اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (2-4)

اختراع شعب كنعان.. التيه اليهودي الجديد (1-4)
في إطار التأويل المضلل لمصطلح كنعان، شاعت الرواية التوراتية التي تزعم أن الفلسطينيين هم الكنعانيون. وداخل هذا الإطار سوف يبدو الفلسطيني وكأنه يعيش هو الآخر داخل "التيه اليهودي" الجديد الذي يعيشه الإسرائيلي.
وهذا حقيقي تماما، فالفلسطيني يبدو حائرا وهو يتساءل: إذا لم نكن "كنعانيين" فمن نكون؟ منْ نحن؟ هل حقا كنا ندعى "شعب كنعان"؟ وهكذا فقد انتقلت المعضلة من طرف قام بغزو الأرض إلى الطرف الآخر، الضحية. ومع ذلك كله، لا يكاد الفلسطيني يتوقف عن ترديد ترهات اللاهوتيين؛ بأنه "كنعاني" عاش مثل الإسرائيلي في "أرض كنعان"؟  لكن أين هي حدود كنعان؟ ومنْ هم الكنعانيون؟

المعضلة التي يجب أن يواجهها الفلسطيني بشجاعة تكمن هنا: إنه ليس ضحية عمل عنيف تمثل في اغتصاب أرضه وتشريد وتحطيم شعبه؛ بل ضحية "سردية لاهوتية" مضللّة تزعم أنه ينتسب إلى شعب وهمي لا وجود له يدعى "كنعان". لقد استولى الآخر على عقله قبل أن يستولي على أرضه. هذه هي الحقيقة في الصراع الراهن. وبهذا المعنى فقط، سوف يصبح الفلسطيني المعاصر -مثله مثل الإسرائيلي المعاصر- شخصا تمسك بوهم كونه "الكنعاني القديم". وهذا هو برأييّ جوهر المأزق الذي يعيشه الفلسطيني، فهو يعيش "أزمة هوية" شبيهة بمشكلة "عدوه".

لقد شاعت في المؤلفات والدراسات التاريخية -وبالطبع بفضل مناهج التعليم ودراسات الباحثين والمؤلفين في تاريخ الحضارات القديمة- أكذوبة لا أصل لها عن شعب قديم يدعى "الكنعانيين"

بكلام موازٍ، سوف تبرز هذه المشكلة فقط حين يرددّ الفلسطيني رواية الآخر (الإسرائيلي) عنه، والقائلة إنه "كنعاني"، أي من عرق لا وجود له في التاريخ. لذلك، ولأجل أن يتمكن الفلسطيني من تحرير نفسه وأرضه، عليه قبل كل شيء أن يتحررّ من رواية الآخر، أي من "هيمنة السردية اللاهوتية" التي زيفت وعيه، وأن يرفض بقوة وصفه بـ"الكنعاني" لأن هذا الوصف لا أصل له، وهو في جوهره مصطلح احتقاري.

 لقد شاعت في المؤلفات والدراسات التاريخية -وبالطبع بفضل مناهج التعليم ودراسات الباحثين والمؤلفين في تاريخ الحضارات القديمة- أكذوبة لا أصل لها عن شعب قديم يدعى "الكنعانيين"، ثم انتشرت ورسخت في العقول إلى الحدّ الذي بات يصعب فيه إجراء نقاش هادئ وعلمي حولها، حتى مع أكاديميين وعلماء آثار، وليس مع مجرد هواة أو قرّاء لكتب التاريخ.

بكلام موجز: رسخت الأكذوبة في عقول ملايين البشر، دون أن يجرؤ أحد على طرح السؤال التالي: منْ هم الكنعانيون؟ هل هناك شعب حقيقي له حضارة عُرفت بهذا الاسم؟ وهل تعرّف إبراهيم إليهم وهاجر إلى أرضهم؟ وأين؟ لقد لفق اللاهوتيون -وبشكل أخصّ الذين اشتغلوا في ميدان علم الآثار- منظومة مصطلحات مأخوذة كليّا وبصورة حرفية من التوراة؛ ثم قاموا بتوظيفها في ميدان التاريخ. أكثر هذه المصطلحات شيوعا كان مصطلح "كنعاني" الذي سرعان ما لقي رواجا، وتمّ توظيفه لتسويق فكرة زائفة عن حضارة قديمة أسسّها شعب مجهول يدعى الشعب الكنعاني.

