خيبة أمل كبيرة في فرنسا بلد الأنوار

أعضاء في البرلمان الفرنسي في ديسمبر الماضي يحملون لافتات تندد بقانون الهجرة الجديد الذي يقوض القيم التي قامت عليها الجمهورية (الفرنسية)

تعيش فرنسا هذه الأيام حالة غليان وخيبة أمل كبيرة، عقب تصويت الجمعية الوطنية- يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول الماضي- على قانون الهجرة الجديد، رغم المعارضة الشديدة له.

وقد ناشد العديد من المنظمات، الرئيسَ إيمانويل ماكرون، عدم إصداره، غير أنّ هذا الأخير قرّر- بشكل رسمي نهاية الأسبوع الماضي- إحالته على المجلس الدستوري؛ أملًا في إسقاط البنود التي تتعارض مع مبادئ الدستور.

وفور التصويت على هذا القانون من قبل الجمعية الوطنية، سارع النشطاء السياسيون والمدنيون إلى التعبير عن خيبة أملهم من تغلغل أيديولوجية اليمين المتطرف في مفاصل الدولة. إذ أصبح هذا الخطاب، اليوم، واقعًا ملموسًا في الممارسات والقوانين، بعد تمكّنه من الهيمنة على أستوديوهات العديد من المحطّات التلفزيونية والإذاعية.

وكان أعضاء الغرفة السفلى من البرلمان قد صوّتوا- في بداية الشهر الماضي- على اقتراح يقضي برفض النسخة الأولى من مشروع هذا القانون بأغلبية 270 صوتًا، مقابل 265. وبدل سحبه نهائيًا، قرّرت الحكومة اللجوء إلى خيار اللجنة الثنائية المشتركة- المكوّنة من 7 نواب و7 أعضاء من مجلس الشيوخ- التي تولّت مهمة إيجاد صيغة توافقية تبنّتها الغرفة العليا، قبل عرضها على الجمعية الوطنية، التي أقرّتها بدورها بـ 349 صوتًا، مقابل 186.

وجدير بالذكر أنّ المادة الخامسة والأربعين من الدستور تنصّ على آلية اللجنة الثنائية المشتركة، في حال استمرار الخلاف بين الجمعية الوطنية، ومجلس الشيوخ بشأن مشروع أو مقترح قانون، إذ هدفها التوصل إلى حل توافقي بين الغرفتين.

ولولا تصويت حزب التجمع الوطني، اليميني المتطرف، لما أمكن تبني القانون الجديد، رغم أن وجوهًا بارزة في الأغلبية تحاول التقليل من أهمية الأمر.

وعقب إعلان نتائج التصويت، بادرت مارين لوبان، القيادية في التجمع الوطني، إلى التعبير عن ابتهاجها، معتبرةً تبني القانون الجديد انتصارًا لأيديولوجية حزبها، مما جعل الرئيس ماكرون في وضعية حرجة، خاصة أن فوزه بالولاية الثانية كان صعبًا للغاية، وقد رجحت كِفته قاعدة كبيرة من المتخوفين من صعود لوبان- منافسته آنذاك في الانتخابات الرئاسية – والذين سعوا إلى قطع الطريق أمام فوزها.

رِدة حقوقية غير مسبوقة

ينص القانون الجديد على بنود عدة، تعتبرها أحزاب اليسار وجمعيات حقوق الإنسان تراجعًا خطيرًا ومسًا بالحريات والحقوق. إذ يقرّ النص التشريعي سنّ نظام للمحاصصة (Quota)، بخصوص نسبة المهاجرين الذين يتعين قبولهم في السنة. كما تحولت الإقامة بصفة غير قانونية فوق التراب الفرنسي إلى "جريمة جنائية"، يُعاقَب عليها بغرامة مالية تناهز 3750 يورو.

