لو انتصرت النازية.. كيف سيكون حساب أميركا؟

من كان يظن استمرار بشار الأسد؟ (الفرنسية)

ماذا لو انتصرت النازية، لا سمح الله، ولو ضحّت بهتلر؟
سؤالي عن وجود «الحقيقة» مهما تتقادم، لا أقصد تقييم الشخصيات، مثل أخناتون الذي يختلف فيه الرأي، بين نبي مثالي، وملك ضعيف.
الحقيقة أن ملكه تداعى، وكادت الدولة تسقط، لولا قبضة قائده العسكري حور محب. ما عدا «حقيقة» سقوط أخناتون يظل التاريخ مطية المنتصرين، يُملونه على الكَتَبة، ويقدسه المغفلون.

من كان يظن، في ربيع 2011، أن يطول عمر بشار الأسد، ويشارك في القمة العربية في جدة، في مايو/أيار 2023، وفي القمة العربية والإسلامية المشتركة بالرياض، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023؟
الملايين من الضحايا في القبور والمنافي، طوال هذا النزيف، تخيلوا له مصيرًا آخر، ولا بدّ أن «حضوره» يؤرق أرواح أبرياء رأوا مصير صدام حسين، إذ سقط أسيرًا في يد الاحتلال الأميركي، فأخرج له من الأضابير قضية الدجيل، جواز مرور إلى المشنقة. فكيف ستُؤرخ فصول المأساة السورية؟
الطغاة يخشون الحقيقة. في فيلم «عمر المختار»، قال ضابط صغير لقائده، وهما يمارسان القتل، لتأديب الثوار، «المتمردين»:

  • ألا تخشى أن يذكر لنا التاريخ ارتكاب هذه الصغائر؟
    رد القائد:
  • الخوف أن تنسانا روما.
    وقد نسيتهما روما، ونسيهما تاريخ احتفظ بصفحة مجيدة لعمر المختار والذين معه.

هيكل ومبارك وبينهما الفقي

واقعة قريبة رواها طرفان بصيغتين. في كتابه: «مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان» (2012)، ذكر محمد حسنين هيكل أنه كان يجهز لكتابه: «حرب الخليج» (1992)، واتصل به حسني مبارك، بعد انقطاع طويل، وسأله مباشرة عن صحة ما نشرته الصحف عن سفره، لمقابلة الملك حسين؛ «لأنك تكتب كتابًا عن حرب الخليج!».

أجاب بأنه سيقابل الملك وغيره، فقال مبارك: «الملك سوف يكذب عليك». وبعد عودته إلى القاهرة اتصل به مبارك، وسأله بالمباشرة نفسها: «هل كذب عليك، وروى لك ما يشاء لكي يبرر موقفه؟!!». وبادر مبارك بإطلاع هيكل على ملفات الرئاسة السرية الخاصة بحرب الخليج، «شرط عدم تصويرها»، وإرسالها على مراحل مع مصطفى الفقي سكرتير الرئيس للمعلومات. وكلما اطلع هيكل على جزء وافاه بآخر.

فتح الفقي الدفعة الأولى، وانهمك هيكل في القراءة، وصارح الفقي بالاكتفاء بما قرأ؛ فالملفات تبدو «مكتوبة بأثر رجعي»، بعد الحرب، «محررة بتوجيه، لكي ترسم صورة معينة قد لا تكون موافقة لحقيقة ما جرى!!».

خبرة هيكل بقراءة الوثائق دفعته إلى العزوف عن استكمال قراءة ما سيحمله إليه الفقي «غدًا وبعد غد»، وآثر أن يكتب استنادًا إلى ما يتوصل إليه، لا ما يُقدم إليه مما يشكّ فيه؛ فقراءته للملفات ستقيّده، وربما تلزمه بما لا يقتنع به. وأعاد الفقي الأوراق إلى الحقيبة، وقال بإيجاز: «لا تعتمد فيما تكتب إلا على ما تثق فيه، ولا تسألني أكثر من ذلك!!».

