التغيير القادم في تونس: مع الدولة وليس ضدها

جانب من احتجاجات سابقة للمعارضة ضد الرئيس قيس سعيد/ذكرى الثورة التونسية/العاصمة تونس/14يناير 2023
جانب من احتجاجات سابقة للمعارضة ضد الرئيس قيس سعيد في "ذكرى الثورة التونسية" في 14يناير 2023 (الجزيرة)

تتزايد حيرة التونسيين وتأرجحهم بين اليأس والأمل مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية القادمة في الربع الأخير من هذه السنة، إن تمّت في أجلها. البعض لا يأمل منها تغييرًا ويعتبرها ليست حدثًا وإنّما مجرّد محطّة لتأبيد الشعبوية والفشل في البلاد. والبعض الآخر ينظر إليها كمحطة مفصلية ستحكّم مستقبل تونس لسنوات، وربّما لعقود قادمة، وكفرصة للتغيير، وإنقاذ البلاد من مصير الانهيار.

1- التغيير قادم وشروطه موجودة

الجميع يتفق على أن الوضع الراهن صعب جدًا، وغير قابل للتواصل على حالته. الأزمة الاقتصادية على أشدّها. والموارد الداخلية للدولة، المرتكزة بشكل متزايد على الجباية؛ بسبب تعطل آلة الإنتاج، أصبحت غير قادرة على تغطية سوى نصف الموازنة السنوية للدولة، بما يعني استفحال المديونية الخارجية، ورهن السيادة الوطنية. والفقر انتشر وزادت حدّته. وهو ما يهدّد بهزّة اجتماعية خطيرة قد لا تتأخر كثيرًا. وربّما ما أخّرها إلى الآن: مدّة السماح المطوّلة التي منحها الشعب لمنظومة انتخابات 2019، وتم إهدارها. التغيير قادم بلا شك؛ لأنه لا حلول تبدو في الأفق لهذه الأزمة المتصاعدة.

التغيير قادم؛ لأن المنوال التنموي للبلاد وصل إلى نهاية الطريق، وأصبح عاجزًا تمامًا عن توفير حلول للمشاكل المتراكمة كالطبقات بعضها فوق بعض.

التغيير لازم؛ لأن بنية الدولة التونسية ومؤسساتها تقادمت وتهالكت ولم يتم تجديدها وأصبحت على درجة كبيرة من البيروقراطية والتكلس وعدم الفاعليّة. ولأن منظومة المؤسسات والمنشآت العمومية الواسعة أضحت كلها تقريبًا مفلسة وحوكمتها مدمّرة، خرّبها الفساد والمحسوبية والبلطجة النقابية.

وتواصُل هذا الوضع لسنوات أخرى يعني انهيار المنشآت العمومية الواحدة تلو الأخرى كقطع الدومينو باعتبار ترابطها عبر الحلقة المفرغة للديون والمستحقات غير المستخلصة. ولن يكون هناك بديل عن أحد الخيارين: إما عمليات خصخصة بالجملة، أو مسار إصلاحات جوهرية عميقة في حوكمة وإدارة تلك المؤسسات.

التغيير قادم؛ لأن بنية الاقتصاد الوطني الرَيعية المرتكزة على عدد قليل من العائلات ورجال الأعمال الذين يحتكرون الثروة ويهيمنون على كل القطاعات لم تعد قادرة على الصمود طويلًا أمام الضغط الكبير للانفتاح من طرف قوى المصلحة الجديدة والباعثين الشبان وأصحاب المبادرات ذات القيمة المضافة العالية والقدرة التشغيلية المرتفعة، وأمام الدعوات المتواترة لإرساء أسس الاقتصاد التضامني الاجتماعي، وأيضًا أمام ضغط الشركاء الأجانب والمنافسة الإقليمية والدولية الحادة.

