الانتخابات الباكستانية وتداعياتها على المؤسسة العسكرية

رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان (الجزيرة)

ربما خسرت المؤسسة العسكرية الباكستانية جولة من جولات المعارك مع طرف سياسي باكستاني ممثلًا الآن بحزب "الإنصاف" بزعامة عمران خان القابع الآن في السجن. خسرت تكتيكيًا وليس إستراتيجيًا، وكما عوّدتنا المؤسسة على مدى تاريخ باكستان الذي حكمته مناصفةً تقريبًا مع المؤسسة المدنية، بأنها كطائر الفينيق الذي يخرج من رماد المعارك والحروب السياسية- التي لطالما اندلعت بين العسكري والمدني- أكثر قوة.

ولكن يبدو أن هذه المعركة ليست كسابقاتها من المعارك، فالظروف والمعطيات الداخلية الباكستانية لم تعد كما كانت، ينضاف إليها الأوضاع الإقليمية المحيطة بباكستان، والتي أزاحت أحزابًا سياسية سُلالية عريقة، مثل: آل غاندي في الهند، وبانداريكا في سريلانكا، وهو في الغالب عامل مهم للأثر والتأثير، نظرًا للعلاقات التاريخية المتشابكة في هذه المنطقة مع بعضها بعضًا، فإرثها السياسي قريب من بعضه بعد أن حُكمت من قبل إمبراطورية بريطانية واحدة لعقود مديدة.

يعزو البعض الآخر عودة عمران خان القوية هذه إلى الواقع الاقتصادي المتردي الذي ألمّ بباكستان عد عزله من تضخم غير مسبوق، بالإضافة إلى ارتفاع كبير في الأسعار

السُّلاليون يتحالفون

على الرغم من كل القيود والمضايقات التي تعرّض لها حزب عمران خان فإنه كان أكبر المجموعات البرلمانية فوزًا بمقاعد الجمعية الوطنية، والذي بلغ عدد مقاعده حوالي 100 من أصل 266 مقعدًا، وجاء ترتيب حزب "الرابطة الإسلامية" بزعامة نواز شريف في المرتبة الثانية حيث حاز 63 مقعدًا، بينما كان نصيب حزب "الشعب الباكستاني" بزعامة آصف زرداري وابنه بيلاول بوتو زرداري 50 مقعدًا فقط.

اليوم يتحالف السلاليون في باكستان ممثلين في سلالتَي شريف وبوتو، وهما قد حكما باكستان في أشبه ما يكون بسياسة الباب الدوّار، يتحالفان سوية من أجل قيادة الحكومة المقبلة بزعامة نواز شريف، ويأتي تحالفهما في إشارة قد التقطاها بأن المخاطر تهددهما مجتمعين بعد بروز حزب "الإنصاف" بزعامة عمران خان الصاعد الأقوى والمتفوّق عليهما في الانتخابات الأخيرة.

وهو غدا بالمقابل تهددًا ليس للمؤسسة العسكرية فحسب، وإنما حتى للأحزاب السلالية التي تراوحت حياتها السياسية بين التوتر مع العسكر والتناغم معهم، ولكنها في النهاية تظل ملتزمة بحد أدنى من اللعبة السياسية الناظمة في البلاد، حيث يلعب العسكر دورًا رئيسًا فيها، إما بشكل مباشر عبر انقلابات عسكرية، أو عبر أدوات أخرى من خلال مؤسسة الرئيس، أو مؤسسة القضاء بحسب تعاون وتناغم إحداهما معه.

الظاهر أن طبيعة الحكومة الباكستانية المقبلة ستكون مثقلة، أولًا بضعف التفويض الشعبي الممنوح لها، ما دامت كبرى المجموعات البرلمانية الباكستانية فوزًا في الانتخابات تجلس في المعارضة، بالإضافة إلى تنازع الحكومات المحليّة الأربع لأكثر من جهة سياسية.

