مقتدى الصدر.. من مطلوب حيا أو ميتا من الأميركيين إلى الشخصية السياسية الأبرز بالعراق

رغم المخاطر، لم يفر الصدر قط من العراق على عكس شخصيات بارزة أخرى في حكومات ما بعد سقوط صدام كانت قد عادت من إيران ومن الغرب بعد الغزو الأميركي عام 2003

مقتدى الصدر خلط الأوراق السياسية بالعراق بعد انسحاب نوابه من البرلمان (رويترز)

عاد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى واجهة الأحداث بعد استقالة نوابه من البرلمان استجابة لطلبه، الأمر الذي خلط الأوراق السياسية في العراق، لما يملكه من نفوذ كبير لدرجة أن بعض المحللين يصفونه بأنه أقوى شخصية في البلاد.

لكن حتى مع نفوذه الهائل، لم يتمكن الصدر من تشكيل حكومة أغلبية وإنهاء أزمة سياسية متواصلة منذ الانتخابات التشريعية المبكرة التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وقال الصدر إنه أقدم على خطوة الانسحاب من البرلمان "تضحية مني للبلاد والشعب لتخليصهم من المصير المجهول".

وعلى الرغم من الانسحاب، لا يزال الصدر يتمتع بنفوذ هائل في ظل وجود مئات الآلاف من أنصاره الذين يمكنهم تنظيم احتجاجات. ومن شأن تحركه أن يُزيد بشدة من المخاطر في الصراع على السلطة داخل الأحزاب الشيعية في العراق.

Man walks near a poster of Iraqi Shi'ite cleric Moqtada al-Sadr, in the Sadr City district of Baghdad
إرث عائلة الصدر ونسبها المرموق منح مقتدى مكانة مميزة بالأوساط الشيعية العراقية (رويترز)

رمز مقاومة الأميركيين

لم يكن الصدر معروفا فعليا خارج العراق قبل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، لكن سرعان ما أصبح رمزا لمقاومة الاحتلال مستمدا الكثير من نفوذه من عائلته.

ولد مقتدى -الذي يقول مقربون منه إنه سريع الغضب وقليل الابتسام- يوم 12 أغسطس/آب 1973 في الكوفة جنوب بغداد، وورث شعبية كبيرة، إذ هو نجل رجل الدين الشيعي البارز آية الله محمد صادق الصدر الذي اغتيل مع اثنين من أبنائه عام 1999 بعد انتقاده الصريح للرئيس الراحل صدام حسين، كما اغتيل أيضا ابن عم والده محمد باقر الصدر المفكر الشيعي البارز الذي أعدمه صدام مع شقيقته نور الهدى ربيع العام 1980.

ومنح هذا النسب المرموق اندفاعة لمقتدى، فكان أحد أبرز الشخصيات التي لعبت دورا أساسيا في إعادة بناء النظام السياسي بعد سقوط نظام صدام عام 2003، وقائد إحدى أكثر الحركات الشيعية نفوذا وشعبية في البلاد.

تقول الباحثة في معهد الشرق الأوسط راندا سليم "إرث عائلته الذي بدونه لا أعتقد أنه كان يمكن أن يكون حيث هو اليوم".

وعلى الرغم من المخاطر، لم يفر الصدر قط من العراق على عكس شخصيات بارزة أخرى في حكومات ما بعد الإطاحة بصدام كانت قد عادت من إيران ومن الغرب بعد الغزو.

مسيرة الصدر بدأت بمعارك ضارية مع القوات الأميركية التي اجتاحت العراق، وانتهت بنزاع مع رئيس الوزراء نوري المالكي الذي حكم البلاد بين عامي 2006 و2014.

Iraqi Shi'ite cleric Moqtada al-Sadr visits his father's grave after parliamentary election results were announced, in Najaf, Iraq May 14, 2018. REUTERS/Alaa al-Marjani
الصدر نفى أي دور له في مقتل الخوئي (رويترز)

خط متعرج

توارى الصدر عن الأنظار أواخر العام 2006، حيث انقطع لطلب العلم في الحوزة بمدينة قم الإيرانية، حتى عاد إلى مقر إقامته بحي الحنانة في النجف بداية العام 2011.

