ارتباك أميركي في السودان

FILE PHOTO: Sudan's General Abdel Fattah al-Burhan talks to troops about truce extension
الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان يتحدث مع القوات (رويترز)

بقدر ما خلفت الحرب الجارية بين القوات المسلحة السودانية ومليشيا الدعم السريع من مآس إنسانية كبيرة للمواطنين فقد كشفت كذلك حجم الارتباك الأميركي في السودان، وأبانت للسودانيين مقدار الضعف والحيرة لدولة طالما تخيلوا مقدرتها على التأثير في قضاياهم والمساهمة في بناء مستقبلهم.

وبما أن الحروب كاشفة فقد تأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الولايات المتحدة مرتبكة جدا في تعاملها مع الأزمة السودانية ولا تملك سياسة واضحة يمكن التعويل عليها، ولعل هذا الاكتشاف يسهم في إيقاظ كثيرين ممن لا يزالون يعيشون أحلاما وردية عن امتلاك أميركا زمام الأمور وقدرتها على تحقيق آمالهم، ولعله يشجع طرفي الأزمة السودانية على الاعتماد على إرادتهما الوطنية الخالصة لحل مشاكلهما دون الاعتماد على الآخرين.

سياسات ترامب أدت إلى تراجع حجم التجارة الأميركية إلى 41 مليار دولار فقط في العام 2018 بعدما كانت 100 مليار في العام 2008

ولم يكن الارتباك جديدا في التعامل مع السودان، إذ بدأ مع نهايات عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما عندما انطلق الحوار بين الدولتين بعد عقود من القطيعة والتنافر، فعندما فرضت حقائق الواقع ضرورة التواصل بين البلدين كان صعبا على الأميركيين بعد تلك العقود الانتقال إلى ثقافة التقارب والتعاون.

ورغم أن ذلك الحوار أدى في النهاية إلى رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وشطب العقوبات المفروضة عليه بعد التغيير الذي أسقط نظام الرئيس السابق عمر البشير عام 2018 فإن ما تأسس طوال سنوات القطيعة يصعب تفكيكه بين ليلة وضحاها، فظلت بعض مؤسسات الإدارة الأميركية -ولا سيما وزارة الخارجية- تواصل السياسات القديمة ذاتها.

تراجع الدور الأميركي في السودان

المحير حقا في قصة العلاقة بين البلدين أن السودان لا يمثل أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية مثل مصر أو المملكة العربية السعودية، ومع ذلك فقد ظلت توليه أهمية كبيرة وتضعه على لائحة أولوياتها حين يتعلق الأمر بالإجراءات التأديبية وفرض العقوبات، وطوال عهد البشير كانت تنظر للسودان كدولة مارقة يجب إعادتها إلى "الحظيرة".

لكن التطور الأبرز الذي حدث بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض وتبنيه سياسة التجاهل العام لأفريقيا هو ظهور لاعبين جدد أكثر تأثيرا في المشهد الأفريقي، حيث استطاعت الصين أن تكون الشريك التجاري الأول لأفريقيا وبلغ حجم تجارتها في العام 2022 حوالي 282 مليار دولار، كما أن روسيا أعادت تخطيط سياستها تجاه أفريقيا وتستثمر حاليا في أكثر من بلد أفريقي، حيث تعمل على توسيع نفوذها على حساب الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.

أما سياسات ترامب فقد أدت إلى تراجع حجم التجارة الأميركية إلى 41 مليار دولار فقط في العام 2018 بعدما كانت 100 مليار في العام 2008، ومؤخرا أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن أن الرقم ارتفع إلى 80 مليار دولار في 2022، أي أنه لا يزال أقل من 2008.

أما الصين فإنها تحتفظ باستثماراتها في النفط السوداني، وتعمل روسيا على زيادة حجم التبادل التجاري مع السودان، وتهمل الولايات المتحدة الأميركية السودان كمجال للتجارة والاستثمار وتركز فقط على الجانب السياسي وفرض العقوبات، فلا توجد حاليا أي اتفاقيات تجارية سارية مع أميركا، وحجم التبادل التجاري ضعيف جدا، في حدود 50 مليون دولار، 80% منه لصالح الولايات المتحدة الأميركية حسب تصريحات وكيل وزارة التجارة السودانية.

عادت إدارة بايدن لتستأنف السياسة الأميركية التقليدية في السودان، ولكنها فوجئت بمتغيرات كبيرة هي سبب هذه الربكة في نظرنا، فإلى جانب التمدد الروسي الهادئ في السودان طوال سنوات حكم ترامب برزت قضية التطبيع مع إسرائيل كعامل مهم في توجيه السياسة الأميركية إزاء السودان، فبينما يميل الإسرائيليون بصورة براغماتية إلى العسكر الذين قادوا عملية التطبيع وينشطون عمليا معهم تسعى بعض الدوائر المؤثرة  في البيروقراطية الأميركية إلى التحالف مع المدنيين من قوى الحرية والتغيير حيث ترى فيهم أملا لتنفيذ أجندتها المتعلقة بدعم التحول الديمقراطي وتمكين الأقليات في العالم العربي، وتتركز هذه الدوائر في وزارة الخارجية والكونغرس، فيما تتعامل وزارة الدفاع والـ"سي آي إيه" (CIA) والبيت الأبيض بصورة أكثر واقعية مع الملف السوداني والمكون العسكري.