فحكومة البنجاب أهم الأقاليم الباكستانية ستكون من نصيب حزب "الرابطة الإسلامية" وحزب "الشعب"، وستقود الحكومة كما هو مقرّر مريم نواز شريف ابنة الأخير، لكن هذه الحكومة ستواجه معارضة شرسة إذ إنّ عدد مقاعد عمران خان في برلمان البنجاب يصل إلى 114 مقعدًا، بينما عدد مقاعد نواز شريف يبلغ 138 مقعدًا، وهو فارق ضئيل ستظل أي حكومة بنجابية تشعر بالضعف إزاء المعارضة.

ونفس الأمر ستعانيه الحكومات الإقليمية الأخرى المتنازع عليها بين الأحزاب الفائزة، وهو ما يضع حكومة المركز أسيرة ورهينة ابتزازات الأحزاب السياسية الحاكمة في الأطراف.

خان والخطر على العسكر والسلاليين

أثبت حزب "الإنصاف" بزعامة عمران خان أنه في كل مرة يُجبر فيها على العودة إلى الشعب لنيل تفويضه، يزيد ويضاعف من شحن بطارية تفويضه بأقوى مما كانت عليه، فعلى الرغم من التاريخ القصير للحزب، فإنه تمكّن من هزيمة حزبَين رئيسَين باكستانيَّين تصدّرا الساحة السياسية لعقود، وهزم معهما المؤسسة العسكرية، بل وتحدّاها بقوة، وأضرّ بسمعتها يوم هاجمها لأول مرة ناشطوه وأتباعه، فأحرقوا بعض مقراتها.

وتجرأ زعيم الحزب عمران خان المسجون حاليًا على النيل وبقوة من قائد الجيش الجنرال عاصم منير والعسكر؛ نتيجة تدخلاتهم في السياسة الداخلية، وهو تقليد غير مسبوق في تاريخ العلاقة بين السياسي والعسكري في باكستان.

فبعد عزل عمران خان من الحكم بضغوط أميركية – كما أعلن خان نفسه عن ذلك في أبريل/ نيسان 2022 – أُجبر بعد أسابيع من هذا على خوض الانتخابات التكميلية للتنافس على 20 مقعدًا، فكانت النتيجة صادمة لمنافسيه وللعسكر، حيث فاز بـ 15 مقعدًا من أصل 20 مقعدًا، مما شكَّل يومها مؤشرًا للقوى المعارضة له بأنه قوة لا يستهان بها، وأن شعبيته في تصاعد وتنامٍ.

وبينما لم تستفق المؤسسة العسكرية أو الأحزاب السياسية المناوئة له من الصدمة، فقد جرت انتخابات تنافسية تكميلية أيضًا على سبعة مقاعد في أكتوبر/ تشرين الأوّل من عام 2023، ففاز الحزب بستة مقاعد منها، وهو ما أدهشَ المعارضين وحتى أشدّ المتشائمين بهزيمته.

لكن انتخابات 8 فبراير/ شباط الأخيرة شكلت الصدمة الأهم ليس للأحزاب المعارضة فقط، وإنما للعسكر الذين كانوا يراهنون على فوز أكبر لنواز شريف الذي رعته المؤسسة العسكرية منذ أيام ضياء الحق في عام 1977 يوم قدّمه الأخير كوزير لمالية حكومة البنجاب، على الرغم من فترات صدام ومواجهة مع برويز مشرف، ولكن الرهان لم يكن في محله بعد أن تقدم عمران خان الأحزاب الرئيسة في الفوز بعدد أكبر من مقاعد البرلمان.

هذا الظهور القوي لعمران خان – رغم التهم التي أُدين بها، والمسجون حاليًا – شكل صدمة حقيقية للعسكر قبل غيرهم من القوى السياسية، وهنا يتساءل البعض عن سرّ هذه العودة القوية والسريعة لخان، فبينما يعزوها البعض إلى موقفه الشرس والمتشدد ضد العسكر، وتحديهم له، وهو ما يُعجب جيل الشباب وجيل الـ Z، حيث دخل أكثر من 22 مليون ناخب في الانتخابات الأخيرة، مقارنة بانتخابات 2018، التي جلبته إلى السلطة، قبل أن يُعزل منها في أبريل/نيسان 2022.

