11 يوما من الحرب.. كيف انتصر "بنك مفاجآت" المقاومة على "بنك أهداف" الاحتلال؟

مفاجآت عديدة أظهرتها المقاومة الفلسطينية خلال الحرب الأخيرة، منها إمكانياتها العسكرية الكبيرة وقدرة قادتها على التخفي

مع انقضاء الحرب الإسرائيلية على غزة يتضح أن المقاومة -خاصة كتائب القسام- كشفت عن سلسلة تدريجية من مفاجآتها جعلت جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية في حالة إرباك حقيقي لكيفية التعاطي معها، وقلق جدي من عدم "نضوب" هذه المفاجآت، واحتمال أن تتواصل مع كل يوم يتواصل فيه العدوان.

  • لماذا لجأت المقاومة إلى القصف التدريجي "التنازلي" وليس "التصاعدي"؟

بعد وقف إطلاق النار لم تجد أوساط الاحتلال الأمنية والعسكرية جوابا واضحا عن السبب الذي دفع كتائب القسام إلى أن تطلق شرارة هذه المواجهة بتوجيه صواريخها نحو الهدف الأبعد جغرافيا وسياسيا وهو القدس المحتلة وليس مستوطنات غلاف غزة كما جرت العادة في كل مواجهة.

وبدأت المقاومة مواجهتها للعدوان الإسرائيلي بالطريقة "التنازلية"، بحيث بدأت قصفها في الساعات الأولى لمواقع في القدس المحتلة وتل أبيب، مما شكل مفاجأة ثقيلة العيار لإسرائيل التي اعتبرت ذلك خرقا لما تعتبره "سيادة" في القدس، فضلا عن اعتبار ذلك اجتيازا فلسطينيا لخط أحمر، لأن القصف جاء في ذات الساعات التي يستعد فيها المستوطنون لاقتحام المسجد الأقصى.

وبينما جرت العادة لدى المقاومة أن تبدأ مواجهاتها مع الاحتلال بالطريقة "التصاعدية" بحيث تبدأ بالمستوطنات الحدودية مع غزة على اعتبار أنها لا تشكل ضغطا على الحكومة وجيش الاحتلال لكنها كسرت القاعدة هذه المرة وبدأت من الأعلى وصولا إلى الأسفل.

  • كيف حافظت المقاومة على مستوى منتظم من الرشقات الصاروخية بالعشرات؟

دأبت الآلة الإعلامية والعسكرية الإسرائيلية على ترديد عبارة مفادها أن كتائب القسام تحوز على بضعة آلاف من القذائف الصاروخية بسبب الحصار المفروض على غزة، وعدم وجود معدات ومواد للتصنيع الذاتي فيها، لكن استمرار الكتائب طوال الأيام الـ11 من العدوان على إطلاق رشقات صاروخية بما لا يقل عن 100 صاروخ في المرة الواحدة أربك الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

وتكررت المفاجأة أكثر بإعلان كتائب القسام خلال أيام الحرب أن ما لديها من مخزون صاروخي يجعلها تستمر في التصدي للعدوان لمدة 6 أشهر كاملة بذات المعدلات العالية، مما دفع جيش الاحتلال لإعادة النظر في مسألة مواصلة العدوان حتى إشعار آخر.

ولم يتسبب هذا القصف المكثف فقط في إحداث دمار هائل في المدن الفلسطينية المحتلة داخل إسرائيل -ولا سيما عسقلان التي "سحقتها" المقاومة وفق التعبير الإسرائيلي- وإنما أدى إلى شبه تعطل القبة الحديدية عن التصدي لها من خلال لجوء المقاومة إلى أساليب تكتيكية عملياتية عملت على تضليل القبة وبطارياتها، مما دفع الإسرائيليين لصب جام غضبهم عليها، لأنها أخفقت في حمايتهم.

  • أين استطاع المقاومون التخفي عن عيون المخابرات الإسرائيلية وطائراتها؟

لم يكن سرا أن الاحتلال أعلن منذ بداية العدوان أنه يلاحق قادة المقاومة، ولا سيما الصف الأول من قيادتها العسكرية، وفي سبيل ذلك نشر معداته التجسسية حول القطاع، وبث معلومات استخبارية لمحاولة الحصول على طرف خيط يوصله إليهم، وسعى إلى تقطيع أوصال غزة لمنع تنقلهم من مكان إلى آخر، حتى وصل به الأمر إلى الاعتراف رسميا بأنه حاول اغتيال قائد أركان القسام محمد الضيف مرتين خلال الحرب وفشل فيهما.

