اللغة كواحدة من أدوات الاحتلال للسيطرة على الأمة

تصميم اللغة العربية
اللغة العربية هي المقوم الأول من مقومات شخصية الأمة، وذاتها وهويتها (الجزيرة)

مسألة اللغة ليست مجرد حديثٍ عن أداة للتواصل والتخاطب فقط، وإنما هي مسألة ثقافيّة بالدرجة الأولى، ذلك بأن اللغة وطيدة العلاقة بطبيعة متكلّميها سلوكًا وجغرافية وممارسة، فإذا تدخل الاحتلال وغيّر معالم حياة العربي، وفكّك بنياته التي بها كان مسلمًا وذا ثقافة خاصة، فإنه يكون قد فصله عن حقيقة حياته التي عبّرت عنها لغته، وبالتالي يسهل إقناعه بتبني لغة أخرى، مُوهِمًا إياه بأنها تواكب طموحاته، وآفاق حياته الجديدة التي صنعها الاحتلال طبعًا، ولم يصنعها هو على عينه وثقافته.

مثال ذلك، أنّ الاحتلال لما رسّخ فينا مفهوم الأنانية والانزواء بالذات- مرورًا بمحاربة الأسرة الكبيرة إلى الأسرة النووية، والسعي إلى تدمير مفهوم الأسرة أصلًا- لم يعُدْ للفظ الأمّة أي مدلول حضاري لدى كثير من متكلمي العربية اليوم؛ لانعدام معناه النفسي في حسّهم الداخلي، وبالتالي فهم مستعدون للاستغناء عنه لفظًا ومفهومًا لصالح كلمة أخرى أجنبية أو مترجمة عن الأجنبية تؤدي مدلول اللاأُمّة، والتشتت والتقوقع.

حتى يتوهّم أخيرًا – بحكم الاستمرار في هذا الكشط، وعدم المواءمة بين مقتضيات حياته، وبين مدلولات اللفظ العربي – أن لغته لا تساير العصر، ولا تواكب الزمن، ومن ثَمة فهو مستعد للاستغناء عنها واستبدالها بغيرها، خصوصًا أنه لم يَعِ بعدُ أن فلسفة الاحتلال سعت إلى خلق التناقض بين مقتضيات اللسان العربي، ومعالم الحياة المعاصرة المصنوعة لنا على مقاس الآخر، لا على مقاسنا.

كيف سيستقبلُ كلمةَ الحياء مجتمع لُغوي لا يعرف معنى الحياء ولا مدلوله الرمزي والنفسي في مجتمع تأسس على الحياء، وبالمِثْل ما هو صدى كلمة الديمقراطية، مثلًا، في مجتمع لا يعرف إلا القمع والطغيان

زيادة على أنه لم يَعِ أنّ اللغة تحمل قيمًا، والناطق العربي لما فُصلت أخلاقه عن هذه القيم أصبح لا يشعر بحاجته إلى لغته، كما يشعر بحاجته إلى لغة غيره، ومثاله أن التفريط في مفهوم القرابة والأسرة، سيقابله تفريط في مقابلاتهما اللغوية قيميًا.

وإذا كانت اللغة العربية تميز بين العمومة باعتبارها قرابةً من جهة الأب، وبين الخُؤُولة باعتبارها قرابةً من جهة الأمّ، فإنّ اندثار الشعور بهذه العَلاقة لن يُحْوِجَ العربي الجديد إلا إلى كلمة "oncle" التي تأتي مجرّدة من الارتباط بالأبوّة أو الأمومة، ولذلك أبعاده القيميّة والاجتماعية ليس هذا محلّ تفصيلِها.

لقد فُصلت الأمّة عن عناصرها- التي بها تكون أمّة- فصلًا أفقدها حاجتها إلى لُغتها التي تستوفي كلّ تلك العناصر في أعلى مستوياتها، وفي المقابل وُصِلت بعناصر غيرها الحضارية وصلًا أحوجها إلى لغته، والأدهى أن هذا التحويج انقلب تهييجًا ضد لغتها الأصل، فانبرى العربي يحارب لغته من حيث يدري أو لا يدري باعتبارها من العوائق التي إن استمرّت استمرّ فصله عن مقتضيات زمانه المصنوعة على مِزاج الآخر وذوقه، لا على مِزاج العربي وذوقه.

ولمّا انغمس المتكلّم العربي في المنظومة المادية الغربية، فَقَدَ روحه وأشواقه، ولم تعد تعبّر عن طموحه إلا اللغة الغربية المادية، أمّا اللغة العربية، فهي لغة مجاز وشعر، وما دام قد فقَد شعوره وإحساسه فلا حاجةَ له إليها.

