حكاية العرب في البرازيل.. من الهجرة إلى الاندماج فصناعة القرار

السفن التي حملت المهاجرين الى ميناء سانتوس في البرازيل
السفن التي حملت المهاجرين إلى ميناء سانتوس في البرازيل (الجزيرة-أرشيف)

لم يكن الحاج محمد الصيفي يعلم حين ركب الباخرة عام 1956 باتجاه عالم جديد، أن رحلته ستمتد كل هذه السنوات.. ذلك الشاب ابن البقاع الغربي في لبنان، البالغ من العمر 17 عاما حينها، سار على خطى جده الذي هاجر قبله إلى البرازيل عام 1912، ليعمل في بناء سكك الحديد هناك.

يحكي الصيفي للجزيرة نت كيف قضى 25 يوما على متن باخرة أرجنتينية بهدف الهجرة تماما، كما كان يفعل الكثير من الشبان في سنه خلال تلك الفترة، فيقول "شعرت بالغربة بعد وصولي، كان كل شيء مختلفا، ولم أكن أتخيل أنني سأبقى في هذه البلاد كل هذه السنوات، وأن أصل إلى ما وصلت إليه".

ويضيف "كان لدى والدي مصنع نسيج، عملت معه لفترة، لكنني اخترت العمل كبقية العرب حينها تاجرا للثياب بالشنطة، أحمل شنطتي وأجول على المنازل، أقرع الأبواب وأسوّق بضاعتي، كان عملا متعبا"، لكن هذا ما فعله كثير من العرب المهاجرين إلى البرازيل مع نهاية القرن الـ19، ومنها وصلوا إلى أعلى المناصب، وسجلوا نجاحاتهم في التجارة بشكل أساسي، كما في مختلف المجالات.

صور السيد محمد الصيفي، رجل أعمال وصل الى البرازيل عام 1956 عبر البحر
محمد الصيفي.. رجل أعمال وصل إلى البرازيل عام 1956 عبر البحر (الجزيرة)

مع اكتشاف البرازيل

يقول المؤرخ البرازيلي من أصول عربية "روبرتو قطلب" إن العرب وصلوا إلى البرازيل منذ سنوات اكتشافها الأولى. ويشير في حديثه للجزيرة نت إلى أن "مؤرخين ذكروا أسماء أشخاص عرب كانوا على متن رحلات البحار البرتغالي بيدرو ألفاريس كابرال، الذي وصل البرازيل عام 1500".

ويؤكد قطلب "أن المؤرخين يذكرون أنه في القرن الـ17 كانت اللغة العربية محكية في شوارع ريو دي جانيرو وباهيا ومناطق أخرى، من قبل العبيد الأفارقة أو القادمين من مناطق مسلمة، كما أنه في القرن الـ18 سُجل قدوم بعض العرب إلى مناطق برازيلية".

الدكتور روبرتو قطلب، مؤرخ برازيلي من أصول عربية
الدكتور روبرتو قطلب مؤرخ برازيلي من أصول عربية (الجزيرة)

كل ذلك كان قبل استقلال البرازيل بشكل رسمي، إلا أن البلاد التي استقلّت عام 1822، ومع وصول الإمبراطور البرازيلي دوم بيدرو الثاني في القرن الـ19 بدأت مرحلةٌ مختلفة في العلاقة مع العرب، وعن ذلك يقول المؤرخ قطلب "اهتم الإمبراطور دوم بيدرو الثاني بتعلم اللغة العربية قراءة وكتابة، وشرع في ترجمة رواية ألف ليلة وليلة إلى البرتغالية، وذلك لأنه أحب تعلم اللغات المحكية في بلاده، وكانت العربية إحداها".

إلا أن التحرك الأكبر المشجع على الهجرة العربية بشكل رسمي وكبير إلى البرازيل، كانت رحلة الإمبراطور إلى الدول العربية، وحول هذا يحكي الدكتور قطلب أن "الإمبراطور دوم بيدرو الثاني زار مصر ولبنان وفلسطين وسوريا ما بين أعوام 1871 و1877 بهدف التعرف على الثقافة العربية وشعوب المنطقة، وفتح الباب أمام الهجرة الكبيرة للعرب إلى البرازيل، والذين أصبحوا جالية تعد بالملايين اليوم في البرازيل".

صورة الامبراطور البرازيلي دوم بيدرو الثاني
الإمبراطور البرازيلي دوم بيدرو الثاني الذي فتح البرازيل أمام هجرة العرب في القرن الـ19 (الجزيرة – أرشيف)

حي العرب.. 25 مارس

بعد زيارة الإمبراطور، بدأت البواخر تنقل العرب في رحلات طويلة إلى البرازيل، وتحديدا إلى ميناء مدينة سانتوس الشهير على سواحل ولاية ساوباولو، ووسط ساوباولو العاصمة، استقر معظم العرب البارعين في التجارة، ومن تجارة الشنطة، بدؤوا بتأسيس متاجر لهم في الحي الملاصق لشارع "25 مارس".

وبالمصادفة، كان "25 مارس" يرمز إلى ذكرى التوقيع على أول دستور برازيلي عام 1824، وتحول المكان مع السنوات إلى ما يعرف اليوم بأكبر حي تجاري في قارة أميركا اللاتينية بأكملها، وشاع تسميته "بحي العرب"، لتأثيرهم الكبير فيه.

هذا التأثير الكبير دفع أيضا البرلمان البرازيلي عام 2008 إلى اختيار التاريخ ذاته 25 مارس/آذار، كيوم وطني برازيلي للجالية العربية، للاحتفاء بوجودها وإنجازاتها، تحييه البرازيل كما الجالية على مختلف المستويات كل عام، كما تمت إعادة تسمية عشرات الشوارع في المكان بأسماء شخصيات عربية بارزة في المجتمع البرازيلي.

تأثير واسع في المجتمع

لا يتوقف تأثير أبناء المهاجرين العرب على التجارة فحسب، ففي مختلف المجالات لا بد أن تجد اسما عربيا ناجحا، فقد أثبت المهاجرون تميّزهم في مجالات الطب، مؤسسين عددا من المستشفيات، أبرزها "المستشفى السوري اللبناني"، الرائد في الطب على مستوى البرازيل والقارة اللاتينية بأسرها، كما أسس العرب نوادي رياضية عربية كالنادي السوري لكرة القدم، ونادي جبل لبنان، وغيره.

ووصل نجاح العرب بالبرازيل إلى تقلد مناصب مختلفة في السياسة كرؤساء بلديات وحكام ولايات وأعضاء في البرلمان، ووزراء، ورؤساء البرلمان، ونواب لرؤساء الجمهورية، إلى أن تمكن الرئيس ميشال تامر من تقلد منصب الرئاسة عام 2016، بعد إسقاط الرئيسة السابقة ديلما روسيف عبر البرلمان.

كل هذه المجالات وأكثر برز فيها المهاجرون العرب، ليقدموا نموذجا في قدرة المهاجرين على الاندماج بالدول الجديدة مع التأثير الفعلي فيها وتقديم نماذج وقصص نجاح لا تنتهي.

المصدر : الجزيرة