وقد أدركت قيادة المقاومة العسكرية أن الاحتلال يسعى لتحقيق ما سماها "صورة انتصار"، وتتمثل ذروتها في النيل من أحد قادتها العسكريين الذين شكلوا لدولة الاحتلال خصما عنيدا وعدوا لدودا لأنهم أهانوها ووجهوا لها ضربات في الصميم، مما دفع المقاومة لأخذ مزيد من الاحتياطات الأمنية لتفويت الفرصة على الاحتلال بعدم منحه هذه الصورة رغم أن هؤلاء القادة هم بالأساس "مشاريع شهادة"، ويعيشون -كما يقولون- في الوقت المستقطع من حياتهم.

  • كيف اكتسبت المقاومة مصداقيتها الإعلامية أمام الاحتلال؟

"يؤسفني القول إن ما تعلنه حماس يجد مصداقية لدى الجمهور الإسرائيلي أكثر مما يعلنه ساستنا، وهذا إنجاز لحماس كفيل بتحطيم كل ما حققناه في الحرب"، مقولة طافت الكرة الأرضية للمراسلة العسكرية الإسرائيلية غيلي كوهين التي أكدت أن المتحدث باسم الجناح العسكري لحماس أبو عبيدة يحظى بمتابعة حثيثة من أفراد الجمهور الإسرائيلي وكأنهم يتلقون التعليمات منه بالخروج من الملاجئ أو دخولها.

أكثر من ذلك، فعند الساعات التي سبقت إعلان وقف إطلاق النار فجر يوم الجمعة 21 مايو/أيار الجاري انتظر الإسرائيليون إعلان أبو عبيدة عن سريان التهدئة حتى يخرجوا من ملاجئهم، ودبت الحياة من جديد في مدنهم.

وجاءت ذروة المصداقية الإعلامية لكتائب القسام بشكل علني وعلى الهواء مباشرة بدعوتها كافة وسائل الإعلام لتسليط كاميراتها نحو سماء تل أبيب، وتحدت الطواقم العسكرية بإرسال بطاريات القبة الحديدية إلى محيط المدينة لمنع سقوط الصواريخ، وهدفت الكتائب بإعلانها هذا إلى إثبات قوة الردع وقدرتها على تنفيذ تهديداتها رغم قوة الجيش الإسرائيلي والتحليق المكثف لطائرات الاستطلاع والمروحية والحربية في سماء غزة.

وشكلت هذه الشواهد خيبة أمل للأوساط السياسية الإسرائيلية، لأنها شكلت انقلابا في المشهد الإعلامي والدعائي الذي عمل دائما لصالح الاحتلال، لكن قدرة المقاومة على تقديم بيانات دقيقة ومعلومات صحيحة بعيدا عن الدعاية الإعلامية (البروباغندا) والكذب منحتها مصداقية عند الإسرائيليين، فضلا عن الفلسطينيين.

ويبدو من الصعب مغادرة هذه المفاجأة الإعلامية دون التطرق إلى "أبو عبيدة" الملثم ذي الكوفية الحمراء الذي يرى جيش الاحتلال أنه "الشريان الرئيسي للحرب النفسية التي تفرضها حماس".

  • أين أفشلت المقاومة خطة الاحتلال لاستدراج مقاتليها؟

اعتمد الاحتلال في عدوانه الأخير على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف المقاتلين الفلسطينيين، وذلك من خلال تحويل "أنفاق" المقاومة المنتشرة على طول حدود قطاع غزة الشرقية والشمالية والجنوبية إلى "مقابر" لهم، وهي إستراتيجية "الأرض المحروقة" و"عقيدة الضاحية" التي أعلنها رئيس أركان جيش الاحتلال أفيف كوخافي، وسعى لتنفيذها في عدة مرات خلال هذا العدوان دون جدوى.

المحاولة الأخطر جاءت مساء يوم الخميس 13 مايو/أيار الجاري حين أعلن الناطق العسكري الإسرائيلي عن بدء العملية البرية على مشارف شمال قطاع غزة، رغبة منه بمسارعة المقاتلين لدخول الأنفاق للتصدي للقوات الغازية، وفي هذه الحالة تبدأ أسراب الطائرات الإسرائيلية بقصف الأنفاق تحقيقا للهدف أعلاه، لكن المقاومة كانت أذكى منه فلم تأمر عناصرها بدخول الأنفاق، مما تسبب بإعلان الاحتلال عن فشل العملية.