يقول الباحث في العلاقات الدولية كريم بيطار "الصدر شخص ذو خط متعرج، تنقّل من كونه قائدا وطنيا مناهضا للولايات المتحدة خلال حرب العراق، لنجده متحالفا مع السعودية، وعاد فجأة مرة أخرى إلى اتخاذ منعطف جذري والتقرب من الإيرانيين". والمعروف أن شخصية الصدر ونهجه موضع إشكال لدى إيران والولايات المتحدة على حد سواء.

فإذا كانت واشنطن لا تنسى "جيش المهدي" فإن طهران لا تنسى بدورها المواقف العدائية لآل الصدر المعروفين بزعامتهم الدينية ذات الاحترام الواسع.

وكان الصدر أول من شكّل فصيلا شيعيا لمقاومة القوات الأميركية. وقاد انتفاضتين على الولايات المتحدة مما دفع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى اعتبار جيشه (جيش المهدي) أكبر تهديد لأمن العراق.

عام 2004، أصدرت سلطة الاحتلال الأميركية مذكرة توقيف بحق الصدر، وقالت إنه مطلوب حيا أو ميتا فيما يتعلق بقتل الزعيم الشيعي عبد المجيد الخوئي عام 2003 الذي عاد إلى العراق إبان الغزو الأميركي وأقام في مدينة النجف جنوب بغداد. ونفى الصدر أي دور له في مقتل الخوئي ولم توجه له تهمة قط.

وصمد الصدر خلال 19 عاما من الاضطرابات منذ أن هاجم جيش المهدي القوات الأميركية بالبنادق والقذائف الصاروخية في أزقة وشوارع بغداد والمدن الجنوبية. كما حارب أتباعه الجيش العراقي ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية والفصائل الشيعية المنافسة.

وخلال العنف الطائفي في العراق بين عامي 2006 و2008، اتُهم جيش المهدي بتشكيل فرق اغتيال لخطف وقتل شخصيات سنية. ونفى الصدر استخدام العنف مع أبناء وطنه من العراقيين.

عام 2008 أمر رئيس الوزراء نوري المالكي بشن هجوم كبير لسحق جيش المهدي في مدينة البصرة الجنوبية.

في وقت لاحق من ذلك العام، أمر الصدر بوقف العمليات المسلحة وأعلن أن جيش المهدي سيتحول إلى منظمة ثقافية واجتماعية أطلق عليها اسم (سرايا السلام).

Iraq's parliamentary election results
الصدر قادر على حشد مئات الآلاف من الأنصار في الشوارع متى شاء (رويترز)

الصدر يعيد تقديم نفسه

قرر الصدر لاحقا التنافس في السياسة شديدة التعقيد في العراق، وبمرور الوقت اكتسب مزيدا من الشعبية بعدما تعهد بالقضاء على الفساد المستشري في الدولة.

وبعمامته المميزة، بات بمقدور الصدر الذي أعلن نفسه نصيرا للفقراء والمحرومين أن يحشد مئات الآلاف من الأنصار في الشوارع متى شاء.

عام 2016، اقتحم أنصار الصدر البرلمان داخل المنطقة الخضراء الحصينة في بغداد، بعد أن ندد بالفشل في إصلاح نظام المحاصصة السياسية الذي يُلقى باللوم عليه في الفساد المستشري نظرا لاستغلال القادة السياسيين له من أجل تعيين أنصارهم في وظائف رئيسية.

وأنذر الصدر بأنه إذا استمر المسؤولون الفاسدون واستمر نظام المحاصصة، فسيتم إسقاط الحكومة بأكملها ولن يُستثنى أحد.

