ثورة الجياع قادمة.. وإن تأخّرت

شام مصطفى- دمشق- صورة تبين مظاهر الفقر في سوريا- أرشيف االمراسلة
ارتفاع معدلات الفقر في كثير من الدول العربية والإسلامية يهدّد بحدوث كثير من الأزمات والاضطرابات (الجزيرة)

عندما سقطت الأنظمة الاشتراكيّة في أنماطها الأشدّ بأسًا والأشدّ بؤسًا، وحتى نتجنّب التعميم هناك أنماط أخرى من الاشتراكية استطاعت أن تجمع إلى حد ما بين فضائل الاشتراكية النظرية، وفضائل الليبرالية الواقعية.

هلّل الرأسماليون فرحين بانتصارهم الأيديولوجي، ولكن بعد ذهاب سكرة فرحهم تنبّهوا إلى أنهم بسقوط هذه الأنظمة قد فتحوا على أنفسهم أبوابًا من البلاء لم يكونوا مستعدين له، ولسان حالهم يقول: "ماذا سنفعل مع هذه الشعوب التي تحررت من القبضة الحديدية والتي ستنطلق الآن زحفًا نحو جنتنا الشمالية".

فكان الجواب افتحوا الأبواب على مصراعيها لحركة السلع والأشياء حتى ينغمسوا في ثقافة الاستهلاك الرأسمالية وضيّقوها إلى الحد الأدنى لحركة البشر حتى يحموا مجتمعاتهم من خطر ما يسمّونه "الاستبدال الكبير".

نظام رأسمالي متوحش

أظنّ – وليس كل الظن إثمًا – أن العقول الإستراتيجيّة الغربية الكبيرة قد انتبهت إلى أمر في غاية الأهمية. لقد انتبهت إلى أن الحضارة الغربية لم تعد تبهر العالم بفكرها ولا بمنظومة قيمها الزاهية نظريًا، والتي نجحت لفترة طويلة في التعتيم على وحشية النظام الرأسمالي وأضفت عليه نعومة جاذبة بالرغم من وهميتها.

فعمدت إلى تشتيت الذهن وتبديد سلطة العقل وعطّلت ملكتي التّدبر والتأمّل وإطلاق الغريزة بكسر كل القيود وإسقاط كل الضوابط فهيمنت ثقافة الاستهلاك، ولم يعد بالإمكان التركيز على أي شيء.

الصور والمشاهد تتلاحق في زمن العولمة والثورة المعلوماتية فتاهَ العقل في دروبها المتشعبة حتى أضحت المآسي التي أمامه مجرّد أرقام باهتة.

ثم تتالت بعد ذلك الإجراءات القانونية المتشددة لدخول الأجانب إلى "جنتهم". كانت تلك الإجراءات تصدر تحت لافتة محاربة الإرهاب. تلك الصناعة الاستخباراتية الدقيقة التي لا تبدو إلى العيان إلا لمن خبرَ مكوناتها الحقيقية. منظومة متشابكة تتقاطع فيها أضلاع ثلاثة: المخطط والمُمّول والمنفذ.

اختفى من المشهد الضلعان؛ الأول والثاني، ووقع التركيز على الثالث في إخراج هوليودي على درجة كبيرة من الإتقان لهيئته وشعاراته الإسلامية.

تدمير القيم

كانت الخطة جدّ مُحكمة، حيث مكّنت المؤسسات الرأسمالية الكبرى من تحويل محور الاهتمام، واختفت صيحات ضحاياها وآهاتهم، حالة من الهلع المبرمج، ولم يعد الحديث عن الفوارق الاجتماعية – وما ينتج عنها من صراعات ومآسٍ – ذا أهمية.

من ناحية أخرى، ظنّ الأغبياء أنه بسقوط الأنظمة الشيوعية، سقطت معها قضية العدالة الاجتماعية محور الاهتمام في النظرية الشيوعية. عزّز هذا الانطباع ما تركته الأنظمة الشيوعية من انطباع سيئ على الشيوعية؛ بسبب فظاعة المجازر التي ارتكبتها في حق المسلمين الذين خضعوا لسلطتها القهرية، ثم ترسّخ هذا الانطباع أكثر بسبب هرولة معظم اليساريين في البلدان العربية والإسلامية إلى التحالف مع الأنظمة الدكتاتورية "العقلانية"، مبررين ذلك بأولوية المعركة ضد "الظلامية الدينية".

انتهى بهم الأمر بعد أن تمرّغوا في فضلات الرأسمالية إلى التطبيع مع هذا الوضع الجديد، وتطوير ثقافة النضال المريح فتحولوا إلى أقلام ناعقة دفاعًا عن منظومة الفساد المالي والسياسي، وانخراطًا في سياسة تدمير ممنهجة للقيم والأخلاق.

