الجزيرة نت تتابع ذكرى المذبحة.. أسر ضحايا سربرنيتسا: لن ننسى وربينا أحفادنا على إكمال ما بدأناه

أعطى الحكم النهائي الصادر بحق سفاح البلقان راتكو ميلادتش بالسجن مدى الحياة نوعا من الراحة لأسر الضحايا، ولكن الأمر لم ينته في نظرهم.

سربرنيتسا – حلّت أمس الذكرى الـ26 لـ"مذبحة سربرنيتسا" حين قامت المليشيات الصربية، في يوليو/تموز عام 1995، بارتكاب جرائم مروعة بحق مسلمي البوسنة الذين كانوا في حماية القوات الأممية في مدينة سربرنيتسا، بعد أن أصدر مجلس الأمن قرارا بأنها منطقة آمنة ومحمية دوليا.

ارتكب الصرب، بقيادة "السفاح" راتكو ميلاديتش، جريمة إبادة جماعية، إذ قتلوا 8372 (وفق البيانات الرسمية) معظمهم من الرجال والأطفال، ثم أخفوا جثثهم في مقابر جماعية بأماكن متفرقة.

وقد تمت أمس مراسم الجنازة والدفن لرفات 19 ضحية، عثر على رفاتهم وتم التثبت من هوياتهم خلال هذا العام، ودفنوا في المقبرة المخصصة لذلك بمركز بوتوتشاري التذكاري بمدينة سربرنيتسا.

صلاة الظهر ثم الجنازة
صلاة الظهر قبل صلاة الجنازة على ضحايا المذبحة (الجزيرة)

لكل منهم حكاية

قد تتشابه الأرقام وتتكرر لكن الحقيقة أن لكل واحد من هؤلاء حكاية تنمّ عن حجم الجرم الذي ارتكب بحقهم، كما أن لكل منهم أسرة انتظرته 26 سنة.

أصغرهم سنا هو أزمير عثمانوفيتش الذي قُتل وعمره 16 عامًا حينما وقع في حقل ألغام في أثناء هروبه من جحيم راتكو ميلاديتش، ولكن رفاته وُجد في مقبرة جماعية بعيدة عن مكان قتله، وذلك يعني أن المجرمين لم يكتفوا بحرمانه من حق الحياة، بل أرادوا حرمانه من حق التكريم بعد موته.

وصبي آخر هو فكرة كيفريتش الذي أتم عامه الـ17، سيدفن اليوم بجانب والده رامز الذي دفن هنا سنة 2011، وبهذا سيجمع شمل الأب والابن، بعد 26 سنة من الفراق.

وجمع مركز بوتوتشاري أمس الأحد رفات اثنين من أسرة واحدة، الأب خير أليتش وابنه يوسف، كانا قد افترقا مجبرين، وقُتل كل منهما في مكان وزمان مختلف عن الآخر، ولكن قُدّر العثور عليهما والتعرف على هويتهما ومن ثم دفنهما في اليوم نفسه.

وفي قبر آخر رقد إبراهيم أفداغيتش الذي عُثر على جثمانه مقطعا في 4 مقابر جماعية مختلفة، مما جعل إحدى الأمهات تعلق قائلة "هذه إبادة جماعية مزدوجة، وإصرار على الإصرار على ارتكاب الجرم".

ولم يفرق المجرمون بين طفل وشاب وشيخ بل قتلوا الجميع على الهوية، فقد بلغ عدد الأطفال الذين عُثر على رفاتهم ودفنوا حتى الآن 435.

ومع انتهاء مراسم الجنازة والدفن أمس الأحد، يكون قد تم دفن 6889 ضحية، ويبقى 1483 من ضحايا الإبادة الجماعية في سربرنيتسا لم يُعثر عليهم.

ميلو جوكانوفيتش رئيس الجبل الاسود يشارك في حمل أحد النعوش تعبيرا عن تضامنه مع أسر الضحايا - الجزيرة نت
ميلو جوكانوفيتش رئيس الجبل الأسود يشارك في حمل أحد النعوش تعبيرا عن تضامنه مع أسر الضحايا (الجزيرة)

ردود فعل العائلات

الجزيرة نت تابعت مراسم التشييع، والتقت منيرة سوباشيتش رئيسة جمعية أمهات منطقة سربرنيتسا وجيبا التي قالت "اعتقد البعض أننا سنتعب أو نمل لكننا نستمد طاقتنا من سعينا لتحقيق العدالة".

وتضيف "لقد فقدت ابني وهو في زهرة شبابه، ثم قبلت، مثل كثير من الأمهات أن أدفن بعضا منه لأننا نشعر براحة عندما نكرم موتانا بدفنهم، ولكن لا يمكن أن ننعم ونحن نرى القتلة طلقاء، وما زال كثيرون لم يعثروا على ذويهم. إن عملنا لم ينته، إن الحد الأدنى من الإنسانية أن تُمكن كل أم وزوجة من الوقوف عند قبر حبيبها لتقرأ له الفاتحة".

وتتابع بحرقة "رغم الحر الشديد هطلت الأمطار على سربرنيتسا، إنها دموع الأمهات التي تجمدت في عيونهن 26 سنة، لقد كنت بجوار قبر ابني عندما نزل المطر، وتحدثت معه كما لو كان واقفا بجواري، إن أبناءنا لم يختفوا بل قُتلوا بأيدي مجرمين ما زالوا أحياء، نحن نعرف من أخذهم من أيدينا عنوة، وعليهم أن يفصحوا عن مكان الرفات. هذا أقل حقوقنا".

