منظمة الإيغاد.. من محاربة التصّحر إلى حلبة السياسة

الأمين العام الإيغاد
الأمين العام للإيغاد (الجزيرة)

منذ تفجُّر الأزمة السودانية والحرب المشتعلة في البلاد منذ 15 أبريل/ نيسان 2023، طرحت السلطة الحكومية للتنمية لدول القرن الأفريقي الكبير (إيغاد) – التي تضمّ في عضويتها كلًا من الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، والسودان، وإريتريا، بالإضافة لأوغندا، وكينيا – نفسها لاعبًا مهمًا يتطلع للعب دور الوسيط بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع؛ بهدف وقف الحرب والوصول لتسوية سياسيّة اتسمت بالغموض والابتعاد عن المنهجيّة التقليدية التي يجب أن تتحلّى بها المنظمات الحكوميّة.

ومع ظهور المبادرات بدت الإيغاد منحازة في تحركاتها ومواقفها لقوات الدعم السريع المتّهمة بالتمرّد على الدولة ومؤسساتها بما فيها الجيش القومي الذي يفترض أن تلك القوات جزءٌ منه وتخضع لتراتبيته ولقوانينه، وهو ما أثار الكثير من الأسئلة حول الدوافع الحقيقية لهذه المنظمة.

سنحاول ضمن سلسلة مقالات تقديم إضاءة على الجوانب غير المرئية والخفية لهذه المنظمة الإقليمية وظروف نشأتها وتقلّب أدوارها وحدود صلاحياتها وارتباطاتها الدولية، وما هي الدوائر والأيادي التي تحركها من خلف الكواليس، ومن الذي يشكل رؤيتها نحو الأمن الإقليمي للدول الأعضاء؟.

رياح النيوليبرالية

انتهزت الدوائر النيوليبرالية المتنفذة في منظمة الأمم المتحدة تبدلات المناخ في النظام الدولي، والذي بدأ يتجه نحو الأحادية القطبية باعتلاء الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف للسلطة في 1985، فقد بدأت تلك القوى من خلال الأمم المتحدة في لعب أدوار أكثر جرأة تجاه الجنوب عمومًا، والدول النامية والمتعطشة للمساعدات الغربية والدولية بأن أدخلت بصورة حاسمة نظام المشروطية إزاء كل المساعدات الممنوحة، وكان جوهر تلك المشروطيات – سواء كانت أحادية أو متعددة الجوانب – هو الضغط على الدول باتّباع النظام الليبرالي، والابتعاد عن الاشتراكية والشيوعية، وقد صادف بداية الثمانينيات من القرن الماضي أن ضرب الجفاف والمجاعة أجزاء واسعة من القرن الأفريقي، بحيث تضررت كل دوله، ونال موضوع الجفاف والمجاعة تغطية إعلامية دولية ضخمة.

كانت الأمم المتحدة في جلستها رقْم 35 لعام 1980 قد اتخذت القرار 35-90 كاستجابة للتعاطف العالمي مع آثار موجة الجفاف والمجاعة تلك، ولكن القرار اشترط على دول القرن الأفريقي أن تفكر بطريقة إقليمية لمعالجة آثار الجفاف، وأن تنسق فيما بينها إذا كانت ترغب في تلقي أي مساعدة من المنظمة الدولية والمجتمع الدولي.

وقد جاء في الفقرة السادسة من القرار ما يلي: "تنصح حكومات دول الإقليم التي تأثرت بالجفاف أن تفكر في تأسيس منظمة حكومية يقع على عاتقها مسؤولية الدعم والتنسيق لجهود الحكومات في محاولاتها القضاءَ على آثار الجفاف والكوارث الطبيعية الأخرى، وأن تتعامل مع التحديات التي ستواجه التعافي والتأهيل في المديَين: المتوسط والطويل".