التغيير قادم بالضرورة بالنظر لوجود فئات واسعة من المواطنين مقتنعين بضرورته وحتميته بعد أن جرّبوا عديد الخيارات، وفشلت فشلًا ذريعًا.

2- أسس التغيير القادم

من غير المتوقع أن يكون التغيير القادم في شكل ثورة جديدة؛ لأن الظروف الموضوعية لثورة جديدة غير متوفّرة رغم الوضع الكارثي الذي تعيشه البلاد. ودروس التاريخ تُنبئنا أنه يصعب جدًا حدوث ثورتين في جيل واحد. فالثورات عادة ما تكون عمليات تغيير جذرية تحدث نتيجة لتراكم الظروف والمشاكل على مرّ السنين، وعادة ما يستغرق ذلك وقتًا طويلًا لإحداث تغييرات جوهرية في المجتمع. وعادة ما تدوم العمليات التحولية بعد الثورة وقتًا طويلًا لتحقيق أهدافها واستقرار الأوضاع.

لن يكون الفرز في التغيير القادم على الغالب قائمًا على قاعدة الأيديولوجيا بين يمين ويسار، وحداثيين وإسلاميين، ولا على قاعدة الصراع السياسي بين أنصار الثورة ومجموعات الثورة المضادة، ولا على قاعدة صراع الأجيال بين قدامى وجدد. فقد جرّبت البلاد كل هذا ولم يحصل الحسم ولم تتحقق الوعود والأهداف.

لذلك من واجب نخب البلاد الواعية الدفع بقوة إلى أن يكون الفرز في المعركة الانتخابية القادمة بين حلقات واسعة من المقتنعين بضرورة التغيير الجذري الهادئ والإصلاح العميق مقابل لوبيات المصلحة والقوى المحافظة التي تريد الحفاظ على احتكارها ثروات البلاد، وتريد الإبقاء على الوضع الراهن الذي يضمن بقاء نفوذها من ناحية ثانية.

فلسفة الالتقاء الجديد يجب أن تنبني على مرتكزات منسجمة مع الوضع الراهن للبلاد، ومع الأولويات الرئيسية للتونسيين للسنوات والعقود القادمة. التقاء حول أولويات: تحسين معيشة المواطنين، وتعزيز السيادة الوطنية، والاستقرار السياسي، والإصلاحات الهيكلية والمؤسساتية للدولة ومنشآتها العمومية، وتكريس آليات وثقافة الرقابة والحوكمة والشفافية والمحاسبة، وإنقاذ الاقتصاد الوطني عبر كسر طابعه الرَيعي وكسر هيمنة القلة الاحتكارية المتنفذة، وعبر تعزيز روح المبادرة وتطوير الإنتاج وتشجيع الابتكار والرقمنة والقيمة المضافة، وعبر تركيز منظومة جبائية عادلة وفعّالة، وبناء مرتكزات اقتصاد اجتماعي تضامنيّ لمحاربة الفقر.. وغيرها.

هذه الأوليّات أهمّ للتونسيين من كل التناقضات السياسية والأيديولوجية والمصلحية التي غرقت فيها البلاد خلال العشرية الأخيرة وأخرجت تونس من سكة الاستقرار والتنمية والنجاح، وأعادتها إلى مربع الاستقطاب الأيديولوجي وهيمنة المافيات المالية السياسية التي تتلاعب بمكونات المشهد السياسي لمزيد خدمة مصالحها ومنع أي تغيير جدي يضرب نفوذها.

3- سباق مع الزمان : إما تغييرًا حقيقيًا أو تدهورًا محققًا

التغيير قادم لا محالة. وإن لم يتم استباقه والعمل عليه بشكل جدّي من طرف جهات وطنية مؤمنة بالتغيير والإصلاح من داخل أجهزة الدولة ومن المجتمع، فسيحصل بأيدي قوى مصلحة نافذة مدعومة بلوبيات داخلية وخارجية من أجل إنقاذ منظومة المصالح، عبر إصلاحات شكلية وحلول وهميّة وخيارات لن يكون بإمكانها سوى تأجيل الانفجار الاجتماعيّ بعض الوقت، وستتسبب في ضياع وقت ثمين آخر على البلاد وتأخير استحقاقات التغيير الحقيقي لسنوات أخرى.

