فتح باريس أرشيف ثورة الجزائر.. مصالحة مع الذاكرة أم مناورة شكلية؟

يرى مراقبون جزائريون أن خطوة باريس بفتح أرشيف الثورة الجزائرية مجرد مناورة جديدة مثل سابقاتها يحاول من خلالها الفرنسيون تجزئة ما حدث، سواء ما تعلق بملف الأرشيف أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية حتى لا تظهر بطبيعتها الكلية

تحذيرات جزائرية من خلفيات فتح باريس الأرشيف القضائي لثورة التحرير (أرشيف خاص)

الجزائر – أعاد فتح فرنسا أمس الخميس أرشيفها المتعلق بالقضايا القانونية وتحقيقات الشرطة في الجزائر -خلال حربها ضد الاستعمار قضية الأرشيف الجزائري لدى فرنسا- إلى الواجهة مجددا.

ويسمح مرسوم وزارة الثقافة الفرنسية بالاطلاع على كل "المحفوظات العامة التي تم إنشاؤها في إطار القضايا المتعلقة بالأحداث التي وقعت خلال الحرب الجزائرية بين 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 و31 ديسمبر/كانون الأول 1966".

يشكل مطلب استرجاع أرشيف الحقب العثمانية والوطنية لتاريخ الدولة الجزائرية وبكل أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والدبلوماسية والعسكرية أحد أبرز الإشكالات العالقة في ملف الذاكرة بين الجزائر وفرنسا، بحسب مختصين في علاقات البلدين.

وقال الرئيس عبد المجيد تبون في أبريل/نيسان الماضي إن "الأرشيف جزء لا يتجزأ من ذاكرتنا، وما هرّبته فرنسا من الأرشيف العثماني الذي وجدته بالجزائر عليها إعادته إلينا"، مؤكدا "نحن نسعى لاسترجاع أرشيفنا عموما بكل حزم".

وأكد مستشاره عبد المجيد شيخي المكلف بهذا الملف -عبر الإذاعة الجزائرية- على أن "جيل اليوم وكل الأجيال التي ستتعاقب ستظل متمسكة بمطلب استرجاع كل الأرشيف الوطني الذي يؤرخ لعدة حقب من تاريخنا والذي تم ترحيله إلى فرنسا".

وهدد باريس في مارس/آذار الماضي بالقول إنه "لا يوجد ما يمنع من اللجوء إلى التحكيم الدولي أو عرض المسألة على الهيئات القضائية الدولية في حال لم تفِ الحكومة الفرنسية بمطالب الجزائر".

ضغوط داخلية وخارجية

وعن خلفيات الخطوة الفرنسية الجديدة، يرى الرئيس السابق للمركز الوطني للدراسات والبحث في الحركة الوطنية جمال يحياوي أنها جاءت تحت ضغط كبير داخلي من المجتمع الفرنسي نفسه.

ويوضح يحياوي للجزيرة نت أن "الجيل الرابع من أبناء الفرنسيين أصبحوا اليوم يكتشفون بين الفينة والأخرى أن رموز الحضارة والإنسانية -وهم معالم بالنسبة لتاريخ الدولة الفرنسية- مجرد مجرمي حرب باعترافهم هم أنفسهم، بعد ظهور شهادات وتقارير الضباط العسكريين".

ويشير إلى ضغط جيل جديد من أبناء الجالية الجزائرية الذين "يشكلون اليوم قوة ضاربة داخل فرنسا سياسيا واقتصاديا وحتى أمنيا".

كما يأتي الفتح الجزئي للأرشيف -برأي المؤرخ يحياوي- استجابة لضغط خارجي من الدولة الجزائرية، والتي ترى في ملف الذاكرة مربط الفرس، ومنها تنطلق كل قضايا العلاقات الثنائية بين البلدين.

ويعتقد المتحدث أن خطوة باريس مجرد مناورة جديدة مثل سابقاتها يحاول من خلالها الفرنسيون تجزئة ما حدث، سواء ما تعلق بملف الأرشيف أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية حتى لا تظهر بطبيعتها الكلية، ولذلك اعترف رؤساؤهم بقضايا جزئية، مثل اغتيال المحامي علي بومنجل وقتل موريس أودان.

استغباء الذاكرة

وعن أهمية فتح باريس الأرشيف القضائي لثورة الجزائر، يؤكد عضو المجلس الوطني للبحث في التاريخ العسكري بوزارة الدفاع الجزائرية يوسف مناصرية أن الأرشيف الفرنسي يخضع لقوانين تضبط ترتيبه وإمكانية الوصول إليه أو البقاء تحت السرية.