إن الذين يدْعون إلى تبني اللغة الإنجليزية؛ بدعوى أن العربية متخلفة، لم يدركوا طبيعة العلاقة بين كل لغة والوجود، بل لم يدركوا أن اللغة لا تعكس الحقائق كما هي في جوهرها، وإنما تعكس تصورنا للوجود، وتمثلنا لتلك الحقائق، ذلك بأنَّ كل لغة هي نافذة نطل بها على العالم من جانب معين يخفى على الآخرين من جهة لغتنا، كما يخفى علينا من جهة لغتهم، وهكذا الأمر بالنّسبة لكل اللغات.

إنَّ الذين يتبنّون لغة غير اللغة الأمّ، يكونون غير ناظرين إلى العواقب والمآلات؛ لأنّ ألفاظ كل لغة ترتبط بمدلولات نفسية ورمزية لصاحب اللغة، قبل أن ترتبط بالمدلولات المادية والحسيّة.

وعليه، كيف سيستقبلُ كلمةَ الحياء مجتمع لُغوي لا يعرف معنى الحياء ولا مدلوله الرمزي والنفسي في مجتمع تأسس على الحياء، وبالمِثْل ما هو صدى كلمة الديمقراطية، مثلًا، في مجتمع لا يعرف إلا القمع والطغيان، وإن كان يبدو أن هذه الكلمة فقدت كل معانيها في الواقع، كما تجلّى في العدوان على الفلسطينيين.

ثم إن هذا التبني يبدو منحازًا إلى أيديولوجية معينة لا تهدف إلا إلى سلب مخزون الأمّة المعنوي، كما تمّ نهب مخزونها المادي، ذلك بأن طرحه لا يستقيم واقعيًا، إذ كيف نخاطب أمة ونؤثر فيها بغير لغتها، وكيف نتواصل معها، بل كيف ندرسها دون إلمام بلغتها؟!، مع العلم أنّ الغرب المادي نفسه من خلال خبرائه، اضطر لأن يتعلم العربية ولهجاتها حتى يتمكّن من دراسة المجتمع العربي، وتحليله وَفق مناهجه في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع؛ تمهيدًا لغزوه، وإمعانًا في تخريبه.

إن هذا لأكبر دليلٍ على أنه لا أمّة تعيش بدون لغتها، وأن لغتها هي السبيل للتوغل إلى عمقها؛ لفهمها والتفاعل معها.

ثمّ لماذا هذا التضييق علينا وعلى نظرتنا إلى العالم؟، ونحن إن تحررنا يسيرًا أو كثيرًا من هذه المغالطة اللغوية المرتبطة بالغرب، اكتشفنا أنّ التقدم لم يرتبط باللغة الإنجليزية أو الفرنسية التي بدأت تفقد مقومات التطوّر، ذلك بأنه أمامنا نماذج من التطور المرتبط باللغة اليابانية، واللغة الصينية، واللغة الكورية، مع ضرورة ملاحظة العلاقة القائمة بين هذه المجتمعات، واستعمالها لغاتِها الوطنيةَ والقوميةَ التي تأسَّست على ثقافتها.

وبعد هذا، فلماذا يصدر الضجيج، ويكثر الطنين حين ندعو في أيسر الأحوال إلى قانون المعاملة بالمثل؟، فنستعمل لغتنا، كما يستعمل كل قوم لغتهم، ونبني بها حضارتنا، كما تبني بلغتها كل أمة تحترم ذاتها حضارتها، ولا يُزايَد علينا بدعوى أن العربية فقدت مؤهلاتها في مواكبة التطور، ومسايرة التقدم، ذلك بأن للتقدم معاييرَ وللتطور مقاييسَ مرتبطة بالدرجة الأولى بتوفير الحرية، ولا حرية أبرز في هذا المضمار من حقنا اللغوي في استعمال العربية؛ لاستئناف عطائنا الحضاري.

وعليه، فكل دعوة من بعض الأصوات إلى تبني الإنجليزية للتطور، هي دعوة مردودة عليهم؛ لأن الدعوة إلى تبني لغة الغير، هي دعوة إلى تقليده في لغته، وتقليده في لغته ينتج عنه تبعية له، بحيث إن هذا الآخر لا يسعى إلى شيء سعيه إلى استبقاء هذا التقليد واستدامة تلك التبعية؛ لضمان إعادة إنتاج نموذجه.

