ميديابارت: العراق ينخره الفساد منذ 18 عاما والشعب هو الضحية

تسمم بالمياه وانقطاع الكهرباء وتفشي الأمراض وتهالك البنية التحتية وبطالة وتهريب مليارات الدولارات وانتشار المليشيات

العراق- أزمة مياه في البصرة عقود من سوء الإدارة والتلوّث والفساد
أزمة تلوث المياه في البصرة تكشف عقودا من الفساد (مواقع التواصل)

في البصرة -كما في بغداد وبقية المدن العراقية- تشهد العلاقة بين الطبقة الحاكمة والشارع توترا ملحوظا، بسبب الفساد الذي ينخر مفاصل الدولة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين قبل 18 عاما.

وفي تقرير نشره موقع ميديابارت الفرنسي (MEDIAPART)، بين أن مشكلة المياه المسمومة في البصرة قبل 3 أعوام، وما أعقبها من أحداث وكشف عن صفقات مشبوهة، تعطي صورة واضحة عن مدى تأثير الفساد على الحياة اليومية للعراقيين.

ونقل عن العضو السابق في اللجنة المالية بالبرلمان العراقي وفي هيئة النزاهة رحيم الدراجي، قوله "في العراق، لا يصعب العثور على رجال فاسدين، بل الصعب هو العثور على رجال شرفاء. الجميع متورط، لدرجة أن إدانة شخص ما أمر محفوف بالمخاطر. سأكون صريحا، جميع العقود التي اطلعت إليها خلال فترة عملي في اللجنة التي دامت عامين، كانت مزورة".

ارتفاع عدد القتلى باحتجاجات البصرة وجلسة طارئة للبرلمان
البصرة شهدت احتجاجات شعبية عام 2018 بسبب سوء الأوضاع (الجزيرة)

مياه البصرة المسمومة

يقول كاتب التقرير الصحفي العراقي فرات العاني عما حصل في البصرة صيف 2018، "تخيل أنك في بلد تفوق فيه درجة الحرارة 50 درجة مئوية في فصل الصيف، تفتح صنبور المياه فيجري منه ماء غير صحي مليء بالبكتيريا، ولا خيار أمامك سوى تقديمه لأطفالك، ما يجعلهم عرضة لأمراض عديدة من بينها الكوليرا وحمى التيفوئيد".

هذا ما عاشه سكان البصرة في 2018 عندما انقطعت الكهرباء وغابت المياه الصالحة للشرب. وبعد أيام من شرب المياه المسمومة، نقل 120 ألف شخص إلى المستشفيات، وعمّ الذعر في المدينة. وقد امتلأت الغرف بالمرضى وارتبك الأطباء وأخذوا يرسلون الناس إلى منازلهم. لقد كانت كارثة بأتم معنى الكلمة.

ومثلما جرت العادة، وجّهت السلطات المحلية أصابع الاتهام إلى محطات معالجة مياه الصرف الصحي التي تضررت من الحرب الإيرانية العراقية، والتي أعيد بناؤها جزئيا في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وقصفها سلاح الجو الأميركي عام 1991، ثم مرة أخرى أعيد بناؤها في 2003.

لكن السلطات تكتّمت على عدم خضوع محطات المعالجة لأي عمليات صيانة ضمن المشاريع الحكومية منذ 2003.

ورغم توقيع العقود التي تنص على إصلاح هذه المحطات، فلم يتغيّر حال البصرة كما لم يتغير حال العراق الذي ينخره الفساد، حسب تعبير الكاتب.

بعد أيام، خرج المتظاهرون للشارع ورفعوا لافتات تندد بفساد النخب وتطالب بالمحاسبة. ولم يتأخر رد السلطات والمليشيات المنتشرة في البصرة، حيث تم إطلاق الذخيرة الحية على المحتجين.

ويوضح الكاتب أن هذه المليشيات تنتمي إلى جهات مختلفة، إذ يتلقى بعضها تمويلا مباشرا من إيران، مثل فيلق بدر وكتائب حزب الله.

وتحظى مليشيات أخرى بدعم الأحزاب السياسية أو التيارات الدينية، وأشهرها جيش المهدي التابع للزعيم الشيعي مقتدى الصدر، والحشد الشعبي الذي تشكّل عام 2014 بدعوة من المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني.

وتسيطر هذه المليشيات اليوم على الشارع وتسن القوانين وتمارس صلاحيات الشرطة والجيش العراقيين.

كان من بين المشاركين في مظاهرات البصرة، أبو حسن، الذي عمل منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي بحقل الرميلة، وهو أحد أكبر حقول النفط في البلاد، وتتقاسم إدارته حاليا شركتا "بريتش بتروليوم" البريطانية و"بتروتشاينا" الصينية. وقد وقّع العملاقان في عام 2009 عقدا من أجل زيادة الطاقة الإنتاجية للحقل.

يعرف أبو حسن كل شبر في حقل الرميلة الذي أمضى فيه 20 سنة كاملة، لكنه لم يتلقَّ أي رد عندما عرض خدماته للعمل مع العملاقين البريطاني والصيني.

ويوضح أبو حسن أن حقل "الرميلة يشكل ثروة هائلة فهو يحتوي على أكثر من مليار برميل من احتياطيات النفط، فلا حدود للذهب الأسود هنا، ولكن الفساد هو الذي يسيطر هناك".