كانت حكومات دول القرن الأفريقي متوزعة في تبعيتها لأحد قطبي الحرب الباردة، ما أدى في نهاية المطاف إلى خمول فكرة منظمة الإيغاد طوال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي

البحث عن أب

الملاحظ أن فكرة تأسيس منظمة حكومية نفسها لم تأتِ من هذه الحكومات بل كانت شرطًا لتلقي العون الخارجي "المخادع"، وكانت هذه أكبر مشكلة واجهت عمل وتطور المنظمة؛ إذ إنها لم تنبع عن قناعة ووعي بضرورة العمل الإقليمي المشترك من الأنظمة الحاكمة، كما هو الحال في نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي، بل إنها اصطنعت استجابة لشرط تلقي المساعدات الدولية من الدول المانحة، وتم ربط المساعدات بالتوجه والالتزام الإقليمي لهذه الدول والذي أُريد له أن يدعم الترتيبات النيوليبرالية حول العالم، حيث يبقى حل الأزمات خارج أيدي السلطات الوطنية، وذلك من خلال ترتيبات إقليمية تخضع وتنسق مع المركز النيوليبرالي، وتأخذ بذلك شرعية دولية تستعملها كعصا في وجه الأنظمة المخالفة للتوجه الليبرالي.

بناء على ذلك القرار نشأت وحدة داخل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للإشراف على تمرير المساعدات للمناطق المتأثرة، وأن تنسق وتعمل مع حكومات المناطق المتأثرة للقيام بسياسات وطنية وإقليمية؛ لدرء آثار الجفاف، ولترقية التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة، وقد كان أمر المساعدات نفسه طوعيًا يأتي من مساهمات تقدمها دول ومنظمات بصورة غير ملزمة، على أن يتابع ذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.

الأمر الآخر أن التركيز في هذا الجهد الإقليمي لم يكن منصبًا على البعد السياسي، وإنما الاقتصادي والتنموي، وهو ما أشار إليه الرئيس الإريتري ساخرًا من أن المنظمة قامت من أجل مكافحة الجراد والتصحر، لكن رسالتها تغيّرت فجأة دون أن تحقق أي نجاح في المهمة الأولى طوال عشر سنوات، وذلك لأسباب تتعلق بالدول المتأثرة بالجفاف نفسها، بجانب أسباب إقليمية وأخرى دولية.

فقد شهدت فترة مطلع الثمانينيات تصعيدًا شديدًا في الحرب الباردة بين الغرب -خاصةً إدارةَ الرئيس الأميركي رونالد ريغان- وحلفائه، وبين الاتحاد السوفياتي، وهو ما ألقى بظلاله على أولويات السياسة الخارجية لتلك الدول المعنية بالتنمية والجفاف، فقد كانت حكومات دول القرن الأفريقي متوزعة في تبعيتها لأحد قطبي الحرب الباردة، ما أدى في نهاية المطاف إلى خمول فكرة منظمة الإيغاد طوال حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

التمويل المشروط

بينما كان الاتحاد السوفياتي في تراجع، فقد تعللت الدول الغربية المانحة بأنها لا تستطيع أن تساعد النظام الماركسي في إثيوبيا، أو دكتاتورية العشائر في الصومال، أو النظام الإسلامي القمعي في السودان، فمن الدعم الذي التزم به مؤتمر للمانحين عام 1987 والذي بلغ أكثر من مليار دولار، لم تتحصل برامج الأمن الغذائي ومكافحة الجفاف إلا على 10% و5% على التوالي.

كما لم تمول الدراسات التي أعدت حتى بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، إذ رفضت الدول المانحة دفع مبلغ 500 مليون دولار للإيغاد، كان يفترض أن يخصص جزء منه لتمويل طريق يربط أغنى منطقة لإنتاج الحبوب بأكثر المناطق حاجة لهذه الحبوب في إثيوبيا، وإريتريا، وهو طريق الحمرة -القلابات- القضارف بذريعة عدم أهمية المشروع إقليميًا، لكن دافع الرفض هو وجود نظام إسلامي في الخرطوم، وبذلك تبخّر أكبر مشروع للأمن الغذائي لمنطقة القرن الأفريقي التي عانت طويلًا من الجفاف والجوع.