وأمر أنصاره بإنهاء اعتصامهم عند بوابات المنطقة الخضراء بعد أن قدم رئيس الوزراء حيدر العبادي تشكيلة وزارية جديدة تهدف إلى محاربة الفساد.

أعاد الصدر تقديم نفسه قبل الانتخابات البرلمانية عام 2018، وشكّل تحالفا مع الشيوعيين والعلمانيين. وبعد تهميشه لسنوات من قبل منافسيه الشيعة، خرج منتصرا في عودة قوية سيطر خلالها على وزارات ووظائف حكومية، مستغلا استياء الرأي العام من حليفته السابقة إيران والنخبة السياسية.

Iraqi Shi'ite cleric Moqtada al-Sadr attends a protest against western air strikes on Syria, in Najaf, Iraq April 15, 2018. REUTERS/Alaa Al-Marjani
محللون يرون أن الصدر متناقض لكنه يجري بما يشتهي الشارع (رويترز)

تحدي واشنطن وطهران

وكان الصدر هو الزعيم الشيعي الوحيد الذي تحدى كلا من طهران وواشنطن، وهي معادلة بدا أنها جعلته يتمتع بشعبية لدى الملايين الذين شعروا أنهم لم يستفيدوا من علاقات حكومتهم الوثيقة بإيران أو الولايات المتحدة.

يتوجه الصدر بشكل شبه يومي إلى مناصريه، مستغلا منصة "تويتر" التي يحرك من خلالها شارعا ويهدئ آخر.

يقول الباحث ريناد منصور من "شاتام هاوس" إن الصدر وهو من القادة القلائل الذي عايشوا فترة صدام "يوصف بالمتناقض مع مرور السنين، لكنه نهاية الأمر يجري بما يشتهي الشارع".

وبعد اغتيال أميركا قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني مع أبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي في غارة قرب مطار بغداد مطلع عام 2020، كان للصدر موقف متشدد ضد واشنطن، وكان أول الساعين للمطالبة بإنهاء الوجود الأميركي بالبلاد عبر مظاهرة ضخمة نظمها في العاصمة، وأبلغ طهران في الوقت نفسه أنه لن يترك العراق في قبضتها.

كان العراق ساحة معركة بالوكالة على النفوذ بين الولايات المتحدة وإيران منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وأطاح بصدام، ومهد الطريق إلى السلطة أمام شخصيات شيعية تتودد إليها طهران منذ عقود.

ولا تزال معظم المؤسسات السياسية الشيعية في العراق متشككة أو حتى معادية للصدر. ومع ذلك، هيمن التيار الصدري على أجهزة الدولة منذ انتخابات 2018، إذ شغل مناصب عليا بوزارات الداخلية والدفاع والاتصالات.

واكتسحت الكتلة الصدرية الانتخابات البرلمانية عام 2021، وحلت في المركز الأول، وزاد عدد المقاعد التي يهيمن عليها الصدر إلى 73 مقعدا من 54 في البرلمان المؤلف من 329 مقعدا.

وعزز الصدر شعبيته من خلال الوعود التي قدمها للعراقيين بالقيام بإصلاحات سياسية ترمي إلى إضعاف النزعة الطائفية، والسعي لبناء مجتمع مدني، ووضع حد للتدخل الإيراني في العراق، وإخراج القوات الأميركية من البلاد.

ووجه هذا الانتصار ضربة قاصمة للجماعات الشيعية الموالية لإيران التي انهار تمثيلها البرلماني.

وقال أحد قادة الفصائل الموالية لإيران إن الجماعات المسلحة مستعدة لاستخدام العنف إذا لزم الأمر لضمان عدم فقدان نفوذها بعد انتخابات يرونها مزورة.

وقال السياسي حسين العقابي إن سياسة الصدر المتمثلة في عدم الاعتماد على الولايات المتحدة أو إيران آتت ثمارها، على عكس الأحزاب المعتمدة على القوى الإقليمية والتي "انتهى بها الأمر في الظل تقريبا".

المصدر : رويترز