قد يكون أمرا محزنا حقا أن نرى غالبية عظمى من الفلسطينيين (وجماعات أخرى في الشرق الأوسط) تتباهى بفخر واعتزاز أنها من أصول كنعانية، دون أن يكون بوسعها تقديم تعريف لمعنى "كنعاني"

في هذا النطاق، تمّ الترويج بسخاء لمصطلحات مثل: حضارة كنعانية، شعب كنعان، أرض كنعان، لغة كنعانية… إلخ. وفي سائر المؤلفات والدراسات السائدة، لم يجر تقديم أي سند أو دليل تاريخي حقيقي يدعم ويؤكد وجود هذه الحضارة، باستثناء الإشارات التي وردت في التوراة عن جماعة تطلق عليها  اسم "كنعانيين". فهل هناك، شعب قديم بهذا الاسم؟ وهل كانت لهم حضارة متميزّة؟ وأين نجد آثارهم؟ في أي بلدٍ ومتحف؟ هل هم الفلسطينيون؟ أم الإسرائيليون الذين وعدهم الله بهذه الأرض؟ وأين تقع أرض كنعان؟ وما اللغة الكنعانية؟

ما من باحث أو دارس أو هاوٍ، إلا ردد هذه الترهات عن أرض وشعب كنعان. وقد يكون أمرا محزنا حقا أن نرى غالبية عظمى من الفلسطينيين (وجماعات أخرى في الشرق الأوسط) تتباهى بفخر واعتزاز أنها من أصول كنعانية، دون أن يكون بوسعها تقديم تعريف لمعنى "كنعاني".

إذا ما سلمنا أو تقبلنا التعريف الشائع في المؤلفات التاريخية عن "أرض/شعب كنعان"، فسوف يكون علينا حل التناقضات التي يعجّ بها هذا التعريف.

هاكم ملخصا للتعريف الشائع في مناهج التعليم والمؤلفات التاريخية: كنعان هي منطقة تاريخية سامية اللغة في الشرق الأدنى القديم، تشمل اليوم فلسطين ولبنان والأجزاء الغربية من الأردن وسوريا. وكانت المنطقة مهمة سياسيا في العصر البرونزي المتأخر وخلال حقبة العمارنة، فهي كانت محل نزاع بين الإمبراطورية المصرية والآشوريين.

ذُكر الكنعانيون كجماعة عرقية كثيرا في التوراة. وتم استبدال الاسم "كنعان" بـ"سوريا" عقب سيطرة الإمبراطورية الرومانية على المنطقة في القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حيث أسّس الكنعانيون مستعمرات كنعانية جديدة، امتدّت من غرب البحر الأبيض المتوسط إلى حدود السواحل الأطلسيّة.

إذا كانت فلسطين والأردن ولبنان وسوريا هي "أرض كنعان"، فأين كانت الإمبراطورية الآشورية (الآشورية-الآسورية) عام 700 قبل الميلاد؟

هذا التعريف الذي لا يخلو من التلفيق المدروس والممُنهج، لا يستند لأي أساس أركيولوجي؛ بل هو مبنيٌّ بالكامل على ما ورد في التوراة. لا يوجد قط أي دليل تاريخي أن هناك أرضا تدعى كنعان، تشمل فلسطين والأردن (الضفتان الغربية والشرقية) ولبنان وسوريا، كما لا يوجد أي دليل أن الرومان هم منْ أطلق اسم "سوريا" على سوريا المعاصرة، لأن الرومان لم يحتلوا سوريا إلا عام 63 قبل الميلاد، وهذا ما ينسف كلّ وأي أساس يزعم أن سوريا خضعت للرومان عام 700 قبل الميلاد. هذا تلفيق ما بعده تلفيق، وكذب ما بعده كذب.

لكن، إذا ما صّدقنا هذا التعريف -فقط لغرض الجدال العلمي- فسوف يكون علينا حل التناقضات التالية التي يعجّ بها:

أولا: إذا كانت فلسطين والأردن ولبنان وسوريا هي "أرض كنعان"، فأين كانت الإمبراطورية الآشورية (الآشورية-الآسورية) عام 700 قبل الميلاد، وهي إمبراطورية كانت في ذروة عظمتها؟ وأين ذهب السومريون والبابليون؟ هل اختفت (تلاشت) أرضهم من الجغرافية والتاريخ، وحل محلها شعب آخر يدعى "كنعانيا"؟ وهل يمكن في هذه الحالة -إذا ما صدّقنا هذا التعريف المزّيف- تخيّل وجود إمبراطورية آشورية، إذا ما كانت "حضارة كنعان" تسيطر على بلاد الشام؟

إذا ما صدّقنا التعريف الاستشراقي/اللاهوتي الملفق؛ فهذا يعني أن ما يسمى بالإمبراطورية الآشورية هي في الواقع مجرد "دويلة صغيرة"، تمتدّ جغرافيتها من البصرة في الجنوب حتى الأناضول في الشمال، وهذه -بكل يقين- "دويلة" لا إمبراطورية. في هذه الحالة يتوجب علينا أن نقبل بوجود دولة عظمى أخرى بديلة من اختراع اللاهوتيين تدعى إمبراطورية "كنعان"، استولت على فلسطين والأردن ولبنان وسوريا، وأصبح لديها جارة صغيرة تدعى "آشور". إن التاريخ في الشرق الأوسط القديم، لا يعرف مثل هذا التصوّر الملفق.