وهنا تبرز أهمية الأجندة الدولية على الإقليمية في منظمة الإيغاد منذ البداية، ولكن هذا المنحى لم يجد اعتراضًا من رؤساء دول المنظمة؛ بسبب أن أولوياتهم الأمنية مرتبطة بالمانحين أكثر من مصالح الإقليم الإستراتيجية، وكان ذلك كعب أخيل في موضوع ترقية الأمن الإقليمي.

فالأوضاع الاقتصادية والتنموية الصعبة لم تكن أكثر تهديدًا للدكتاتوريات في الإقليم من التحديات الأمنية والعسكرية التي كانت أكثر إلحاحًا، ومتقدمة في سُلّم الأولويات على المجاعة والجفاف. ففي عهد الرئيس السوداني محمد جعفر نميري (1969-1985) اندلع تمرد في جنوب السودان عام 1983 والذي تسبب في سقوط نظامه جزئيًا في 1985.

بينما شكلت حركات الكفاح المسلح الصومالية، والإريترية، والأرومية، والتقراوية تحديًا كبيرًا لنظام الزعيم الإثيوبي منغستو هايلي ماريام (1987- 1991) لتنجح في إسقاطه في عام 1991 بعد أن فقد الدعم السوفياتي، وكذلك الرئيس الصومالي محمد سياد بري الذي كان يريد إدخال إصلاحات دستورية لإنقاذ موقفه من تمرد العشائر والحركات المسلحة الصومالية، مما اضطره للتقارب مع غريمه التاريخي منغستو بوساطة إيطالية تحت مظلة منظمة الإيغاد، لكن تلك الاتفاقية لم تنجح، إلا بسقوط سياد بري وهروبه من البلاد بعد أن اقتحمت حركات التمرد البلاد قادمة من إثيوبيا؛ خوفًا من تقارب منغستو مع سياد بري.

الأحادية القطبية

مع ظهور سياسة الإصلاح والانفتاح في الاتحاد السوفياتي التي انتهت بتفككه في ديسمبر 1991، بدأ نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة لها في الصعود، وكانت أولى الإشارات عندما أعلن الرئيس جورج بوش الأب بعد انتهاء حرب تحرير الكويت، أن نسقًا دوليًا جديدًا يقوم على قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحماية الأقليات قد بدأ يتشكل بقيادة بلاده.

كان دلالة ذلك أن قادة في منطقة القرن الأفريقي سرعان ما وجدوا أنفسهم جزءًا من ذلك النسق الدولي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة، وهم الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، وبدرجة أقل رئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي.

أما القادة الجدد في السودان – بزعامة الرئيس السوداني السابق عمر حسن أحمد البشير (1989-2019 ) الذي تولى السلطة إثر انقلاب عسكري قادته الجبهة الإسلامية في السودان وظهور الإسلاميين في الصومال تاليًا لدخول قوات محمد فارح عيديد للعاصمة بعد سقوط نظام محمد سياد بري- فقد تم تصنيفهم وفق النسق الجديد دولًا أو جماعات مارقة.

وكانت أول محاولة لمواجهة ما اعتبرته أميركا تهديدًا لها في هذا الصدد هو شنها عملية عسكرية في الصومال سُميت "إعادة الأمل" إلا أنها فشلت وتكبدت فيها الولايات المتحدة خسائر عسكرية كبيرة اضطرت معها للانسحاب والتفكير في طريقة أخرى لمواجهة ذلك الخطر.

فكان التفكير في تأسيس قوة أفريقية بموارد أميركية، فوقع الاختيار على الاتحاد الأفريقي والإيغاد كآليات لخدمة المصالح الأميركية والغربية بصورة غير مباشرة، وذلك من خلال ما يعرف بسياسة العصا والجزرة مع استخدام سلاح الإغراء والتمويل، وهنا كانت المعضلة الأولى للأمن الإقليمي- كما تفهمه الدول الغربية- هو شبح الإسلاميين وليس الجفاف والتصحر، ولا جوع شعوب القرن الإفريقي، وهذا كان السبب الأهم في تحول الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) من مهمتها في الإنعاش الاقتصادي وإعادة التأهيل التنموي إلى منظمة سياسية لإدارة ملفات الأزمات السياسية في القرن الأفريقي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.