وصدر الكتاب، فأغضب مبارك. وفي عشاء عند صديق مشترك همس الفقي إلى هيكل: «لا تجعل شيئًا مما يقال يضايقك، الحق كان معك، والواقع كما أعرفه من موقعي أفظع بكثير من أي شيء قلته في كتابك!».

انتهت رواية هيكل لواقعة شغلت أكثر من خمس صفحات، في كتاب صدر في حياة مبارك. وبعد وفاة هيكل ومبارك، روى الفقي الواقعة في سيرته: «الرواية.. رحلة الزمان والمكان» (2021)، في أقل من سبعة سطور. قال: إن هيكل طلب إليه الاطلاع على الرسائل المتبادلة بين مبارك وصدام، فاستأذن مبارك وأقنعه بأن هيكل، بعد لقائه بالملك حسين، «من غير المستحب أن نحجب عنه ما لدينا، فوافق الرئيس… والطريف أنني عندما ذهبت إلى هيكل، تصفحها في دقائق قليلة، دون اعتناء، وأعادها لي شاكرًا، وقال ليس فيها جديد».

أيهما نصدق؟ في حياة مبارك، نشر هيكل رواية محددة، طرفاها هيكل ومبارك، ويشهد عليها الفقي الذي انتظر موت هيكل؛ ليكتب رواية يضع فيها نفسه في جملة مفيدة، جسرًا بين هيكل والرئيس.

السياق أكبر من مجرد الاطلاع على «وثائق»، رواية هيكل تمثل علاقة ندية بين صحفي ورئيس يبادر بالاتصال، ولعله يخشى رواية من خارج الحدود تنقُض ما أمر بكتابته بعد سكوت المدافع، وما أراد الإيعاز به إلى كاتب مرموق تتسع دوائر قرّائه فتتجاوز حدود العالم العربي، ثم يعاود الرئيس الاتصال بالصحفي؛ للسؤال عن الرواية الأخرى.

لم يردّ مبارك أو الفقي على رواية هيكل عام 2012، لكن الرواية الأقل من سبعة سطور، في «السفر الأمين» للفقي، تجاهلت هذه التفاصيل، وأسقطت همس الفقي عن واقع «أفظع بكثير» مما كتبه هيكل.

بين كتابة التاريخ ومحاسبة صناعه

لا اتفاق على رواية واحدة لواقعة عصرية، فكيف نصدق رواية كتبها صنّاعها المنتصرون؟

الجنون الأميركي في فيتنام كافٍ لمحاكمة المسؤولين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، يذكر المؤرخ الأميركي هوارد زِن، في كتابه: «التاريخ الشعبي للولايات المتحدة»، أن المخابرات الأميركية أعدمت في برنامج سري يسمى: «عملية العنقاء» أكثر من عشرين ألف مدني فيتنامي، لشكوك في انتمائهم إلى منظمات شيوعية سرية.

وأن أميركا أسقطت سبعة ملايين طن من القنابل، «وهو ما يفوق أكثر من مرتين إجمالي ما أُلقي من قنابل على أوروبا وآسيا في الحرب العالمية الثانية؛ أي قنبلة تزن خمسمئة رطل لكل إنسان في فيتنام… أُلقيت غازات سامة بالطائرات لتقضي على الشجر… منطقة باتساع ولاية ماساشوستس قد غطيت بهذه الغازات»، فضلًا عن تشوهات الأطفال.

ويسجل هوارد زِن، في الكتاب الذي ترجمه الدكتور شعبان مكاوي (1963 ـ 2005)، أن جنودًا أميركيين أحاطوا في 16مارس/ آذار 1968 بسكّان قرية ماي لاي، وفيهم العجائز والرضع، وأمروهم بالنزول إلى خندق كبير، وقتلوهم. ثم قال الجندي جيمس دورسي، في شهادته أثناء المحاكمة: «كان الناس يغطسون تحت بعضهم البعض، وكانت الأمهات يحاولن حماية أطفالهن»، وإن الضابط كاللي أمر الجندي بول دي ميدلو بإطلاق النار، وهو نفسه «الجندي الذي كان يطعم الأطفال الشوكولاتة قبل أن يطلق الرصاص عليهم»، كان الجندي يطلق النار ويبكي.

