حوادث مصر.. تحريض على الناقل وتشتيت عن الفاعل

صور لحادث القطار في مصر
اصطدام قطاري سوهاج أسقط عشرات الضحايا بين قتيل وجريح (الجزيرة)

على الرغم من خروجه اللاحق ونفيه التهم الموجهة إليه ونبأ القبض عليه لا يزال الشاب المصري رحيل أبو عامر -الذي قام بعملية بث مباشر من موقع حادث قطاري سوهاج يوم الجمعة الماضي- يلقى حملة انتقادات وتحريض من قبل حسابات مجهولين، وأخرى لأشخاص معلومين على مواقع التواصل الاجتماعي، في مقابل أخرى داعمة ومدافعة.

الشاب رحيل أبو عامر (22 عاما) حاز شهرة واسعة خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك على خلفية نقله بثا مباشرا من داخل قطار الصعيد كان له دور بارز في تسليط الضوء على الحادثة وإجبار المسؤولين ووسائل الإعلام على الاهتمام بها والتعاطي معها.

الفيديو -الذي حقق خلال ساعات أكثر من مليون مشاهدة بسبب سرعة تداوله قبل أن يختفي لاحقا- جلب للشاب حملة انتقاد وتحريض، واتهامات مختلفة، وإشاعة أخبار بالقبض عليه، مما دفعه للخروج مرة أخرى والدفاع عن نفسه ونفي تلك التهم، والتأكيد على أنه لم يقم بالبث إلا للاستغاثة.

رحيل قال في فيديو الدفاع عن نفسه "قالوا عني إخواني وإرهابي وكلام كتير، وأنا أبسط مما تتخيل.. أنا لما عملت البث مكنش غرضي شهرة ولا ترند زي ما اتقال، لكن كان عشان حد يوصلنا، واستغاثة"، مضيفا "الناس سابت الدنيا دي كلها ومسكت فيا، وإزاي بصور والناس بتموت".

 

 

 

حملة التحريض والانتقاد والتخوين استدعت للذاكرة حملات مشابهة استهدفت من قبل أشخاصا كان لهم دور في نقل أحداث شبيهة أو تسليط الضوء عليها، وآخرين كان لهم دور في كشف ملفات فساد.

بعض تلك الحملات شهدت تناغما واضحا من جانب مسؤولين بالسلطة وإعلاميين مقربين منها، وتبعتهم بالتفاعل شرائح شعبية مؤيدة على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما اقتصر الأمر في حملات أخرى على تفاعل حسابات بمواقع التواصل الاجتماعي مع مساندة من منصات إعلامية محسوبة على السلطة روجت الاتهامات التي صدرت عن تلك الحسابات واعتبرتها أقرب إلى الحقيقة.

وكان المثال الأكثر إثارة للاستغراب هو اعتقال مصور مقطع الفيديو الذي انتشر أوائل يناير/كانون الثاني الماضي وأظهر وفاة عدد من مرضى العناية المركزة في مستشفى الحسينية بمحافظة الشرقية وذلك بسبب انقطاع الأكسجين.

وبعد انتشار المقطع على نطاق واسع أفادت وسائل إعلام مصرية بأن المصور تم اعتقاله، فيما قال محافظ الشرقية إن النيابة تحقق بدعوى أنه أصاب الطاقم الطبي بالذعر، ولاحقا صدر قرار على خلفية الحادثة بمنع التصوير داخل أقسام الرعاية في المستشفيات.

كما تداول نشطاء في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مقطع فيديو للمواطن محمد حسني وهو يشعل النار في نفسه داخل ميدان التحرير، بعد سرده لما قال إنه ظلم تعرض له ومطاردة وتلفيق قضايا، ردا على كشف فساد يخص مسؤولين كبارا ورجال أعمال في الدولة.

 

 

 

 

أزمة نفسية

ويرى المواطن أحمد سعودي (33 عاما) -الذي يملك محلا لبيع الهواتف المحمولة- أن هذا الاستهداف يعكس أزمة نفسية لدى شريحة ليست بالقليلة من المصريين تحاول دائما أن تتهرب من تبعات الغضب من وجود أزمات وكوارث تستدعي البحث عن المسؤولين عنها والمطالبة بمحاسبتهم حتى لا تتكرر مثل هذه الأمور.

ويشير في حديثه للجزيرة نت إلى أنه يصادف خلال عمله نماذج مختلفة من تلك الشريحة، حتى في سياقات أكثر محدودية، فمن يستنكر سرعة سائق الحافلة أو صوت مذياعها العالي منتقَد لديهم أكثر من السائق نفسه الذي يخشون انفعاله في حال استمرار تذمر الناقد، ثم يوجهون سهامهم إليه.

وكذلك الحال مع الفتاة التي تجرأت وصرحت بتعرضها للتحرش اللفظي أو الجسدي، إذ ستجد الكثير من المهاجمين الذين يرون أن تحميلها الخطأ أسهل من البحث عمن تعرض لها، وعن أسباب هذه الظاهرة ودوافعها الحقيقية، حسب سعودي.

وتتفق معه سعاد صابر (اسم مستعار) التي تعمل مترجمة، وترى أن تتابع الضغوط على تلك الشرائح له دور كبير في محاولة الهروب من تلك التبعات، وتحمل المسؤولية في ذلك بشكل أساسي لإعلاميين ووسائل الإعلام الذين دائما ما ينتهجون هذا المنهج حتى لا يتحملوا تبعات مواجهة المسؤولين وكشف تقصيرهم.