في هذا الإطار، تُفهم اليوم المناورات الانتخابية السابقة لأوانها والخروج المبكر لبعض الوجوه المعروف ارتباطها بلوبيات المصلحة في معركة الرئاسيات التي غدت على الأبواب، والمناورات الأمنية القضائية لإقصاء مرشّحين مفترضين، قد تكون لديهم حظوظ في المنافسة الجدية على المنصب وفي كسر "ستاتيكو" التوازنات الراهنة.

ورغم مناخات الانسداد ونزعات الاستبداد والخوف من المنافسة والتمسّك المحموم بالكرسي من طرف الرئيس الحالي الذي أثبت عجزه التام عن التغيير وعدم امتلاكه رؤية إصلاحية وحلولًا عملية، تبدو اللعبة مفتوحة نسبيًا. ويبدو المشهد مفتوحًا على كل الاحتمالات، بما في ذلك احتمال نجاح مشروع تغييري على يد مجموعة من التونسيين يلتقون حول مرشحٍ حامل لرؤية إصلاحية وبرنامج مرحلي واقعي وخطاب مسؤول، مدعومٍ من عدد من القوى السياسية والاجتماعية والشبابية، ومُطمئِنٍ لأجهزة الدولة الحريصة على استقرار البلاد والتي تتخبط اليوم في مناخ من العبث وضبابية الخروج من الورطة.

هناك لحظة تاريخية إستراتيجية يمكن اقتناصها، لو توفّر مرشّح ذو مصداقية، يمتلك رؤية إستراتيجيّة وخطابًا عقلانيًا بعيدًا عن التشنّج يوحّد المجتمع، ويحيط به فريق كفؤ ذو تجربة ومعرفة ونظافة يد، وتلتفّ حوله قوى سياسية ومجتمعيّة تعدّدية، وقادر على كسب ثقة أغلبية التونسيين وطمأنة أجهزة الدولة.

4- التغيير القادم يجب أن يكون مع الدولة لا ضدّها

كما أسلفنا، لن يحصل التغيير المنشود عبر ثورة ضد النظام. ولا تتوفّر اليوم شروط موضوعية لتحقيق تغيير جذري يقلب المعادلات الراهنة تمامًا، ويقضي بسرعة على منظومات المصلحة التي تسعى إلى تعطيل الإصلاح. وإنما سيكون غالبًا نتيجة تفاوض وتوافق وتفاهمات مع الدولة العميقة، عبر صندوق الاقتراع أو بدونه إن اقتضى الأمر.

يجب أن يقبل الجميع أن يكون التغيير المنشود متدرّجًا غير مستعجل ويستفيد من تجارب وأخطاء مراحل ما بعد الثورة ويأخذ الإيجابي من كل منها. لأن الهدف هو تحقيق تقدّم مُستدام وإصلاح للمنظومات وتطوير للعقليّات. ولا يمكن أن يحصل هذا إلا بحدود كبيرة من التوافق وتقليص التجاذبات وبناء بوصلة موحدة ومشتركات واسعة بين جزء وازن من الفرقاء السياسيين والاجتماعيين.

توفّر هذا الشرط سيمثل حافزًا للدولة العميقة والأجهزة الصلبة للتعامل إيجابيًا مع هذا المشروع التغييري، خاصة أنه يتماشى مع عقيدتها المبنيّة على الحفاظ على المؤسّسات ورفض الهزات وتجنّب النزاعات والمحافظة على التوازنات القائمة.