ومعلوم أن الشريحة الأساسية التي يعتمد عليها الحزب في الانتخابات، هي شريحة الشباب، بينما يعزو البعض الآخر عودة عمران خان القوية هذه إلى الواقع الاقتصادي المتردي الذي ألمّ بباكستان بعد عزله من تضخم غير مسبوق، بالإضافة إلى ارتفاع كبير في الأسعار.

التهديد الداخلي الذي يشكله خان على هاتين القوتين، تعدّاه إلى التهديد الخارجي برسالة عمران خان إلى صندوق النقد الدولي المتوجه الآن لدعم الحكومة الباكستانية بقرض يصل إلى 1.2 مليار دولار، وذلك لانتشال باكستان من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمرّ بها.

كرة التفويض بشباك السياسيين

كرة التفويض الشعبي التي ألقاها الناخب الباكستاني في شباك الأحزاب السياسية اليوم رهن السياسيين، بأن يُحسنوا التعاطي مع الحدث السياسي، ويتعاونوا مع بعضهم، ليقطعوا الطريق على العسكر، الذين لطالما تدخلوا في السياسة من الشقوق والصدوع التي تظهر في جدار السياسة الباكستانية، وتجلياتها المتمثلة في الأحزاب.

وتستحضر شرائح شعبية باكستانية اليوم ما حدث في عام 2008، حين أجبرت الأحزاب السياسية الباكستانية برويز مشرف على القبول بنتائج الانتخابات، وشكّل الحزبان الرئيسان: حزب "الشعب" وحزب "الرابطة" تحالفًا أعلنا عنه في بلدة مري قرب إسلام آباد، وهو ما مكّن حزب "الشعب" من تأسيس حكومة أكملت دورتها لأول مرة في تاريخ باكستان، ولم يكن ذلك ممكنًا دون تعامل حزب "الرابطة الإسلامية" بزعامة نواز شريف الإيجابي، وهو ما يردّه اليوم حزب "الشعب" بتشكيل تحالف لتشكيل حكومة بدون عمران خان.

هذا التحالف الذي تشكل اليوم والمكون من حزب "الرابطة الإسلامية" وحزب "الشعب" الباكستاني وأحزاب صغيرة أخرى أفضى إلى تفويض نواز شريف بتشكيل حكومة، حيث سيؤدي اليمين الدستورية في مارس/ آذار الجاري، ليكون بذلك رئيس الوزراء الرابع والعشرين في تاريخ باكستان، بالإضافة إلى أنه سيكون رئيس حكومة للمرة الرابعة في تاريخه وتاريخ باكستان.

العاصم الأول والأخير من تدخل العسكر في السياسة الباكستانية، هم الساسة أنفسهم، فإما أن يتفقوا على قواعد لعبة سياسية خاصة بهم، ويلتزموا بها، بحيث تعصم البلاد من تدخل العسكر، وإما أنهم سيتحملون أي تدخل عسكري في الشأن السياسي الباكستاني.

فالناخب الباكستاني – لاسيما بعد تحدي عمران خان هذه المؤسسة – سيُحمّل مسؤولية تدخل العسكر للسياسيين أنفسهم، الذين لم يحافظوا على تفويضه الانتخابي، بعد أن عجزوا لعقود عن الخروج بصيغة تعاون وتنسيق فيما بينهم.

وهنا يطرح الكثيرون تساؤلًا مشروعًا، لماذا يفرّ قادة الأحزاب السياسية خارج باكستان حال انتهاء فترات حكمهم؟، وهو ما تكرر مع قادة حزب "الشعب"، وحزب "الرابطة"، وآخرها عودة نواز شريف من المنفى الاختياري في لندن، بخلاف الجنرالات والضباط الذين يظلون في باكستان لا يغادرونها، وهو ما يرسخ قناعة الناخب الباكستاني بأن سياسييه رجال حكم وليسوا رجال سياسة ودولة، بحيث يبقون مع شعبهم، حتى ولو خرجوا أو أخرجوا من السلطة، ويستحضر الكثيرون هنا مثال أليكسي نافالاني الروسي الذي فضل البقاء في بلاده – فمات فيها- على مغادرتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.