لكنها ترى كذلك في حديثها للجزيرة نت أنه وعلى مستوى التفاعل الإلكتروني فليس بالضرورة أن وجود الكثير من الآراء المعبرة عن ذلك دليل على الشيوع، فالكثير من تلك الحسابات التي تحرض على الناقل وهمية، الأمر الذي يشير إلى رغبة عليا لإشغال الرأي العام عن المسؤول الحقيقي عن تلك الكوارث.

هروب مشترك

الخبير الاجتماعي وأستاذ علم النفس أحمد عبد الله يرى أن الشريحة المهاجمة لمن يقومون بنقل الحدث هي إحدى شريحتين في المجتمع، تحرص كل منهما على التهرب من المسؤولية الشخصية تجاه الأحداث حتى وإن ظهرتا متناقضتين ومشتبكتين عند كل حدث.

ويوضح في حديثه للجزيرة نت أن هذه الشريحة تتهرب من تلك المسؤولية عبر إنكار وجود مشكلة من الأساس، والتأكيد على أن ما يحدث أمر طبيعي يمكن حدوثه في أي مكان في العالم، ثم فإن نقله -حسب رأي أفراد هذه الشريحة- لا يحقق سوى الإساءة للبلد، والتقليل من حجم الإنجازات التي تحققت فيها، والجهد الذي يبذله المسؤولون.

لكن عبد الله يرى أيضا أن هناك أفرادا من شريحة أخرى لا يختلفون في محصلة التهرب من المسؤولية الشخصية عن المشكلة الموجودة في حياتهم العامة، ودورهم في التعامل مع التقصير العام، والذين لا يتجاوز تفاعلهم تحميل الحكومة والنظام مسؤولية الأحداث بشكل يعفيهم من أي مسؤولية شخصية.

دور الإعلام

من جانبه، يرى الحقوقي أحمد العطار أن وسائل الإعلام تتحمل المسؤولية الأبرز في الأمر، حيث يرى أن الإعلام الرسمي والخاص بمصر يخالف في تناوله ميثاق الشرف الإعلامي -عبر التدليس والتضليل- الحقائق والواقع.

لكنه يرى في حديثه للجزيرة نت أن الشعب المصري بات يدرك الأمر، ويعلم أن الواقع أسوأ مما ينقل عبر الشاشات والإعلام الرسمي، ولذلك كان الاهتمام بما ينقل عبر منصات التواصل الاجتماعي، والذي يعكس نبض الشارع، وهو ما استدعى غضب المسؤول الذي فشلت أذرعه الإعلامية في التغطية وتكذيب الحقيقة.

ويشدد الحقوقي المصري على أن ما قام به الشاب أبو عامر من نقل مباشر لحادثة القطارين -حتى وإن تضمن مشاهد مؤلمة- لا يخالف مواد الدستور والقانون، ويوافق تطلعات القطاع الأكبر في الشارع المصري لمعرفة حقيقة الأمور التي ما فتئت وسائل الإعلام واللجان الإلكترونية تسعى لتغييبها.

ويؤكد العطار على أن نقل وكشف الحقيقة من واجبات المواطن، وأنه من الضروري على الدولة حمايته وضمان أدائه ذلك دون تهديد أو تخوف من تبعات ذلك، لا كما حدث في واقعة اعتقال عدد من الأطباء وأطقم التمريض أثناء نقلهم كارثة الإهمال في جائحة فيروس كورونا.

الحق في النقل والنشر تؤكده كذلك مديرة منظمة هيومن رايتس مونيتور (HUMAN RIGHTS MONITOR) سلمى أشرف، حيث ترى أن قيام أي مواطن بذلك يجعل منه عنصرا صالحا وليس العكس، ومن هنا يتطلب الأمر حمايته، سواء من الرأي العام أو حتى من الدولة.

وفي حديثها للجزيرة نت، اعتبرت أن الإعلام الآن بمصر هو مجرد أداة للنظام، وفي حال كان توجه هذا الإعلام مهاجمة الناقل كما هو الحال مع الشاب أبو عامر فإن الهدف هو نفي المسؤولية عنه وإلقاء اللوم على غيره وتشتيت الانتباه.

ذباب إلكتروني

بدوره، يرى الحقوقي والإعلامي هيثم أبو خليل أن هذا الاستهداف هو فعل متعمد من اللجان الإلكترونية أو ما يعرف بالذباب الإلكتروني التابع لأجهزة سيادية في الدولة كجهاز المخابرات، وينساق من ورائهم قطاع مغيب من الشعب.

ويعتبر في حديثه للجزيرة نت أن ذلك "إرهاب من الدولة" لمن يعمل على نشر الحقائق ويكشف مواطن الفساد، ولا يتوقف الأمر في تقديره عند ذلك، بل يتجاوزه إلى اتخاذ قرارات تحول دون تكرار الأمر كما الحال مع منع التصوير داخل المستشفيات عقب تصوير مواطن ما يكشف نفاد الأكسجين.

ويذهب أبو خليل كذلك في حديثه للجزيرة نت إلى أن الهدف من الهجوم على ناقل الخبر ودفعه للدفاع عن نفسه هو خلق مناخ من التشويش يساعد على عدم التركيز في تحديد المسؤول عن الجريمة الحاصلة، وذلك من خلال ما هو معروف بنظرية "بص العصفورة".

وفي هذا السياق، يشير إلى أن مهاجمة الناقل وسيلة ضمن وسائل متعددة لتحقيق هدف التشتيت، منها نشر أخبار كثيرة عن وقائع مشابهة وإن كانت غير حقيقية، أو النشر كذلك عن وقائع تحت ذات التصنيف في دول أخرى، في محاولة لإظهار الحدث وكأنه أمر وارد وطبيعي.

 

المصدر : الجزيرة