أجهزة الدولة من مصلحتها حصول تغيير هادئ يحظى بشرعية شعبية يُجدّد المؤسسات ويطوّر حوكمتها ويطهّرها بشكل هادئ وتدريجي من الفساد والمحسوبية، ويقوّي أسس الاقتصاد الوطني، ويعزّز اندماجه في الاقتصاد الدولي عبر الانسجام مع المعايير الكونية في الحوكمة الحسنة والشفافية والنزاهة، ويحسّن من سجل البلاد في الديمقراطية وحقوق الإنسان واستقلال العدالة كشروط لتحقيق الاستقرار الداخلي المستدام، ولتحسين مناخات الاستثمار والتنافسية وجلب الدعم الخارجي.

إذا كانت الشعبويّة مندفعة ومغامرة وفاقدة للعقل وحسن التقدير، فالدولة العميقة والأجهزة الصلبة عاقلة لا تُغامر، وإنّما يُفترض أنها تفكّر وتستشرف عواقب الخيارات المطروحة، وتوازن بين الحفاظ على المصالح الضيّقة الآنية والمصلحة العامة المستقبلية.

لا شك أن الدولة العميقة والأجهزة الصلبة قد قبلت بالانقلاب على الديمقراطية وشاركت فيه، وحاولت استعمال الشعبويّة لطيّ صفحة ما بعد الثورة وما تخلّلها مما تعتبره فوضى وفشلًا ونزاعات واستفحالًا للأزمات والفساد. والأكيد أنها تُدرك اليوم أنها ارتكبت خطيئة حينما سايرت انحرافَ الشعبوية وجنوحَها للاستبداد ونزعتَها التقسيمية للمجتمع وانبراءَها في تحطيم المؤسسات. خاصة بعدما أدركت أن تحطّم أعمدة الدولة الواحد تلو الآخر قد يتسبّب في نهاية المطاف في إسقاط كامل البناية على رأسها ورأس المجتمع.

ولا شك أن جزءًا من الأجهزة يتطلّع إلى إنقاذ الدولة من الانهيار والمجتمع من التقاتل، ويبحث عن بدائل عقلانية تضع حدًا للانحرافات المدمّرة وتمنع تواصل حالة التدمير الراهنة لخمس سنوات قادمة بشرعية متجدّدة. الأكيد أن تلك الأجهزة تعرف أنها غير قادرة على ذلك وحدها ولا تمتلك القدرة والمعرفة والآليات لتحقيق التغيير المنشود، عبر تسلّم تسيير البلاد بنفسها. وهي تعرف أيضًا أن ذلك الخيار محفوف بكل أنواع المخاطر ويحمّلها مسؤولية هي غير قادرة عليها.

كما أنها تعرف أنه لم يعُد لها مجال للخطأ في التعويل على دعاة تغيير وهمي أو وجوه معاد تدويرها من منظومة ما قبل الثورة، أو على شعبويّة من نوع آخر، لأن البلاد في مفترق طرق حقيقي: إما الإنقاذ والسير في اتجاه التغيير الحقيقي والمصالحة الوطنية الجدّية والانسجام الوطني، أو الانهيار والتناحر وفقدان السيادة.

السيناريو الأمثل أنْ تتحوّل الانتخابات القادمة إلى فرصة تلتقي فيها إرادة التغيير لدى مجموعة من التونسيّين يلتقون حول بوصلة واضحة ورؤية واقعية وطموحة ومرشّح عقلاني، مع رغبة أجهزة الدولة في التغيير الهادئ والمسؤول الذي يُعزّز الاستقرار ويبني شروط التنمية.

هذا السيناريو قابل للتحقق لو توفّرت الإرادة. والمعركة تستحق أن تُخاض؛ لأن نتيجتها حصول التغيير المنشود في تونس في وقت مأمول، وتقديم نموذج نجاح مهمّ لشعوب المنطقة ككلّ، كعادة تونس في تقديم النموذج وريادة المبادرات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.