حُوصر الفقراء في بلدانهم وفقدوا ما كانوا يعتبرونه نصيرًا لهم، وتحكّم في معاشهم الرأسمال المحلّي. لمّا أوصل الصندوق الانتخابي الإسلاميين إلى واجهة السلطة في بعض البلدان، وظنّ المستضعفون أنهم سيجدون من الإسلاميين – الذين أعلنوا انحيازهم للمستضعفين سندًا بديلًا، لكن خاب أملهم.

فقد جاء الإسلاميون أو لنقلْ أولي الشوكة منهم ببدعة جديدة عنوانها: "الاندماج في الدولة"، وأصبح همّهم أن يجدوا بعض الرضا من محترفي رذيلة التماهي مع الفساد من "أعدائهم القدامى" المتربعين على عرش الإعلام، فكلما زادوهم جلدًا قالوا لهم صبرًا أنتم أكثر منّا معرفة بنواميس الحكم، وأكثر منّا تجربة في التعامل مع الدولة، ونحن مستعدّون للتعلّم منكم والاستفادة من تجاربكم.

غابت من قاموسهم فكرة العدالة الاجتماعية وغابت من اهتمامهم هموم الفقراء والمساكين. وقد كان الطلبة الإسلاميون في زمن نضالاتهم في الجامعات يستهلون بياناتهم وخطبهم باسم الله ناصر المستضعفين وقاصم الجبَّارين.

أم القضايا

اشتدت العداوة بين الإسلاميين واليساريين وأخذت في ظاهرها طابعًا أيديولوجيًا، ولكنها في حقيقتها تعود لأسباب أعمق من الأيديولوجيا وأقرب إلى الصراع على المواقع الرمزية والمادية.

خشيت قوى اليسار من ناحية أن يزاحمهم الإسلاميون الاجتماعيون على قلّتهم في مواقعهم الرمزية وأن يصبحوا من أنصار العمل النقابي ومن المدافعين عن حقوق العمّال. وأن ينافسهم الانتهازيون والبراغماتيون من الإسلاميين على التموقع في مفاصل الدولة من خلال مغازلة الدولة العميقة والتقرب من مافيتها المالية.

لقد أصبحت المنافسة على وهْم المبدأ من ناحية والمنافسة على الرداءة من ناحية أخرى المحرّكين الأساسيين لصراع اليساريين مع الإسلاميين.

وبالرغم من كل ذلك ما زالت قضية العدالة الاجتماعية أم القضايا وستظل. منذ أن كتب روسو – وقبل ماركس بعقود – كتابه "أصل التفاوت الاجتماعي" والعقل الإنساني يجتهد لتفادي زلزالها، ولكنه آتٍ لا محالة؛ لأن النظام الرأسمالي المتوحّش – ولئن استطاع أن يعدّل من توحشه في مواطنه الأصلية، حيث أقدم على الكثير من الإصلاحات الاجتماعية المرهونة في دوامها بمواصلة سياسة النهب الممنهجة لخيرات الشعوب الأخرى. نجح النظام الرأسمالي في الاستمرار بفعل قدرته – إلى الآن – على تأمين شروط قوته.

ما يجب ألا يغيب عن الأذهان أن الغرب المتمدن مع نفسه لا يستطيع إلّا أن يكون متوحشًا مع غيره بحكم ما يفرضه تحقيق الشروط اللازمة لتأمين التكلفة العالية للمواطنة الراقية التي عوّد عليها مواطنيه، ولا يمكن له تأمين حق الصحة وحق التعليم والرفاه العام دون اللجوء إلى نهب خيرات الشعوب الأخرى. ترسانة الغرب من تعاليم حقوق الإنسان تنهار دفعة عندما يتعلق الأمر بحماية شروط قوته.

لا فرق عندي بين الطيار العسكري الذي يلقي من علو شاهق القنابل المدمرة للحجر والشجر والبشر، وبين ذلك الموظف السامي الذي يجلس في مكتب من مكاتب تلك المؤسسات المالية الدولية الناهبة ليرسم إستراتيجية النهب فيُسقط بكل قرار يصدره لصالح الرأسمال آلافًا بل ملايين الضحايا.

سيُلقي الفقراء بأنفسهم في البحر ليضحوا بحياتهم على أمل أن ينقذوا حياتهم وستتركهم قوارب النجاة يغرقون، وهم على نجاتهم قادرون، وسيتلاعب بقضيتهم المتلاعبون، ولكن إلى حين، وقد تخدّرهم لبعض الوقت خطابات النعيم المؤجل، ولكن ثورتهم قادمة لا محالة.

نقدّر أن من بين العوامل المهمّة التي تجعل المسألة الاجتماعية تلقى الاهتمام المطلوب في البلاد العربية والإسلامية هو انتهاء الصراع الأيديولوجي بين اليساريين والإسلاميين، أو بالأحرى انتهاء نفوذ اليساريين الأيديولوجيين ونفوذ الإسلاميين النفعيين، والالتقاء التفاعلي بين اليساريين الاجتماعيين والإسلاميين الوطنيين. فيلتقي أصحاب الهمّ الاجتماعي بحاملي المبدأ القرآنيّ للعدل الاجتماعي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.