تلوث المياه ونفوق الأسماك في البصرة
تلوث المياه أدى لنفوق الأسماك في البصرة (مواقع التواصل)

ملفات فساد

بعد فضيحة المياه المسمومة والقمع الدموي للاحتجاجات، قرّر أبو حسن تغيير إستراتيجيته بعد أن أدرك أن المطالبة بمحاسبة الفاسدين علنا تعني المخاطرة بالحياة دون نتائج ملموسة.

عمل أبو حسن في الخفاء على كشف ملفات الفساد في قطاع النفط وقطاعات أخرى، بعد انضمامه إلى اتحاد نقابات عمال النفط، والذي يضم نشطاء وأكاديميين، وقد تمكن خلال السنوات الثلاث الماضية من جمع الكثير من المعلومات والوثائق بمساعدة شبكة من المتعاونين.

وحسب الكاتب، فإن آخر ملف خطير كشف عنه أبو حسن يتعلق بحالة التسمم التي وقعت عام 2018 في إحدى مدارس البصرة، إذ تكشف الوثائق التي قدمها عدد من المتعاونين تفاصيل المخالفات المريبة في العقد الموقع بين شركة "بروتكنيك" ووزارة البلديات والأشغال العامة، حيث يعكس العقد الحالة المزرية للبنية التحتية للمياه في البصرة.

مناقصة مشبوهة

انطلقت القصة مع إعلان مناقصة مشتريات عامة للمرحلة الثانية من مشروع حكومي يسمى "مشروع ماء البصرة الكبير"، تساهم في تمويله وكالة اليابان للتعاون الدولي، لكن المشروع الذي تتجاوز قيمته عشرات الملايين من الدولارات بقي حبرا على ورق.

تقدمت شركات معروفة، مثل "تويوتا" اليابانية، بعروض للفوز بهذه المناقصة التي تتضمن إعادة تأهيل أجزاء من محطة معالجة المياه في البصرة، وبناء محطة جديدة لمعالجة المياه بحجم 100 ألف متر مكعب، وتركيب خط أنابيب لنقل وتوزيع المياه بطول 60 كيلومترا، فضلا عن بناء خزان ومحطة ضخ.

في الأخير، فازت شركة غير معروفة تدعى "بروتكنيك" بالمناقصة، ووعدت بإعادة تأهيل هذا المرفق الحيوي في البصرة.

وأثبتت الوثائق أن رئيس الشركة يدعى أوس الدرغزالي، وهو عراقي مقيم بلندن، من مواليد 1972، يمتلك 5 شركات، بالعنوان البريدي نفسه.

ووفقا للوثائق المقدّمة، سُجلت الشركة في 20 يوليو/تموز من عام 2012 في أستراليا، وقد أثبتت التحريات أن أوس الدرغزالي كان مدير التطوير بالسفارة الأسترالية في عمّان آنذاك.

لاحقا، حملت الشركة أسماء مختلفة، وعملت في أستراليا وبريطانيا، إلى حين افتتاح فروع لها في الأردن والعراق عام 2017، قبل الفوز بالمناقصة.

ورغم مرور 3 سنوات على توقيع العقد الذي تقدر قيمته بـ74 مليون دولار، فإن البصرة -كما يؤكد الكاتب- ما زالت تفتقر إلى المياه الصالحة للشرب، كما لم يتم إنشاء محطات معالجة المياه الجديدة، ولم يمنع كل ذلك من ظهور المسؤولين العراقيين علنا مع مدير بروتكنيك!

في 14 يوليو/تموز 2019، بعد مرور عام على فضيحة المياه المسمومة، استقبل وزير المالية العراقي وفدا من رجال الأعمال يضم أوس الدرغزالي.

في هذا الصدد، يؤكد رحيم الدراجي أن هذه الشركة مجرد واجهة، وهي حلقة في سلسلة طويلة من الصفقات المشبوهة التي شهدها العراق منذ عام 2003.

ويضيف أن "المحسوبية هي الركيزة الأولى للفساد في العراق، حيث تقوم الشركات الوهمية بتوقيع عقود بقيمة ملايين ومليارات الدولارات، دون تقديم أي شيء للمواطنين الذين ما زالوا يطالبون، بعد 18 عاما من سقوط نظام صدام حسين، بالماء والكهرباء والعمل".

Demonstrators gesture as they take part in the ongoing anti-government protests after newly-appointed Iraqi Prime Minister Mustafa al-Kadhimi called for the release of all detained protesters, at Jumhuriya bridge in Baghdad, Iraq May 10, 2020. REUTERS/Khalid al-Mousily
الاحتجاجات الشعبية في العراق التي انطلقت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 هدفت بالأساس لمحاربة الفساد (رويترز)

الأموال المنهوبة

يرى الكاتب أن قضية المياه المسمومة وصفقة الصيانة المشبوهة في البصرة ليست سوى عينة صغيرة من نظامٍ، جعل العراق يحتل المركز 160 في ترتيب الدول الأكثر فسادا في العالم.

ومنذ سقوط نظام صدام حسين، أدى الفساد إلى اختفاء ما يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي للعراق. وقد قدرت هيئة النزاهة التي تشكلت بعد تعيين رئيس الوزراء الجديد مصطفى الكاظمي، اختفاء نحو 410 مليارات يورو (500 مليار دولار) على مدى السنوات الـ17 الماضية في شكل عقود وهمية.

وذكرت اللجنة أنها استعادت أكثر من 3 مليارات دولار، اختُلست خلال العامين الماضيين فقط، بعد أن تم استثمارها في شراء عقارات بالعاصمة البريطانية لندن.

المصدر : ميديابارت