الحرية والكرامة ما زالتا مطلب السوريين

الاطفال السوريون لا يعرفون وطنهم خارج الخيم المتهالكة - الجزيرة نت
الأطفال السوريون لا يعرفون وطنهم خارج الخيم المتهالكة (الجزيرة)

"أملنا أن نصمد ونصبر حتى نعود إلى بلدنا بالحرية والكرامة والعزة"، بهذه الكلمات اختصر عبد الباسط الساروت قبل 5 أعوام موقع الثورة في نفوس السوريين رغم كل ما تعرّضوا له من اضطهاد وإجرام وتهجير؛ فالثورة كانت وما زالت لأجل الحريّة والكرامة.

تصف مطالب الحرية والكرامة بوضوح النزعة السورية التي لم تتغيّر مع مضي العشرية الأولى والدخول في العشرية الثانية من الثورة. هذه النزعة التي لا تقبل الإخضاع والإذلال. لقد كان الموت ثم الهجرة ثم النضال خيارات السوريين الدائمة بدل القبول بالمذلّة والصمت والامتهان والاستسلام.

السوريون في دول الجوار هربوا بإنسانيتهم ومبادئ ثورتهم لكنهم مع دخول العشرية الثانية باتوا يشعرون أكثر من أي وقت مضى بالتضييق على حريّتهم وكرامتهم، مما دفع من يمتلك القدرة والجرأة منهم لاختيار الهجرة نحو أوروبا أو بلدان أخرى.

عبّرت الثورة السورية عن كفاح سياسي لا ديني أو اجتماعي أو اقتصادي، رغم أنّ عوامل الجوع والفقر والاستغلال والاضطهاد شكّلت دوافع إضافية للاحتجاجات الشعبية التي اندلعت تباعا في البلاد لمناهضة ومعارضة نظام الحكم القائم على الإقصاء والقمع والفساد وقابلية الاستعمار.

وراهن النظام خلال نصف قرن من احتكاره السلطة على حصر مطالب السوريين بالحصول على الأمن والوصول للغذاء. وكان الهدف من ذلك منع السوريين من التفكير بأي تغيير سياسي في البلاد يقود بالنهاية إلى تغيير في مختلف جوانب الحياة. لكنّ النظام خسر هذا الرهان منذ اندلاع الثورة عام 2011؛ حيث ظهرت الحرية والكرامة أولوية على الأمن والغذاء بالنسبة للكثير من شرائح الشعب.

صحيح أنّ النظام لم يتخلّ عن مقاربته القائمة على استخدام أعتى وسائل العنف والإجرام لثني السوريين عن المطالبة بالحرية والكرامة ودفعهم للقبول بخيار الأمن والاستقرار الذي يفرضه بالقوة كأمر واقع؛ إلا أنّه لم ينجح في ذلك؛ فهناك الكثير ممن قرّر الحفاظ على حريته والهروب بكرامته وإنسانيته خارج مناطق النظام وسوريا، وهناك من أجبرته الظروف على البقاء وشكّل شبكات حماية اجتماعية له لمنع أجهزة النظام من المساس بكرامته كحال الأهالي جنوب سوريا.

هذا لا يعني أنّ جزءا من السوريين الذين آثروا الحفاظ على كرامتهم وحريّتهم والهروب بهما خارج مناطق النظام لم يضطروا لاختيار الصمت لاحقا لانعدام الخيارات وشعورهم بالتهديد على حياتهم وغياب الدولة التي تُقدّم لهم أدنى الاحتياجات، وبالتالي إعادة تفضيلهم الأمن على أي خيارات أخرى.

ينطبق ذلك أيضا على السوريين في دول الجوار الذين هربوا بإنسانيتهم ومبادئ ثورتهم لكنهم مع دخول العشرية الثانية باتوا يشعرون أكثر من أي وقت مضى بالتضييق على حريّتهم وكرامتهم، مما دفع من يمتلك القدرة والجرأة منهم لاختيار الهجرة نحو أوروبا أو بلدان أخرى.

