باكستان.. صدمات ما بعد نتائج الاقتراع

صورة لرئيس الوزراء السابق عمران خان تظهر وسط أعلام باكستان (رويترز)

شكّلت نتائج الانتخابات الباكستانية صدمةً حقيقيةً لدوائر سياسية وعسكرية وحتى إعلامية عدة، فعلى الرغم من كل العراقيل التي نُصبت لحزب "الإنصاف" الباكستاني بزعامة عمران خان، إلّا أنها لم تُفلح في هزيمة الحزب، الذي عاد إلى المعادلة السياسية الباكستانية بأقوى مما كان عليه، متحديًا العسكر والأحزاب السياسية، التي حجبت الثقة عنه في جلسة برلمانية في أبريل/ نيسان من عام 2022.

التشظّي والتشتت في التفويض الشعبي الذي توزّع على أحزاب سياسية بهذه الانتخابات، حرم أيّ حزب من تشكيل الحكومة المركزية، وحتى حكومات الأقاليم الأربعة بمفرده، مما سيُفضي إلى فوضى سياسية وحُكمية؛ لأنها ستُرغم الأحزاب السياسية على التحالف مع بعضها، وربما على التحالف مع خصومها، لتشكيل حكومات ائتلافيّة، مما سيخضعها للابتزاز الحزبي والسياسي، فيدفع بذلك الثمن الشعب والمشهد السياسي الباكستاني برمته، مما يجعلنا أمام معادلة سياسيّة صعبة، في ظلّ واقع اقتصادي متدهور، وخواء في ميزانية الدولة، مع تراجع الروبية الباكستانية، وفوائد الديون المترتبة سنويًا على البلد.

نواز شريف 74 عامًا والعائد من منفاه في لندن، أعلن في خطاب النصر- كما وصفه أتباعه- عن عزمه تشكيل الحكومة في باكستان، عارضًا على كل الأحزاب السياسية دعمه في ذلك، باستثناء حزب عمران خان صاحب الأغلبية

المشهد السياسي ما بعد نتائج الانتخابات

شكّل تأخر الإعلان عن نتائج الانتخابات الباكستانية صدمة للداخل والخارج، وطالبت لجنة الانتخابات الأحزاب بالتوقّف عن الإعلان عن النتائج، مما أثار الجدل والخلاف في الأسباب الكامنة وراء هذه المطالبة، لاسيما وقد أتت بعد ساعات طوال من تأخر إعلان النتائج، والتي عُزيت لأسباب لوجستية وتواصلية، وهي أسباب غير مقنعة للشارع الباكستاني، حيث معظم الاتّهامات تشير إلى مساعٍ لتزوير الانتخابات لصالح نواز شريف، وذلك لحرمان عمران خان خصم المؤسّسة العسكرية من العودة إلى السلطة، وهو نفس عمران خان الذي اتّهم عام 2018 بالوصول إلى السلطة من خلال تزوير العسكر للانتخابات لصالحه.

هذه الصدمة أتت مع تراجع ثقة الشارع الباكستاني بلجنة الانتخابات، فقد حلّت في المرتبة الثامنة للمؤسسات الباكستانية التي يثق بها رجل الشارع الباكستاني، إذ تصدر الجيش الباكستاني المرتبة الأولى، فيما تصدّرت المحكمة العليا المرتبة الثانية، أما الأحزاب السياسية، فجاء ترتيبها في المرتبة الثالثة، مما عزّز شكوك الشارع الباكستاني في كل ما يصدر عن لجنة الانتخابات الباكستانية، نظرًا لعدم ثقته فيها.

الواضح أنّ سياسة الباب الدوّار هي ما يجمع السياسيين الباكستانيين، فبالأمس كان يُطلق على نواز شريف الابن المدلل للمؤسّسة العسكرية، وذلك منذ أن اختاره الرئيس الراحل ضياء الحق في السبعينيات وزيرًا لمالية حكومة البنجاب، ثم دعمه في انتخابات عدة، مكّنته من أن يشكل ثلاث حكومات باكستانية، وهو الأمر الذي عجزت عنه كل الأحزاب السياسية، فضلًا عن شخص مثل نواز شريف، الذي يستعدّ اليوم لتشكيل الحكومة الرابعة بعد سجن ونفي سياسي اختياري، امتد إلى 14 عامًا في لندن.