وسيصبح بإمكان الدولة الفرنسية، كذلك، ترحيل المهاجرين ممن دخلوا التراب الفرنسي في سنّ تقلّ عن 13 عامًا، ولا يحوزون وثائق إقامة، بل حتى ترحيل الوالدَين الأجنبيَين اللذين يحمل أطفالهما الجنسية الفرنسية، وهو ما يعتبر تراجعًا حقيقيًا تشهده الحريات والحقوق في ظلّ الجمهورية الخامسة.

من جهة أخرى، تم ربط تسوية وضعية المهاجرين، المقيمين بصفة غير قانونية، بضرورة العمل في المجالات التي تعرف ندرة كبيرة في اليد العاملة، مثل: المطاعم، والفنادق، مع اشتراط خلو سجلاتهم العدلية من الجرائم الجنائية. وتقتضي هذه التسوية إصدار تصاريح إقامة لا تتعدى سنة، قابلة للتجديد.

وفيما يخص الإعانات الاجتماعية، تحديدًا تلك المتعلقة بالسكن والموجهة لذوي الدخل المحدود، فقد تم تقييدها إلى حد كبير. ويشترط القانون الجديد على الراغبين في الاستفادة منها ضرورة مزاولة نشاط مهني ومضي ثلاثة أشهر من الإقامة فوق التراب الفرنسي.

أما غير العاملين، فيتعين عليهم انتظار خمس سنوات قبل التقدم بطلب هذه المساعدة، غير أنه يستثنى من هذا التقييد الطلاب، واللاجئون السياسيون والمستفيدون من الحماية المؤقتة، (Protection subsidiaire) .

بل أكثر من ذلك، تم التراجع عن مبدأ حق الأرض، فيما يتعلق بالولوج إلى الجنسية، إذ لم يعد بإمكان شخص وُلد فوق التراب الفرنسي، من والدَين أجنبيَين، الحصول بشكل تلقائي على الجنسية الفرنسية.

إذ يشترط النص الجديد بلوغَ المعني بالأمر سنًّا معينة (ما بين 16 و18 سنة ،(حتى يتمكن من التقدم بطلب بهذا الشأن إلى السلطات المختصة، والتي لها أن تقبل أو ترفض بعد دراسة الملف. غير أن هذا لا يعني أن الجنسية المكتسبة تصبح حقًا لا رجعة فيه، بل يمكن سحبها من مزدوجي الجنسية في حال ارتكاب جريمة ضد قوات الأمن.

ولم يُستَثنَ لمّ الشمل العائلي من التشديد، فقد عرفت مساطرُه بدورها تقييدًا ملحوظًا، إذ بات الأجنبي الراغب في استقدام عائلته الصغيرة، مطالبًا باستيفاء شرط الإقامة فوق التراب الفرنسي لمدة سنتين بدل سنةٍ ونصفٍ، إلى جانب شروط اجتماعية ومهنية ملائمة للاستقبال، تتمثل أساسًا في الدخل الشهري، المحدد بحسب عدد الأفراد الذين سيلتحقون بطالب لمّ الشمل، فضلًا عن مساحة السكن، وقدرة الوافدين على التواصل باللغة الفرنسية.

القانون الجديد يلزم أيضًا الطلاب بتقديم ضمانة مالية عند أول طلب لتجديد تصريح الإقامة، على أن تتم استعادتها عند مغادرتهم. وقد أثار هذا البند غضب أعرق الجامعات التي أصدرت بيانًا جماعيًا؛ محذرة من خطورته، ومذكِّرة بدور الطلاب الأجانب في إشعاع البلد على صعيد البحث العلمي والأكاديمي.

"حرية- مساواة- إخاء" في مهب الريح

إن قانون الهجرة الجديد يضع- وعلى نحو غير مسبوق- قيمَ الجمهورية الفرنسية محل مساءلة. ففي حال دخوله حيز التنفيذ، سيصبح شعار "الحرية، المساواة والإخاء" فضفاضًا وفاقدًا لأية مصداقية. فقد دأبت فرنسا ونخبتها على الاعتزاز بإرث فلسفة الأنوار التي أنجبت إعلان حقوق الإنسان والمواطن، في أعقاب الثورة الفرنسية عام 1789.

