كليغ نائب رئيس الوزراء وشريك حزب كاميرون في الائتلاف الحاكم، يؤكد أن الكنيسة ستكون في وضع أفضل يمكّنها من خدمة مصالحها ومصالح البلاد إذا انفصلت عن مؤسسة الدولة.

وفي غمرة هذا السجال أيضا، نشرت مجموعة من 50 شخصية عامة خطابا مفتوحا يؤكدون فيه أن المجتمع البريطاني "لا ديني".

مواقف تجاه الإسلام

ويمتد هذا الجدال إلى مكونات أخرى في المجتمع البريطاني، ومن بينهم المسلمون، الذين يزيد عددهم على 3.3 ملايين نسمة في إنجلترا وويلز ويشكلون نحو 5.7% من مجموع السكان هناك، وفقا لآخر إحصاء نشره مكتب الإحصاءات الوطني ويرجع لعام 2019.

ويشير الكاتبان بيتر أوبورن وعمران ملا في مقال بموقع "ميدل إيست آي" (Middle East Eye) إلى أن صعود تشارلز إلى عرش بريطانيا تزامن مع تسلم ليز تراس مهامها رئيسة للوزراء في حكومة قد تعد من أشد الحكومات معاداة للإسلام في تاريخ البلاد.

وأضاف الكاتبان أن هذه الحكومة ترفض التعامل مع أكبر كيان ممثل للمسلمين البريطانيين، كما أنها متهمة بمعاملة المسلمين وكأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، وهي الحكومة نفسها التي أقالت وزيرة لأنها "بكونها مسلمة ضمن أعضاء الحكومة سببت شعورا بعدم الارتياح لدى زملائها".

ولذلك فلا غرابة أن يكون أكثر من نصف أعضاء حزب المحافظين الحاكم ممن يؤمنون بنظريات مؤامرة بشأن الإسلام في بريطانيا، وفقا للمقال.

دين تشارلز

بينما تعقد المقارنات بين دور الملكة الراحلة وتأثيرها في الوجدان البريطاني وبين النصيب المتوقع لوريثها من ذلك -ولا سيما وسط هواجس حول مستقبل النظام الملكي وبقاء الكومنولوث- ينظر إلى تشارلز باعتباره شخصية متفردة بين ملوك بريطانيا.

فقد ألمح صحفيون وكتاب بريطانيون إلى طبيعة الملك تشارلز الخاصة، وكيف أنه قد يكون أقل حرصا من أسلافه على رعاية التقاليد الكنسية بحذافيرها، وأكثر اهتماما بالانفتاح على الثقافات الأخرى وتقديم نفسه باعتباره راعيا "للتنوع"، وهي كلمة دأب على ترديدها في خطاباته ومقابلاته مع الإعلام.

وفي أول خطاباته إلى الأمة بعد يوم من وفاة الملكة، تحدث تشارلز الثالث عن إيمانه الشخصي وكيف أنه يلهمه للقيام بدوره القيادي، كما تطرق إلى مسؤوليته عن كنيسة إنجلترا التي قال إن إيمانه متجذر فيها.

لكنه بعد أسبوع واحد من هذا الخطاب وقبل إقامة جنازة الملكة، استقبل تشارلز في قصر باكنغهام حوالي 30 من قادة وممثلي مختلف الطوائف الدينية في بريطانيا، إذ أعرب لهم عن حرصه على أداء "واجب إضافي" للملكية ليست له الدرجة نفسها من الاعتراف الرسمي، حسب قوله.

إنه واجب "حماية تنوع بلادنا، بحماية فضاء الإيمان نفسه وممارسته في شتى الأديان والثقافات والتقاليد والمعتقدات"، على حد تعبيره.

وفي هذا السياق، استذكرت تقارير بالصحافة البريطانية آراء تشارلز ومواقفه السابقة، إذ طالما رفض التسليم بـ"صراع الحضارات"، ودعا إلى بناء جسور بين الغرب والإسلام، وأقبل على تعلم اللغة العربية حتى يفهم القرآن الكريم بشكل أفضل.