المشهد السياسيّ اليوم هو فوز حزب عمران خان بـ 94 مقعدًا وحزب نواز شريف بـ 63 مقعدًا، بينما فاز حزب الشعب الباكستاني الذي قادته لعقود عائلة آل بوتو، ويقوده اليوم آصف علي زرداري زوج بي نظير بوتو، وابنها بيلاول بوتو بـ 50 مقعدًا، أما حركة المهاجرين القومية العنصرية في إقليم السند وعاصمته كراتشي فقد فازت بـ 14 مقعدًا، وتراجعت الأحزاب الإسلامية الباكستانية، فلم تفز جمعية علماء الإسلام بزعامة مولانا فضل الرحمن سوى بمقعدين، أما الجماعة الإسلامية الباكستانية فلم تفز ولا بمقعد واحد.

نواز شريف 74 عامًا والعائد من منفاه في لندن، أعلن في خطاب النصر- كما وصفه أتباعه- عن عزمه تشكيل الحكومة في باكستان، عارضًا على كل الأحزاب السياسية دعمه في ذلك، باستثناء حزب عمران خان صاحب الأغلبية، ويبدو أن المشاورات بدأت بالفعل بين شريف وحزب الشعب الباكستاني لهذا الغرض، وهو تكتيك- على ما يبدو – مدعوم من الجيش، ولكن التحدي الحقيقي هو صمود مثل هذه الحكومة الائتلافية في مواجهة الأعاصير والابتزازات السياسية التي عُرفت بها المعادلات السياسية الباكستانية في مثل هذه الظروف.

عمران خان وصدمة العودة القوية

فشلت كل الإجراءات التي صاحبت عملية ما قبل الانتخابات وأثناءها وما بعدها في استبعاد أقوى حزب سياسي باكستاني، وعملًا بنظرية فيلسوف التاريخ البريطاني أرنولد توينبي -وهي نظرية التحدي- فإن الشارع الباكستاني مع كل ضغوط تمارس على عمران خان وحزبه، يصعّد الشارع وخاصة فئة الشباب 18- 35 عامًا من تحديهم للعسكر بالالتفاف حول عمران خان المسجون، بتهم وأحكام ثلاثة وُجهت له خلال أسبوع فقط قضت بسجنه ثلاثة عقود، بل وإن أحد الأحكام صدر قبل يومين تقريبًا من توجّه الناخبين لصناديق الاقتراع، مما أرسل رسائل تخويف وضغط لمؤيديه.

ومع تقدم عمران خان قائمة الفائزين على لوائح المستقلين، إذ إنه لم يسمح لحزبه بالمشاركة تحت لافتة الحزب، وحتى شعار الحزب في الحملة الانتخابية، وهو عصا الكريكيت قد تم سحبه، ولكنه مع هذا كله تقدم كل الأحزاب السياسية، مما أوقع المعادلة السياسية الباكستانية في مأزق حقيقي، إذ لا يمكن تشكيل حكومة بدونه، فمعارضته ستكون قوية ومؤثرة على أي حكومة مقبلة، فجعل بذلك المرشحين الفائزين بالانتخابات المُسمَّين بالمستقلين الداعمين لحزب الإنصاف بيضةَ قبان حقيقية.

ولكن نواز شريف واجه المشهد هذا باللجوء إلى مناشدة الأحزاب الأخرى لتشكيل حكومات ائتلافية، وهو ما يعني بالتأكيد فوضى سياسية، ستنعكس سلبًا على أداء الاقتصاد الباكستاني، بالإضافة إلى مخاطر من تدخلات عسكرية مقبلة في شؤون الحكومة، تفضي لاحقًا لانتخابات مبكرة، إذ إن التشتت في التفويض لا يقتصر على تشكيل الحكومة الفدرالية المركزية في إسلام آباد، وإنما سيمتد إلى الحكومات المحلية في الأقاليم الأربعة من السند أكبر الأقاليم الباكستانية، حيث يحتاج حزب الرابطة الإسلامية بزعامة شريف المتقدم في النتائج هناك لأحزاب أخرى، ونفس الأمر لحزب عمران خان في إقليم بختون خواه وعاصمته بيشاور، وكذلك حاجة شريف لدعم قوى أخرى في إقليم بلوشستان، تمامًا كحاجة حزب الشعب لحلفاء في تشكيل حكومة محلية بإقليم السند وعاصمته كراتشي.