وتستطرد "نجحنا في تربية أبنائنا وأحفادنا كي لا ينسوا حقوق أبائهم وأجدادهم وحتى يسعوا بثبات لتحقيق العدالة، وأن لا يتبعوا في الوقت نفسه طريق المجرمين بأن يعيشوا للانتقام والثأر".

مسيرة الدراجات البخارية في مدخل مدينة سربرنيتسا - موقع مركز بوتوتشاري على فيسبوك
مئات الدراجات النارية جابت شوارع العاصمة سراييفو (مواقع التواصل)

تضامن المدن البوسنية

جاءت مشاركة مدن البوسنة والهرسك في إحياء ذكرى ضحايا الإبادة الجماعية في سربرنيتسا هذا العام لافتة للنظر وتميزت بكثير من الإبداع.

ففي تمام الساعة 12:00 ظهرا ولمدة دقيقة دقّت صفارات الإنذار في سراييفو والعديد من المدن والبلديات في جميع أنحاء البوسنة والهرسك تحت عنوان "انتهاء الخطر"، وهو تقليد كان متبعا خلال الحرب (1992-1995)، إذ كانت صفارات الإنذار تدق عند بداية الغارات الصربية ثم عند انتهائها.

وفي العاصمة سراييفو جابت شوارع المدينة مئات الدراجات النارية في مسيرة حاشدة ضمّت دراجين من دول عدة، ثم توجهوا جميعا إلى سربرنيتسا للمشاركة في مراسم التشييع.

أما أهالي موستار فقد نظموا مسابقة للقفز من أعلى الجسر من دون تصفيق، تعبيرا عن الحزن، كما صمموا "زهرة سربرنيتسا" كبيرة من الخشب وجعلوها تطفو على سطح نهر نيريتفا في أثناء القفز.

وفي مدينة توزلا بشمال البوسنة، تجمع مئات من الشباب في الملعب الرياضي ورسموا بأجسادهم "زهرة سربرنيتسا" وكتبوا الرقم 8372، عدد ضحايا المذبحة.

كذلك شهدت مدن كثيرة في أنحاء العالم فعاليات متشابهة تضامنا مع سربرنيتسا، نظمتها جمعيات البوسنيين في المهجر أو الجمعيات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان.

زهرة سربرنيتسا تزين شوارع سراييفو إحياء لذكرى الإبادة الجماعية 2 - الجزيرة نت
زهرة سربرنيتسا تزين شوارع سراييفو إحياء لذكرى الإبادة الجماعية (الجزيرة)

مسؤولية المجتمع الدولي

وشاركت في مراسم الجنازة وفود ضمّت رؤساء دول وسفراء وممثلين عن منظمات دولية وإقليمية، كما عبّر آخرون عن تضامنهم عبر كلمات متلفزة بُثت خلال مراسم التأبين.

وكان من بين الحاضرين "ميلو جوكانوفيتش" رئيس دولة الجبل الأسود الذي كانت مشاركته لافتة للنظر إذ وضع على بدلته "زهرة سربرنيتسا" كما شارك الأهالي في حمل النعوش.

وجدير بالذكر أن برلمان الجبل الأسود كان قد أصدر في يونيو/حزيران الماضي قانونا يعترف بحدوث جريمة إبادة جماعية في سربرنيتسا ويجرم نفيها.

ولم تتأخر كوسوفو كثيرا فأصدر برلمانها قانونا مشابها، وبذلك انضمت الدولتان إلى كرواتيا وسلوفينيا اللتين تعترفان بوقوع تلك الجرائم في البوسنة والهرسك.

وأعطى الحكم النهائي الصادر بحق سفاح البلقان راتكو ميلادتش بالسجن مدى الحياة نوعا من الراحة لأسر الضحايا، ولكن الأمر لم ينته، كما أكدت منيرة سوباشيتش للجزيرة نت "نعم، نحن سعداء بمحاكمة كبار المجرمين ولكن لن نتوقف حتى تقبض يد العدالة على المنفذين"، مطالبة المجتمع الدولي بالتحرك لتحقيق العدالة.

برغم الحر الشديد هطلت الأمطار على سربرنيتسا، إنها دموع الأمهات التي تجمدت 26 سنة
رغم الحر الشديد هطلت الأمطار على سربرنيتسا "إنها دموع الأمهات التي تجمدت 26 سنة" (الجزيرة)

دور صربيا

ولم تكن القوانين الصادرة عن الجبل الأسود وكوسوفو هي الحدث الأسوأ لصربيا هذه الأيام، بل أعقبها ما هو أسوأ، ففي 30 يونيو/حزيران الماضي دانت المحكمة الدولية اثنين من رجال المخابرات في دولة صربيا بالتورط في جرائم بحق الإنسانية حدثت في البوسنة، وحكمت على كل منهم بالسجن 12 سنة، وذلك فتح الباب أمام التساؤلات عن مدى تورط دولة صربيا في الجرائم.

وعن موقف صربيا، تقول عائشة حافظوفيتش -الصحفية التي تابعت المحاكمات منذ بدايتها، وجمعت مشاهداتها في كتاب بعنوان "في جانب الإنسانية"- للجزيرة نت "إن أرادت صربيا الاندماج في الاتحاد الأوروبي، فليس لديها بديل عن التعاون بوجه أفضل، والقيام بمزيد من الإجراءات للحد من الأنشطة التي تمجد مجرمي الحرب".

وتضيف أن الذي ينفي وقوع الإبادة الجماعية في سربرنيتسا إنما يعارض قرارات المحكمة الدولية، ويعزل نفسه عن المجتمع الدولي.

المصدر : الجزيرة