وينقل هوارد زِن عن الصحفي الأميركي سيمور هيرش، الذي تقصّى مذبحة ماي لاي، أنهم عثروا على مقابر جماعية في ثلاثة مواقع، فضلًا عن خندق مكدس بنحو 500 جثة «معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن»، وينقل هيرش قول جندي أميركي في خطاب إلى أسرته: «كنا اليوم في مهمة وأشعر بالخزي من نفسي ومن أصدقائي ومن بلدي. لقد أحرقنا كل كوخ وقعت عليه عيوننا. كانت هذه شبكة صغيرة من القرى، وسكانها فقراء فقرًا شديدًا. قامت وحدتي بحرق ممتلكات هؤلاء الفقراء وسلبها… كان الكل يبكي ويتوسل إلينا بألا نفصل بينهم بأخذ الآباء والأزواج والأبناء والأجداد. وكانت النساء تبكي وتنوح. كانوا ينظرون إلينا في رعب ونحن نحرق منازلهم وممتلكاتهم الشخصية وطعامهم. نعم كنا نحرق الأرز ونقتل الماشية».

النسخة الصهيونية من الجريمة الأميركية ذكر جانبًا منها رئيس وزراء إسرائيل موشي شاريت. في كتاب: «إرهاب إسرائيل المقدس» تدرس الكاتبة الإسرائيلية ليڤيا روكاش يوميات شاريت، وفيها شهادة لجندي شارك، عام 1948، في احتلال قرية الدوايمة الفلسطينية: «قتلت ما بين 80 إلى 100 عربي، من النساء والأطفال. لقتل الأطفال، كانوا يقومون بتحطيم رؤوسهم بالعصي. لم يكن هناك منزل واحد بلا جثث… أمر قائدنا بإحضار امرأتين إلى المنزل الذي كان على وشْك تفجيره… جندي آخر افتخر بأنه اغتصب امرأة عربية قبل إطلاق النار عليها وقتلها. أمر الجنود امرأة عربية أخرى معها رضيعها بتنظيف المكان لمدة يومين، وبعد ذلك أطلقوا النار عليها وعلى طفلها».

من البريرية إلى الاضمحلال

أعود إلى سؤال البداية: ماذا لو انتصرت النازية، لو ضحّى النظام بزعيمه لتستمر النازية؟
كنا سنرى مشهدًا آخر، ومحاكمات أخرى، وتفاصيل مختلفة على خريطة العالم. لكن النازية سقطت والحمد لله، وصعد نازيون جدد. ولم تُحاسَب إسرائيل على جرائمها ضد الإنسانية، ولا الولايات المتحدة التي قتلت نحو خمسة ملايين فيتنامي، وحرقت 37 مليون فدان من الزروع والغابات، وخلفت 55 ألف قتيل أميركي، لتأكيد القوة، وخدمة لرأس المال، وهو ما عبر عنه كيسنجر بقوله: «على الولايات المتحدة أن تقوم ببعض الأفعال في مكان ما بالعالم لتأكيد استمرارها كقوة عالمية».

كان لأميركا أن تتجنب إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان الموشكة على الاستسلام. وكان لها وللحلفاء ألا ينسفوا مدينة دريسدن الألمانية، تلك جريمة استعراضية ارتكبوها بلا داعٍ، والحرب تكاد تنتهي ومعها هتلر. يذكر هوارد زِن أن درجة الحرارة الناتجة عن القصف قتلت مئة ألف ألماني.

خلاصة السلوك الأميركي الإمبريالي يؤكد مقولة أنها الدولة الوحيدة التي ستنتقل من البربرية إلى الاضمحلال، من دون المرور بالحضارة. تلك مقولة يرجح أن قائلها أوسكار وايلد. أما إسرائيل فليست إلا جيشًا يحيط به مجتمع، كعائلات جنود الاحتلال البريطاني في مصر. في البدء جاءت العصابات الصهيونية المسلحة إلى فلسطين، قبل استقدام «الشعب»، والتقاطه من الشرق والغرب. الكيان الوحيد في التاريخ الذي يستجدي «مواطنين»، لا بقاء للقطاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.