بعد خفض الجنيه المصري.. متى تنتهي السوق السوداء؟

البنك المركزي المصري (الأناضول)

قامَ البنك المركزي المصري كالعادة في عمليات خفض سعر الجنيه أمام الدولار بثلاث خطوات متوازية معًا، تمثلت في رفع سعر الفائدة، وخفض سعر الجنيه أمام الدولار، وطرح أكبر بنكَين حكوميَين شهادات إيداع بفائدة مرتفعة في السادس من مارس / آذار الحالي، وهي نفس الخطوات الثلاثة التي قام بها البنك المركزي مع خفض سعر صرف الجنيه في نوفمبر / تشرين الثاني 2016.

ويهدف البنك المركزي إلى دفع حائزي الدولار إلى التخلص منه، واستبداله بالجنيه المصري للاستفادة من فارق سعر الفائدة، فإذا كانت الفائدة على الدولار بالولايات المتحدة تصل إلى 5.5 %، وتصل على شهادات الإيداع الدولارية لمدة ثلاث سنوات الصادرة عن بنوك حكومية مصرية إلى 7 %، كما تصل إلى 9 %، ولكن يتم الحصول على الفائدة بالجنيه المصري مقدمًا، بينما شهادات الادخار الجديدة بالجنيه المصري يصل عائدها بالسنة الأولى 30 %، والسنة الثانية 25 %، والسنة الثالثة 20 %.

وكان هذا الفارق الكبير المشابه في سعر الفائدة قد تسبب عام 1991 في تخلص كثير من المصريين من الدولار، وحوّلوه إلى الجنيه المصري للاستفادة من فارق سعر الفائدة، في ضوء استقرار سعر صرف الجنيه أمام الدولار لستّ سنوات متتالية، ولكن مسألة الثقة في استقرار سعر صرف الدولار حاليًا تحتاج إلى براهين عملية، وهو ما يتطلب بعض الوقت حتى يثق الجمهور ورجال الأعمال في توفير البنوك للدولار، لمن يطلبه بسعر البيع المُسجل على شاشات أسعار الصرف بصالات البنوك، وحتى يجد المستوردون احتياجاتهم من الدولار، ولو بعلاوة تدبير عملة يزيد بها السعر عن السعر المُسجل للبيع بشاشة الأسعار.

  تأخر استجابة المركزي عزز سعر الموازية

ولقد استعدّت الحكومة لحدث خفض سعر الصرف المرتقب منذ عدة شهور، من خلال ما قامت به من إجراءات مكثفة خلال الشهر الماضي، تمثلت في حملات أمنية، لم تكتفِ بالمتاجرين بالعملات الأجنبية خارج القنوات الرسمية حسب القانون، بل امتدت لحائزي العملات الأجنبية والتي وصلت إلى حد تفتيش السيارات والمكاتب، رغم عدم قانونية تلك الإجراءات، حيث أباح القانون منذ 48 عامًا حيازة العملات الأجنبية وإيداعها بالبنوك، أو تحويلها للخارج، والخروج بعشرة آلاف دولار عند السفر خارج البلاد.

وفي ضوء اتجاه البعض للاستثمار في الذهب والمرتبط بسعر الدولار، فقد امتدت الحملات الأمنية لبعض تجار الذهب ووقف التسعير لهم ببعض الأيام، وكذلك رفع الفائدة على أذون الخزانة المصرية حتى لامست مستوى الثلاثين بالمائة؛ استهدافًا لجذب الأموال الساخنة، ورفع الفائدة على الودائع وإصدار شهادات إيداع في يناير/كانون الثاني الماضي بفائدة 27 %؛ لدفع بعض حائزي الدولار للتحول للإيداع بالجنيه مرتفع الفائدة، إلى جانب تسريب خبر صفقة أرض رأس الحكمة بالساحل الشمالي، وما ستدرّه من موارد دولارية.

وما أعقبه من توقيع اتفاق تحصل مصر بموجبه على 24 مليار دولار من الإمارات، منها عشرة مليارات وصلت بالفعل والباقي خلال شهرين، والشحن الإعلامي للتأثير في حَمَلة الدولار من صغار المتعاملين للتخلّص منه، وهكذا تسببت كل تلك العوامل في التأثير على  الأسعار بالسوق الموازية ليهبط السعر من سبعين جنيهًا للدولار إلى ما حول الخمسين جنيهًا، ومع وصول العشرة مليارات دولار هبط السعر عن ذلك، ودار حول الأربعين جنيهًا مع جمود الطلب،  لكن تأخر المركزي في خفض سعر الصرف، وامتناعه عن فتح الاعتمادات المستندية حتى اليوم السابق للخفض الأخير، تسببا في صعود السعر بالسوق الموازية ليتخطى 46 جنيهًا للدولار .