وبذلك يتّضح أنّ دعوى تبني الإنجليزية ما هي إلا مغالطة ماكرة لاستبقاء الاستتباع والاحتلال، ومعلوم أنه لا تطوّر مع الاحتلال والاستتباع، كما أنه لا تقدم مع التقليد والذوبان.

لا يُفهَمُ من هذا أنّنا نعادي اللغات أو ننغلق على ذواتنا، وإنما ندعو إلى الإفادة من فلسفة النحلة التي تعبر الحدود لتلقح زهرة قريبة بلَقاح زهرة بعيدة، دونما إبادة لها أو اقتلاع من جذورها، إنه انفتاح دون إنكار ولا إلغاء.

وعليه فمن استطاع أن يتعلم كل لغات العالم فليفعل وليبادر، ولن يجد منا إلا التشجيع والتحفيز، لكن بشرط ألا يجعل أي لغة من هذه بديلًا عن لغته الأصيلة.

والذي ينبغي أن يُفهم من هذا، أنّ لغة التعليم يجب ألا تكون إلا بلغة الأُمّة؛ لأن من يتعلم بلغة غيره يكون كالذي يتعلم بعقل غيره أيضًا، وكما استغنى عن عقله في هذا المجال حتى فقده، فإنه يستغني عن لغته أيضًا حتى يفقد لسانه، وبذلك تدخل الذات في مسلسل التنازل عن عناصرها، كما لو أنها تتنازل عن جوارحها واحدةً واحدةً، ساعيةً إلى تعويضها بعناصر الآخرين وجوارحهم، ومع ذلك لن تكون مثلهم؛ لأنّها لن تفعل شيئًا أكثر من مسخ ذاتها بسبب هذه الإمعية والتبعية.

هذا، بالإضافة إلى أنّ كل لغة هي مشروع جواب عن سؤال مطروح اقتضتْه سياقات لغوية معينة، فما تجيب به لغة في سياق ما، ليس هو ما تجيب به لغة أخرى في سياق آخر مغاير للسياق الأول، وما اختلاف اللغات لفظًا وتركيبًا ودلالة إلا باختلاف السياق الذي اقتضى تداولًا يوظف اللغة توظيفًا يناسبه.

ذلك بأنّ الإنسان في حياته يضع أسئلةً وجودية كبرى تتعلّق بعمقه ومصيره، كما تتعلّق بإشكالاته وطموحاته التي يثيرها زمانه الخاص، وهنا تأتي اللغة لتعبّر عن هذه التطلعات والأحلام بمقولات وتعابير وصيغ وأشكال تحمل خلفية ثقافية، ومخزونًا إنسانيًا قد لا يوجد في اللغة الأخرى.

لكن اللغة الأخرى في المقابل تملك من الجواب عن إشكالات كثيرة ما لا تملكه اللغة الأولى التي ينبغي أن تسارع- في إطار الإفادة لا الذوبان والإمعية- إلى الاستفادة من هذه اللغة المغايرة لها؛ لإغناء مجالها وتعزيز جوابها عن إشكالاتِها.

ولذلك فإن قتل أي لغة هو حرمان للإنسانية من أجوبة عديدة، ومن فرص نجاة كثيرة قد تحمل الخلاص للإنسان، وتخرجه من مآزقه.

وضميمة إلى معايير التقدم وعلاقة ذلك باللغة، فينبغي ألا نُحَمِّل اللغة وزر التخلف أو سبب التقدم؛ لأنهما مرتبطان بالبنية الثقافية لكل مجتمع ومدى جاهزيته للتطور ومجاوزة الآفات، ثم تأتي اللغة بعد ذلك مصدقة أو مكذبة، ولتعكس هذه الثقافة وعَلاقتها بالفعل داخل الوجود تمثلًا وتصورًا.

إن اللغة تحمل رؤية يزكيها فعل الإنسان ونشاطه في تفاعله مع الواقع والوقائع، ومن هذا الواقع أن كل الأمم التي تحضّرت لم تفرّط في لغتها، وحتى إذا افتقرت في بعض المجالات المعرفية، فإنها تعتمد آلية نقل العلم من المجال المعرفيّ المنتج إلى مجالها المعرفي المستفيد بواسطة الترجمة.