وتحدث تشارلز عن حاجة الغرب لفهم الإسلام فهما عميقا، ولا سيما في خطاب ألقاه في أكتوبر/تشرين الأول 1993 في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية.

فقد قال إنه "إذا كان ثمة الكثير من سوء الفهم في الغرب حول طبيعة الإسلام، فهناك أيضا الكثير من الجهل بما تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي". ووصف هذه الحالة بأنها "فشل ينبع -كما أعتقد- من قيود التاريخ التي ورثناها".

وقال إن الإسلام "حافظ على نظرة غيبية تؤلف ما بين أنفسنا والعالم من حولنا"، وهو ما فقده الغرب بعد الثورة العلمية، حسب رأيه.

وخلال العقود الماضية، أعرب تشارلز في مناسبات عديدة عن الامتنان لإسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية والنهضة الأوروبية، كما كشف عن معرفته بجوانب شتى من الشريعة الإسلامية، داعيا للاستفادة من أحكامها في مجالات الاقتصاد وحماية البيئة وغيرها.

وقال تشارلز إن الإسلام يمتلك "أحد أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية المتاحة للبشرية"، وهو تراث قال إنه حُجب بسبب التوجه نحو "المادية الغربية".

Queen Elizabeth II Receives The Archbishop Of Canterbury
الملكة الراحلة إليزابيث مع جاستن ويلبي كبير أساقفة كانتربري (غيتي-أرشيف)

دين الملكة الراحلة

وهكذا، يختلف الملك الجديد عن أمه الراحلة في طريقة التعبير عن رؤيته الدينية. فمع أنه يضاهي والدته في المواظبة على الصلاة في الكنيسة وفي إعلان اعتزازه بانتمائه المسيحي، فإنه طالما تحدث بنبرة مختلفة عن علاقة الملكية بالكنيسة.

فقد أشار مقال بصحيفة "واشنطن بوست" (The Washington Post) إلى قول تشارلز -خلال مقابلة أجراها عام 2015- إن الملك مع كونه "حامي العقيدة" يمكنه أن يكون أيضا "حامي العقائد".

وكان تشارلز بهذه الكلمات يوضح تصريحات مثيرة للجدل قالها عام 1994 وبدا فيها أنه يشجع التنوع الديني في بريطانيا ويرفض النزوع نحو تقديم رؤية دينية واحدة على ما سواها، قائلا إن الناس "تصارعت حتى الموت على مثل هذه الأمور.. وهذا إهدار عجيب لطاقات البشر".

أما والدته الملكة إليزابيث فكانت محافظة في التعبير عن عقيدتها المسيحية، وقد وُصفت أحيانا بأنها "آخر المؤمنين الصادقين"، كما قال الصحفي البريطاني المخضرم ستيفن بيتس في حديث لواشنطن بوست، إذ يرى أن إليزابيث كانت أكثر الملوك تدينا منذ الإصلاح البروتستانتي في القرن الـ16.

وعندما توجت عام 1953 ومسحها كبير أساقفة كانتربري بـ"الزيت المقدس"، تعهدت الملكة الراحلة بألا تحكم بالقوانين البريطانية فقط وإنما بـ"قوانين الرب" أيضا بصفتها "حامية العقيدة" و"الحاكمة العليا لكنيسة إنجلترا".

لكن مثل تلك الكلمات التي تبين التمسك بالتقاليد الكنسية في المملكة، قد لا تجد صدى بين فئات من البريطانيين اليوم، باتوا إما في قطيعة مع الدين بكافة مظاهره ومقتضياته، وإما في سعي من أجل إلغاء الملكية الدستورية وإعلان جمهورية علمانية خالصة.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية + الصحافة البريطانية