وداعًا للأحزاب التقليدية

لعل أكثر ما يُميز هذه الانتخابات هو تراجع الأحزاب السياسية الباكستانية التقليدية التي طبعت المشهد لأكثر من نصف قرن، ولعلَّ هذا التراجع بدأ في الهند وسريلانكا وبوتان وغيرها من المناطق التي كانت من أملاك الإمبراطورية البريطانية.

وقد جرت العادة أن ما يحصل في منطقة سينعكس بالتأكيد على المنطقة الأخرى، فمنذ تراجع حزب المؤتمر الهندي بزعامة آل غاندي وتقدّم حزب جاناتا بارتي الهندوسي المتطرف، والخبراء يقرؤون الحدث في سياق إقليمي أبعد من الدولة الحاصل فيها، مما سينعكس على الأحزاب التقليدية الأخرى، حتى لمسناه في سابقة سياسية باكستانية غير معهودة، بأن يدعو شريف خصمه التقليدي حزب الشعب لتشكيل حكومة ائتلافية، لمواجهة حزب يعتبر حديث الولادة- مقارنة بتاريخ حزبيهما العتيدين- وهو حزب الإنصاف، الذي لم يمضِ عليه عُشر مدة تاريخ الحزبَين التقليديين.

مبادرة نواز شريف هذه تعكس القوة والزخم اللذين يحظى بهما عمران خان وحزبه، يعززهما مخاوف الحزبين الرئيسيين من الحزب الناشئ الصاعد كالصاروخ، وبالتالي وجدا الحال بضرورة تحالفهما في مواجهته، مما يعني أنه في الانتخابات المقبلة سيكونان بعيدين عن المعادلة السياسية الباكستانية، تمامًا كما خرج حزب المؤتمر الوطني الهندي من المعادلة السياسية الهندية.

استطلاع غالوب لقياس الرأي الشهر الماضي أظهر أن شعبية عمران خان تصل إلى 57% مقارنة بالشخصيات السياسية الباكستانية الأخرى، وفي ظل تضخم اقتصادي بلغ 30%، سيجعل ذلك تشكيل أي حكومة باكستانية بدون عمران خان وحزبه، حكومة تفتقر إلى المصداقية، نتيجة غياب التفويض الشعبي الكافي لها، لاسيما شريحة الشباب التي تشكل أساس ولبّ وجوهر حزب الإنصاف بزعامة عمران خان، الذي يراقب ذلك كله من زنزانته.

الجيش والرهان

هذا الواقع السياسي والاقتصادي المضطرب جعل بعض الخبراء يتساءلون فيما إذا كان الجيش الباكستاني قد ندم على الانقلاب على عمران خان يوم أطاح به من خلال دفعه بعض أدواته لحجب الثقة عنه عام 2022، ولكن المؤسسة العسكرية – التي تعيش عقدة المنقذ للبلد، كونها حكمت باكستان نصف عمرها، بينما مارست دورها في النصف الآخر من خلال أدوات السلطة، وهي: القضاء والأحزاب السياسية والإعلام، فكان انقلابًا هجينًا كما يحلو للبعض وصفه – هذه المؤسسة اليوم تُعول على نواز شريف؛ نظرًا لكونه من رجال الأعمال الذين يثقون به على الرغم من تهم الفساد التي سجنته وأبعدته عن السلطة، لكنه يظل أيضًا مدعومًا من دول خليجية، يمكن التعويل عليها في تخفيف الواقع الاقتصادي المزري، حيث وصل التضخم في الفترة الأخيرة إلى 30%.

ولكن ستظل الأيام المقبلة مهمة في تحديد هُوية الحكومة المقبلة، وتحديد أولوياتها الاقتصادية والسياسية، مع ضرورة مراقبة عنصرَي المعادلة السياسية الباكستانية المهمّين اليوم، وهما الجيش وعمران خان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.