ويرى مناصرية أن "قرار فرنسا الجديد يخص وثائق كانت متاحة من زمان للاطلاع، موضحا أن القانون الفرنسي يرتب الأرشيف وفق مستويات، منها العام والخاص، وآخر متعلق بالأشخاص والجرائم وغيرها".

ويؤكد في تصريح للجزيرة نت أن تقارير الشرطة والدرك ومصالح الأمن عموما تقع ضمن الصنف الأول (العام) المتاح للباحثين الاطلاع عليه في أماكنه، لأنه غير محجوز أصلا، في حين يتم سحب ما هو حساس من الأرشيف.

ويضيف مناصرية أن تلك التقارير المقصودة تخص أحداثا معينة، وفق رواية أجهزة الأمن ومخبريها، ونتائجها دوما في خدمة مصالحها، وهي موجهة بالأساس إلى الرأي العام لانتحال الدور الفرنسي في تأمين الجزائريين وحماية حقوق الإنسان.

ويشدد في النهاية على أنها خطوة بسيطة جدا ولا جدوى منها وليست جديدة، فقد سبقتها مبادرة الرئيس جيسكار ديستان في منتصف السبعينيات خلال عهد هواري بومدين بتسليم الجزائر جزءا من أرشيف السلسلة "زد" (Z) التي تخص الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالصحراء الجزائرية، ثم تقديم أرشيف خريطة الألغام على الحدود في زمن بوتفليقة.

لكنها تبقى كلها غير مفيدة للجزائريين، بل تمثل عملية استغباء لذاكرتهم، وإذا كانت لدى فرنسا النية الصادقة -والكلام للمؤرخ- فإن عليها أن "تفتح أرشيف الجرائم ضد الإنسانية والوثائق المتعلقة بالأفعال الاستعمارية العسكرية وحجز البشر".

وزارة المجاهدين: لا يمكن تجزئة الأرشيف والبحث في أحداث أو مرحلة معينة دون أخرى (الجزيرة)

انعكاسات سلبية

أما بخصوص المحاذير التي يثيرها البعض من خطورة تلك الوثائق الأمنية على الجزائر فيقول يحياوي إن أرشيف الاستنطاق يحوي قضايا شائكة، لأن التحقيقات تجري تحت التعذيب، وقد تؤدي بأصحابها إلى التفوه بكلمات وتمويهات للهروب من العدالة الاستعمارية.

ويشير في نقطة أخرى مهمة -بصفته باحثا مختصا في معالجة الأرشيف- إلى أن الفرنسيين وخلال 60 عاما من استقلال الجزائر لم يبقوا مكتوفي الأيدي، بل "قاموا بعملية ترتيب وانتقاء وتصنيف للأرشيف العام، وعليه لا يمكن أن يقدموا اليوم العصا لمن يضربهم بها، وهم يعرفون ما ارتكبوه من جرائم".

ويتساءل يحياوي "ما هو الأرشيف الذي تقدمه لنا وزيرة الثقافة الفرنسية؟ هل هو الحقائق كما هي؟ أم محاضر جلسات التعذيب؟ أم شهادات الضباط الفرنسيين الذين مارسوا التعذيب في الجزائر؟".

ثم يجيب بأن السلطات الفرنسية تركز في عملية انتقائية على محاضر الاستنطاق من أجل التشويش على ملف الذاكرة، وهذا قد تكون له انعكاسات سلبية بالنسبة للجزائريين، خاصة إذا لم توضع التقارير في إطارها التاريخي.

جنود فرنسيون يعنّفون جزائريا في إطار الاستنطاق خلال ثورة التحرير (أرشيف خاص)

نسف المدرسة الاستعمارية

ويوضح مناصرية أن هذا الكنز الكبير من الأرشيف لا يزال مخزّنا في عدة مواقع معروفة، مثل أنفاق ما وراء البحر وفي وزارة الحربية ومبنى "الكيدورسي" وملحقته بمدينة نانت، ولدى الغرفة التجارية بمرسيليا، وهناك ما هو محفوظ في بلديات ميلاد مجرمين عسكريين، على حد وصفه.

ويعتبر أن فرنسا ترفض تسليم ذلك الأرشيف بكل مراحله لأنه يدينها أولا، ولأنه "ينسف دعاوى المدرسة الاستعمارية في التنكر للأمة الجزائرية بزعم أنها لم تكن موجودة كدولة قبل دخول الاحتلال".

كما أن فتح الأرشيف العثماني في الجزائر سيدك أطروحات المدرسة الحضارية الفرنسية في ادعائها تمدين المستعمرات الأفريقية وصناعة دولها، على حد تعبير المؤرخ.

المصدر : الجزيرة