  • ما أهم التكتيكات العسكرية التي اتبعتها المقاومة خلال العدوان؟

الآن، وقد وضعت الحرب أوزارها لم يعد سرا أن حماس استغلت فترات الهدوء السابقة لتعجيل استعدادها للجولة الأخيرة، فقد حفرت أنفاقا هجومية، وصنعت وسائل طيران غير مشغلة بشريا، وأطالت مدى قذائفها الصاروخية، واتخذت عدة إجراءات استعدادا لإمكانية أن تطول المواجهة مع الاحتلال هذه المرة، أهمها:

1-   عدم كشف أماكن إطلاق الصواريخ المنطلقة من غزة باتجاه المستوطنات والمدن الفلسطينية المحتلة.

2-   الإبقاء على راجمات الصواريخ المنتشرة تحت الأرض سرية انتظارا لاندلاع المواجهة.

3-   اختيار أوقات غير متوقعة لإطلاق الصواريخ في غياب الطائرات المحلقة.

4-   تصميم راجمات وهمية فوق الأرض لتضليل الطيران وتغذية بنك أهدافه بمعلومات خاطئة.

5-   اللجوء لاستخدام عدد من الأسلحة الجديدة، مثل الطائرات المسيرة، والقذائف الصغيرة التي قصفت مواقع الجيش في مستوطنة أشكول وأوقعت قتلى وجرحى، فضلا عن صواريخ الكورنيت ضد الحافلات العسكرية 3 مرات خلال 10 أيام، واستهداف منشأة نفطية إسرائيلية في عرض البحر المتوسط، وضرب القواعد العسكرية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي.

6-   فرض تغييب كامل للطائرات المروحية من نوع "أباتشي" عن المشهد الحربي في غزة، ولم يعد لها وجود في سماء القطاع الذي تسيدته طائرات الزنانة والطائرات الحربية من طراز "إف-16" (F-16)، مما قلص اشتراكها في العدوان.

  • كيف تفوقت المقاومة على الاحتلال من الناحية الاستخبارية؟

أثبتت 11 يوما من العدوان الإسرائيلي على غزة أن تقديرات الاحتلال الأمنية غير دقيقة، وأن أياما كثيرة مرت دون أن تتمكن المخابرات الإسرائيلية من معالجة التهديدات القادمة من غزة، وأن مزاعمها تأتي للتغطية على فشلها الاستخباري وعدم تمكنها من الحصول على معلومات أمنية تمكنها من المس بمنصات إطلاق الصواريخ وهيئات القيادة والتحكم التابعة لكتائب القسام.

لقد أظهرت وقائع المعارك في غزة فشل المخابرات الإسرائيلية بعدم قراءتها المعنى الجوهري للتطورات الميدانية الخاصة بحماس، ورغم أن جهاز الأمن العام (الشاباك) لا ينفرد وحده برصد الأحداث في غزة -إذ يقاسمه الجيش والاستخبارات ذلك- فإنه أبدى ضعفا مثيرا للقلق الإسرائيلي في اكتشاف وتشخيص المشهد العام بقطاع غزة.

وكشف العدوان الأخير على غزة عن صعوبات أمام المخابرات الإسرائيلية حالت بينها وبين تشخيص التغييرات في توجه حماس قبيل نشوب الحرب وأثناءها، وجاءت التقديرات المتفائلة في وسائل الإعلام عن القدرة على سحق حماس، واستعدادها للتوصل إلى هدنة ليتبين أنه مبالغ فيها، والمعلومات الاستخبارية عن قواعد إطلاق القذائف الصاروخية لمدى متوسط كانت جزئية، وبات صعبا على الجيش أن يصيب قادة حماس الكبار بسبب صعوبة التأليف بين فجوة استخبارية وصعوبة عملياتية.

ومن المؤكد أن مراجعة سريعة لوقائع القتال في غزة أشارت إلى فروق واضحة المعالم بين قدرات الجيش في مجال الدفاع والمعلومات الاستخبارية التي اهتزت وضعفت كثيرا، مقابل نضج المقاومة وقدرتها على تكبيده خسائر كبيرة، وباتت أكثر جاهزية في البحث عن أهداف عسكرية لضربها عن طريق عمليات الاقتحام وإطلاق صواريخ على مركبات عسكرية.

المصدر : الجزيرة