مع ذلك، ما زال النظام خاسرا للرهان؛ لأنّ تعويله يبدو غير ممكن التحقّق، فيما يخص قبول السوريين في دول اللجوء بالأمر الواقع الذي لم تعد الحرية فيها موجودة لدى أيّ طرف، وأصبحت الحاجة أكثر إلحاحا -من أي وقت- على الاستقرار والأمن والحصول على الغذاء، وأنّه الطرف الأكثر قدرة على توفير ذلك في ظل مساعيه لاستعادة السيطرة على كامل جغرافية البلاد بأدوات القوة والعنف ووسائل الابتزاز.

ولا يُمكن لأي طرف التعويل على كسر إرادة السوريين في الحرية والكرامة. هذا ما أظهرته السنوات الماضية رغم الصمت والقبول المؤقت بالواقع إلى حين تغيّر الظروف أو توفير البدائل، لأنّ السوريين، لاجئين ونازحين وأصليين، ممن رفضوا المذلّة والخضوع، مستعدّون في لحظة الاختيار الإجبارية للبحث مرّة أخرى عن وسائل للحفاظ على إنسانيتهم ومبادئ ثورتهم سواءً بالهجرة من البلد الذي لجؤوا إليه إن أجبرهم على العودة؛ أو المواجهة ضد النظام وعدم الرجوع إلى حكمه السابق.

في الواقع، لا يكفي ولا يجب أن ينتظر السوريون لحظة الاختيار الإجبارية حتى يحافظوا على حريتهم وكرامتهم؛ لأنّ هذا السلوك يحميهم كأفراد لا كجماعة ولا يؤسّس لدولة الحرية والكرامة، ويتيح للنظام وغيره من أطراف محلية إعادة إنتاج السلطة على أساس العنف والقهر. لذلك، لا بدّ على السوريين من أجل تحقيق الحريّة والكرامة أن يجعلوا من نضالهم داخل وخارج البلاد قائما على أساس مشترك وفعّال وموجّه.

وهناك ضرورة لأن تكون الحرية والكرامة سرديةَ الثورة السورية، مثلما لاصقت سردية حق العودة النضال الفلسطيني على مدار العقود الماضية، وأن يكون عمل وبناء المؤسسات قائما على أساس هذه المبادئ نصّا وعملا، بحيث يتم تضمين كل ما يحفظ حق السوري مقيما أو نازحا أو لاجئا في التمتّع بالوصول إلى الغذاء والأمن بدون إذلال أو امتهان كرامته، وبممارسة كل ما يتعلّق بحريّته الشخصية التي لا تضر بمصالح المجتمع.

كل ذلك يتطلّب أن تعمل المعارضة السورية الرسمية وغير الرسمية بما في ذلك المجتمع المدني على حماية اللاجئين والنازحين والمقيمين ودعمهم في مواجهة أي ممارسات تستهدف سلبهم حريتهم وكرامتهم. وبدون اتخاذ هذه الإجراءات وتبنيها في سردية الثورة سيجعل النظام السوري يراهن مجددا على النجاح في استعادة سلطته على المجتمع مثلما كانت عليه قبل عام 2011، أو في أقل تقدير على أولئك الذين ما زالوا مجبرين على البقاء ضمن مناطق سيطرته.

وإن كانت كل الأطراف تتحيّن الفرصة لفرض مزيد من القيود على السوريين وحصر خياراتهم ضمن الأمن والعيش بعيدا عن الحرية والكرامة، لكن التجربة أظهرت أنّه من غير الممكن تكيّف معظم السوريين بشكل دائم إنما بشكل مؤقت، فهم يتحيّنون الفرصة بدورهم؛ من أجل التخلّص من أي قيود يشعرون أنها تمسّ حريتهم وكرامتهم.

أخيرا، تتقدّم الثورة السورية في العشرية الثانية وما زال أكثر السوريين متمسّكين بمطالب الحرية والكرامة داخل وخارج البلاد رغم كل ما يتعرّضون لهم من تقييد وممارسات تجبرهم أحيانا كثيرة على الصمت، ورغم حصول بعضهم على أوراق قانونية جديدة، إلا أنّهم أظهروا استعدادا للبحث عن خيارات جديدة تضمن لهم حقوقهم الإنسانية قبل القانونية. وهم وإن كانوا يفتقرون لشيء فهو العمل المنظّم وبناء السردية الواحدة، التي لم يعد ممكنا اختزالها بمجرّد إسقاط النظام بل بصون حريّة وكرامة المواطن السوري بكل السبل والإجراءات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.