هذا النصّ البالغ الرمزية- الذي صوّتت عليه الجمعية التأسيسية بعد الاستيلاء على سجن الباستيل سيئ الذكر- ليس حصرًا على الفرنسيين فحسب ولا يميز بين البشر، بل تنص مادته الأولى على أنه: " يولد جميع الناس أحرارًا ويظلون أحرارًا ومتساوين في الحقوق".

وقد وصفت عصبة الدفاع عن حقوق الإنسان  (LDH)هذا القانون، بأنه الأكثر قمعًا ورجعية في العقود الأخيرة؛ نظرًا لمسّه الخطير بالحقوق الأساسية للفرد، ولجعله وضعية الأجانب أكثر هشاشة.

الغضب امتد إلى المنظمات النقابية والهيئات السياسية اليسارية، إذ ذهب النائب عن الحزب الاشتراكي الفرنسي بوريس فاللو Boris Vallaud- زوج الوزيرة السابقة من أصل مغربي نجاة فاللو بلقاسم- إلى اعتبار التشريع الجديد رِدة خطيرة ووصمة عار على جبين فرنسا.

ويبدو أن الدور الذي لعبه المهاجرون وأبناؤهم في بناء فرنسا منذ عقود لم يشفع لهم، ناهيك عن مساهمتهم المستمرة في تنمية الناتج الإجمالي المحلي، وفي إشعاع البلد في مجالات عديدة، كالثقافة والبحث العلمي والتكنولوجي والرياضة والسياسة.

وبدل أن تعيد الدولة النظر في سياسة الاستقبال والإدماج، وتبني وسيلة بيداغوجية جدية – تتقاطع فيها المعارف والعلوم، ويشرف عليها مهنيون متخصصون- اختارت الهروب إلى الأمام عبر تبنّي المقاربة الزجرية التي ستعقد الأمور كثيرًا في المستقبل المنظور.

كبش فداء

المهاجرون اليوم ليسوا سوى كبش فداء لأزمة اقتصادية خانقة باتت تداعياتها الاجتماعية والسياسية مكلفة للغاية، في وقت يتم فيه التساهل مع الغشّ الضريبي الذي تفقد جراءه الخزينة الفرنسية بين 80 إلى 100 مليار يورو في السنة، في حين يتسبب التهرب الضريبي في خَسارة سنوية تقدر بحوالي 50 مليار يورو.

إن نصوص القانون الجديد- وكل النقاشات التي واكبتها- سيكون لها ما بعدها. فتنامي كراهية الأجانب- خاصة غير المسيحيين منهم- يهدد التماسك الداخلي الهش أصلًا، والمهدد أكثر من أي وقت مضى بالمزيد من البلقنة والتمزق.

كما أن أحياء ومدن الهامش ستنكمش أكثر على نفسها، وستصير أكثر عدوانية. فالحلول الأمنية لن يكون بوسعها تحقيق السِلم الاجتماعي، والعيش المشترك؛ ذلك أن الاستقرار الحقيقي يتأسس على العدالة والمساواة في الحقوق.

لقد ارتبط اسم فرنسا- على الدوام- بالدولة الاجتماعية، والديمقراطية، والحريات واحترام حقوق المقيمين فوق ترابها، بغض النظر عن أصلهم أو لونهم أو جنسهم، وهي علامة مميزة لها بين الشعوب والأمم، لطالما افتخرت بها النخب الفرانكفونيّة عبر العالم.

لكن بلاد مونتسكيو، وروسو وجون جوريس، ترسم اليوم صورة قاتمة، عنوانُها التردي الديمقراطي والانكماش الهوياتي، وذلك للأسف، بداية أفول أعتى الحضارات في التاريخ.

 

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.