  العجز الدولاري بالبنوك يفوق صفقة الإمارات

وانتهز البنك المركزي تقلص فارق السعر بين السعر الرسمي والموازي فيما بين 70 – 31 جنيهًا إلى ما بين 46- 31 جنيهًا، ليبدأ بسعر 40 جنيهًا للدولار في السادس من مارس / آذار، واستمر السعر في الصعود حتى تخطى الخمسين جنيهًا بنهاية تعاملات اليوم الأول، بينما زاد السعر بالسوق السوداء إلى أكثر من 55 جنيهًا للدولار، وهكذا فنحن أمام فترة من التصارع بين السعر الرسمي والسعر بالسوق الموازية، تتحدد مدته حسب تمكن البنوك من الاستجابة لاحتياجات السوق من العملات الأجنبية.

وهي عملية نراها صعبة وتحتاج لبضعة شهور حتى بعد إعلان رفع قيمة قرض صندوق النقد الدولي لمصر إلى 8 مليارات دولار، إذ سيكون منحه على أقساط كالمعتاد، كما أن مستحقات الصندوق خلال العام الحالي تبلغ حوالي 5 مليارات دولار، وحتى في حالة إتمام صفقات بيع حصص من شركات حكومية أو بيع أراضٍ جديدة خلال الشهور المقبلة، وذلك لأن الاحتياجات الدولارية عديدة وكبيرة، والوفاء بها يتطلب بعض الوقت، ومن ذلك بلوغ العجز الدولاري بالجهاز المصرفي حتى يناير / كانون الثاني الماضي 29 مليار دولار.

والحاجة لحوالي 7 – 8 مليارات دولار للإفراج على البضائع المكدسة بالموانئ، إلى جانب البضائع القادمة بالطريق إلى الموانئ، والاحتياجات الاستيرادية الشهرية التي تصل لحوالي 7 مليارات دولار كمتوسط بالعام الماضي، في ظل ترشيد الواردات، بينما هناك استيراد مكبوت منذ فبراير/ شباط 2022 وحتى الآن، مما يعني زيادة المتوسط الشهري للواردات خلال الشهور المقبلة.

إلى جانب مستحقات شركات البترول والغاز الطبيعي المتأخرة، وكذلك قيمة الأرباح المتأخرة التي تود الشركات الأجنبية العاملة بمصر إخراجها، والمدفوعات الخدمية للخدمات المصرفية والتأمينية والسياحية والصحية والتعليمية والهندسية والترفيهية والرياضية، وغيرها من فتح حدود البطاقات الائتمانية للمسافرين للخارج، وكذلك أقساط الدين الخارجي وفوائده المستحقة، فحتى في حالة تجديد الودائع والديون العربية، فهناك مستحقات للسندات وللمؤسسات الدولية والإقليمية لا يمكن تأخيرها، إلى جانب فوائد الدين قصير الأجل في حالة تأجيل سداد أقساطه، وقرب عمرة رمضان التي تحتاج لكمّ من الريالات السعودية.

ويضاف لذلك الظروف الاقتصادية الحالية والمتمثلة في تراجع إيرادات قناة السويس، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، مع تأخر تحويل الشركات الأجنبية العاملة بمصر في تحويل أرباحها للخارج، وحاجة دورة الإنتاج بشركات التصدير، حتى تدبر المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، وتدني التصنيف الائتماني لمصر مما يصعب من مهمة طرح سندات بالأسواق الدولية، مثلما حدث بعد خفض الجنيه عام 2016 والتي جلبت 6 مليارات دولار وحدها عام 2017.

وجاء الارتفاع الأخير لسعر الذهب عالميًا قبل أيام لمعدلات غير مسبوقة تاريخيًا حين بلغ 2142 دولارًا للأوقية، مما يدفع المقتنين للذهب للاحتفاظ به؛ أملًا في ارتفاع سعره، مع الخفض المتوقع لسعر فائدة الدولار الأميركي خلال النصف الثاني من العام الحالي.

من كل ما سبق يتبين ضرورة توفير البنوك البديل للسوق عن الاحتياج للسوق السوداء، فبدون ذلك ستظل مستمرة، على الأقل للوفاء باحتياجات أنشطة تهريب السلع والمخدِّرات والأسلحة، وغيرها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.