مصطلح "آشوري" هو مصطلح مُضلل كرّسه علماء الآثار من التيار التوراتي "اللاهوتي" بديلا من المصطلح الحقيقي الذي يرد في نقوش الآشوريين-الآسوريين في الصورة التالية: آسوريا (Assyria)

ثانيا: بموازاة هذا التعريف المزيف، جرى الترويج لفكرة زائفة أخرى تقول: "إن الإمبراطورية الآشورية القديمة هي ما يعرف اليوم باسم العراق". يعني هذا أنها كانت "دويلة صغيرة" جغرافيا قياسا لمساحة "كنعان"، فهي تضمّ فقط ما يعرف اليوم بالعراق؛ بينما تسيطر كنعان على فلسطين والأردن ولبنان وسوريا. وفي هذه الحالة سوف تختفي سوريا التاريخية -أي بلاد الشام- كليا من الخريطة. وفي هذه الحالة أيضا، سوف تصبح كنعان هي الإمبراطورية التي نشأت عند شواطئ المتوسط، فهي تضم كل بلاد الشام. وهذا غير منطقي ولا أصل له في التاريخ. وطبقا لهذا التعريف الشائع، سوف تصبح كنعان جارة عظمى لدويلات صغيرة منها "أشور". هذا أمر مثير للسخرية.

ثالثا: المشكلة في هذا التزييف الفاضح للتاريخ، أن مصطلح "آشوري" هو مصطلح مُضلل كرّسه علماء الآثار من التيار التوراتي "اللاهوتي"، بديلا من المصطلح الحقيقي الذي يرد في نقوش الآشوريين-الآسوريين في الصورة التالية: آسوريا (Assyria)، وقد درج اللاهوتيون على نطق الاسم في صورة آشوريا. وبطبيعة الحال، فقد كان الفلسطينيون القدماء في الجنوب جزءا من سكان هذه الإمبراطورية.

إن العودة إلى طريقة رسم الاسم ونطقه بشكل صحيح (آسوريا) سوف تعيد الأمور إلى نصابها، فهذه الإمبراطورية هي خلاصة اندماج ووحدة العراق وسوريا وجنوبها الأردن وفلسطين، وبطبيعة الحال لبنان.

ولأن العراق بجغرافيته الصغيرة المحدودة، لا يمكن له أن يشكلّ إمبراطورية إلا إذا أصبحت "كلّ" سوريا التاريخية جزءا منه، أو أصبح هو جزءا منها؛ فإن الإمبراطورية الآسورية (الآشورية) هي خلاصة وحدة كل هذه البلدان. إن اسم الآشوريين هو ذاته اسم الآسوريين (آسوريا). وفي هذه الحال أيضا، يجب أن يكون الفلسطينيون في جنوب سوريا من مواطني هذه الإمبراطورية. ولذا، يستطيع الفلسطيني أن يقول باعتزاز إنه آشوري/آسوري، وإنه يرفض اللقب الاحتقاري الذي أطلقه الآخر عليه.

لن تكون كنعان كيانا جغرافيا حقيقيا، إنها ببساطة كيان جغرافي من تلفيق التيار اللاهوتي، أي أنها كيان لا وجود له في الواقع

رابعا: إذا تقبلنا حقيقة أن الإمبراطورية الآسورية هي خلاصة اندماج سوريا القديمة مع العراق القديم، ففي هذه الحال أيضا لن تكون "كنعان" على حدودهم. سوف تصبح ببساطة جزءا من الإمبراطورية. إن التاريخ، وجغرافية العالم القديم لا يعرفان كيانا جغرافيا يدعى "كنعان"، وتصديق هذا النوع من الخرافات، يستدعي تقديم أجوبة محددّة، مثلا: إذا كانت كنعان على حدود آشور/آسور، وكانت جارتها، بما أنها تسيطر على لبنان وفلسطين وسوريا والأردن، فلماذا قام الآشوريون بحملاتهم الحربية ضدها دون توقف؟ أي كيف يمكن تخيّل وجود "دويلة آشورية صغيرة" تهاجم دون توقف "إمبراطورية" مثل كنعان؟ وكيف نفسرّ ما تركه لنا الآشوريون من أخبار تروي معاركهم وحملاتهم الحربية، ولا تعرف قط أرضا في فلسطين تدعى "كنعان"؟ هل هذا يعني أنها سجلات كاذبة، أم أن الإمبراطورية الآسورية هي "دويلة صغيرة" قياسا لمساحة كنعان؟ هكذا سوف تُقلب حقائق التاريخ والجغرافية.

خامسا: على الضد من كل هذه الترهات، وإذا تقبلنا الحقيقة التاريخية (والجغرافية) القائلة إن الإمبراطورية الآشورية (الآسورية) تشكلّت كخلاصة دمج (ووحدة) جغرافية تضمّ سوريا القديمة والعراق القديم، ففي هذه الحالة لن تكون كنعان كيانا جغرافيا حقيقيا، إنها ببساطة كيان جغرافي من تلفيق التيار اللاهوتي، أي أنها كيان لا وجود له في الواقع، وهو من اختراع مخيّلة استشراقية تلاعبت بتاريخ الشرق الأوسط القديم بشكل مُمنهج.

المصدر : الجزيرة