وهو نفس الأمر الذي قامت به المنظومة الحضارية للمسلمين، إذ استطاعت بفضل لسانها أن تثري الفلسفة الموصولة باليونان، بل أن تخلصها مما شابها من أوهام تراجمة السريان، بشكل أسس لفلسفة جديدة تفوقت على سابقتها تفوقًا كبيرًا، وفتحت آفاقًا إشكالية تتعلق مثلًا باللفظ والمعنى، وأيهما تابع للآخر، ذلك لأن إشكال الترجمة بين اللفظي والمعنوي هو الذي فتح هذا الباب، وبذلك ساهم اللسان العربي في إغناء المعرفة وإلباسها لَبُوسًا حضاريًا جديدًا يفيد العالمين.

وقبل الختام أودّ أن أوجه كلمة موجزة إلى من يتهم العربية بالصعوبة في استعمالها ومناهجها وقواعدها، بالإشارة إلى أن أصحاب هذا الاتهام هم- غالبًا – من الذين درسوا في مدارس البعثات الأجنبية أو ما يتبعها، فدرجوا على الفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية مثلًا، حتى أصبحت هذه اللغات عندهم هي اللغة الأمّ، بينما العربية إن أعطوها بعض حقها أثناء دراستها، فهي عندهم بمنزلة اللغة الثانية في أحسن الأحوال، إن لم تكن الثالثة أو الرابعة.

وهذا طبعًا إن دَرَسوها كما يجب أن تُدْرس، وإن كان يبدو أنهم درسوها بطريقة لا تجعل منها إلا لغة فاشلة، ومعلوم أن اللغات الثواني لا تكون على نفس السهولة التي عليها اللغة الأم؛ لأن هذه لغة وجدان ولها نصوص محفوظة وأناشيد ترسخ حضورها في الشعور حتى تصبح جزءًا من التكوين النفسي لصاحب اللغة، وللأسف هذا ما لم يفعله هؤلاء مع اللغة العربية.

والحل المقترح عليهم هو أن يبادروا إلى تعلم اللغة العربية بالطريقة الصحيحة، كما يتعلمون اللغات الأخرى، متحمسين ومتهافتين، وليعلموا أن كل لغة لم تدرس في الصغر هي لغة صعبة تحتاج إلى بذل الجهد لتحصيلها وتجاوز صعوباتها.

وأخيرًا؛ يبدو أن اللغة العربية في كامل عافيتها ونشاطها، فبالإضافة إلى تحديها كلَّ عقابيل الزمان حتى وصلت إلينا، في حين ماتت كل اللغات القديمة، وإلى حفاظها على طريقتها في التبليغ بما لم تحفظه لغة غيرها، إذ إننا نقرأ نصوصها القديمة والجديدة دون تعثر في الفهم والذوق، لكن بالمقابل لن نستطيع أن نقرأ إنجليزية شكسبير إلا إذا تُرجمت إلى الإنجليزية المعاصرة، ولن نقدر على قراءة فرنسية القرن الـ 14 إلا إذا نُقلت إلى الفرنسية الراهنة.

بالإضافة إلى كل ذلك، فإنها أضحت لغة الإنسان حيثما وُجد وكان، خاصة حين تفاعلت مع الزمن الفلسطيني الذي نفخ فيها روحًا جديدًا وأعاد لألفاظها مدلولاتها النفسية والرمزية بشكل لم يقف عند المتلقي العربي وحده، وإنما جاوزه إلى المتلقي العالمي أو المتلقي الإنسان، الذي انبهر بقوة هذا الفلسطيني وقيمه التي حملته على الصبر، ومواجهة تجليات الغطرسة والطغيان.

فأضحى هذا الإنسان العالمي يحمل شعارات عربية للتضامن مع غزة، وينظم حملات لتدبر القرآن الكريم، وتعلم اللغة العربية؛ لإحسان هذا التدبر وإكماله حتى يقف على أسرار الإيمان والصمود والقوة والتسليم لله -تعالى- لدى الفلسطيني، وأكيد أن هذا المتلقي العالمي بدأ يتلمس علاقة اللغة العربية بكل ذلك، خاصة أنه قد ربط بين الخير وبين الإنسان الفلسطيني.

لقد أعاد الزمن الفلسطيني للغة العربية صلتها بالحياة من جهة أراد المتغطرس فصلها عنها باتهامها بالتخلف وعدم المواكبة، كما أعاد لها علاقتها بقيمها من حيث أراد المحتل فكها عنها؛ لإقناعنا بماديته، وجدوى فلسفته ووحشيته.

وإذا كان الزمن الفلسطيني قد أعلن موت الثقة في الغرب وقيمه، وبالتبع موت الثقة في لغته التي تحمل هذه القيم، فإنه قد أعلن في المقابل عن أن العربية هي لغة الروح والحياة والقيم والإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.