كان أمل شريحة كبيرة من السودانيين -وفي مقدمتهم تحالف قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)- أن تضطلع الولايات المتحدة الأميركية بدور كبير بعد سقوط النظام السابق، ولكن سرعان ما خاب أملهم

هذا التنازع هو الذي أدى إلى تأرجح الموقف الأميركي منذ سقوط النظام السابق في أبريل/نيسان 2019، وظهر بصورة أكثر وضوحا بعد قرارات 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 التي أصدرها قائد الجيش ضد المكون المدني، فيما طائرة المبعوث الأميركي جيفري فيلتمان لم تغادر بعد الأجواء السودانية إثر زيارة وصفت وقتها بأنها تهدف لدفع عجلة التحول الديمقراطي.

ترددت الحكومة الأميركية كثيرا في وصف ما جرى بالانقلاب العسكري، وهو ما حدا بالسفيرة ميشيل غافين إلى انتقاد موقف الإدارة الأميركية، معتبرة أن "رد فعل الولايات المتحدة كان مثبطا للآمال وأكثر إرباكا"، فيما جاء مقال روبي غريمر مراسل شؤون الدبلوماسية والأمن القومي لمجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) المؤثرة أكثر وضوحا في التعبير عن التنازع بين المؤسسات الأميركية، فقد تحدث عن "ردة فعل سلبية وغضب بين الدبلوماسيين والمسؤولين في واشنطن الذين شعروا أن الإدارة الأميركية قوَّت الجنرالات وسط الأزمة الحالية، وفاقمت التوترات وهي تدفع باتجاه حل سياسي، وتجاهلت القوى المدنية الراغبة في التحول الديمقراطي".

السبب الآخر للارتباك الأميركي هو تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة العربية لصالح دول إقليمية استثمرت في السودان في السنوات الأخيرة، وباتت الولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع اتخاذ أي قرار حاسم في المسألة السودانية بمعزل عن حلفائها الإقليميين، سواء بعض دول الخليج أو مصر، وسعيها إلى إنتاج حلول توفيقية تجمع مصالح حلفاء قد تكون بينهم بعض التباينات، وهو ما يظهر الموقف الأميركي في النهاية مرتبكا وغير متماسك.

ماذا تريد أميركا من السودان؟!

كان أمل شريحة كبيرة من السودانيين -وفي مقدمتهم تحالف قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)- أن تضطلع الولايات المتحدة الأميركية بدور كبير بعد سقوط النظام السابق، ولكن سرعان ما خاب أملهم حين رأوا السياسات القديمة ذاتها تطبق على السودان، فقد تأخرت تسمية سفير في السودان لمدة 3 سنوات بعد سقوط نظام البشير، ولم تكن الصدمة الكبرى في عدم مد يد العون الاقتصادي لحكومة حمدوك وهي تترنح تحت تأثير الفشل جراء سياساتها الاقتصادية القاسية، ولكن جاءت الطامة الكبرى حين أصرت الولايات المتحدة على أخذ أكثر من 300 مليون دولار من الخزينة السودانية الخاوية ثمنا لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

هنا تيقن قطاع عريض من السودانيين أن أولويات الحكومة الأميركية لا تعبر عنها الشعارات المعلنة، إذ ظلت تعلن الموقف وضده في أكثر من قضية، فبينما كانت تصر على دعم عملية الانتقال الديمقراطي وقوى الحرية والتغيير كانت قيادة "الأفريكوم" تطور علاقاتها مع الجيش وتصرح برغبتها في توسيع التعاون العسكري، وفي الوقت الذي نشط فيه سفيرها في الخرطوم تحت ذريعة دعم الديمقراطية والقوى المدنية أكد السفير ذاته رفض تنظيم أي انتخابات في الوقت الحالي "لأنها ستعيد الإسلاميين".

وحتى بعد اندلاع الحرب الحالية لم تغير الحكومة الأميركية هذه السياسة المربكة والمرتبكة، حيث كان جل اهتمامها في الأسابيع الأولى للمعارك هو محاصرة الوجود الروسي في المنطقة، الأمر الذي فهم منه أنها لا تهتم بالمأساة الجارية إلا في حدود خدمة مصالحها، خاصة بعد أن سحبت بعثتها الدبلوماسية من الخرطوم، وانخرطت بعد ذلك مع المملكة العربية السعودية في الوساطة بين الطرفين، لكنها وبدلا من التركيز على الحوافز قامت بفرض عقوبات على الطرفين في أغرب مقاربة لأي عملية وساطة بين أطراف متنازعة، وعلى كل فهذا ليس نهجا جديدا في تعامل واشنطن مع الخرطوم، فقد فعلت السلوك ذاته في مفاوضات نيفاشا 2005 ومفاوضات أبوجا بخصوص دارفور بعد ذلك.

إن العبرة التي يمكن استخلاصها من الانخراط الأميركي الطويل في القضايا السودانية هي أنها لا تريد أن تبني هذه العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة للعلاقات الثنائية، ولكنها تريد أن تكون في وضع من يفرض الشروط على الجانب السوداني في قضاياه الداخلية، مثل قضايا السلام والأقليات الدينية والحريات العامة، كما أنها -ولتقديرات تخصها- تريد إبقاء حالة النزاع في البلاد أطول فترة ممكنة، ولذلك فمن المستبعد جدا أن تكون للتدخل الأميركي نتيجة إيجابية لصالح الحلول المستدامة في السودان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.