حرب دارفور الثانية.. هل يمكن تجنب الكارثة؟

الحلول المتعلقة بالسودان تتطلب في المقام الأول موقفا حازما للحفاظ على الكيان السوداني موحدا وإحياء التضامن الوطني (رويترز)
عناصر من قوات الدعم السريع في الخرطوم (رويترز)

أصبح من المألوف أن تشاهد رتلا من السيارات تتجه غربا محملة بما يعرف بالغنائم، وأغلب هذه الأموال والمقتنيات لا تعدو أن تكون معظمها سوى ممتلكات مواطنين أجبرتهم حرب المئة يوم الدائرة رحاها بالخرطوم على مغادرة بيوتهم فرارا منها.

هذه الأموال ستكون عاملا حاسما في الجولة الثانية من الحرب، ومن المتوقع بشكل كبير أن يكون مسرحها دارفور. كل من قوات الدعم السريع وحركات الكفاح المسلح لا تريد لدارفور أن تشتعل، فالدعم السريع لا يريد نزاعا يبعده عن أرض المعركة في الخرطوم والحركات تخشى هزيمة نكراء إن واجهت الدعم السريع في فضاء دارفور.

وحدها الحكومة من تدعو في سرها لا جهرها أن تنتقل يوميات الصراع إلى هناك بعيدا عن الخرطوم. اعتادت الخرطوم التعايش مع حركات التمرد الطرفية في السنوات التي تلت استقلال السودان في عام 1956، حيث لم تشكل أي من هذه الحركات تحديا وجوديا لحكومة الخرطوم في التعامل معها وضبطها في الوقت المناسب، ولذا فانتقال الصراع إلى هناك هو أمل الحكومة.

يجب أن نطرح السؤال المهم: ماذا لو خسر الدعم السريع معارك الخرطوم؟ هنا سينفرط عقد الضبط والربط عند هذه القوات وستتحول إلى مليشيات غاضبة.

تمارين بالذخيرة الحية

بانتقال الحرب إلى دارفور تنتقل الحرب إلى منطقة مختلفة تمامًا، منطقة الجزاء بلغة كرة القدم، أي خطأ تكلفته قاتلة. قوات الدعم السريع التي تقاتل ضد الجيش السوداني تتكون في أغلبها من قبائل عربية تمكّن قائد قوات الدعم السريع من حشدها في حرب بلا غبينة، بل اجتهد عرابو الدعم السريع في إيجاد إحداثيات جديدة لشرعنة هذه الحرب واستيلاد الدافع المعنوي الذي يمكّنهم من ذلك، تارة بترويج أنها حرب على فلول النظام السابق من الإسلاميين، رغم أن الفريق حميدتي في الأساس هو أحد منتوجات حكومة الإخوان، إذ إن 9 من أصل 10 أنجم تزين كتف محمد حمدان حميدتي كانت منحة من الرئيس المعزول عمر البشير.

وعليه، فالحديث عن دولة ما بعد الاستقلال التي همشت الهامش لا يجد سوقًا بين القوة الاجتماعية المناصرة لحميدتي، فاحتكار السلطة أكثر بروزًا في قوات الدعم السريع.

دارفور أرض المعركة القادمة

كل السيناريوهات تشير إلى أن الجولة الثانية من الحرب ستكون في دارفور، وإن لم ينتبه العالم أجمع ويوقف ذلك بأي شكل ستكون كارثة تفوق الوصف والتوقعات. إن انتصر الدعم السريع وتمكن من الاستيلاء على الدولة وما فيها سترتفع سقوف الأحلام بما يتجاوز أرض السودان. لكن قبل أن تصل رايات الدعم السريع إلى دول الجوار، بخاصة تشاد، سيكون عليه أن يخوض معارك ضد القبائل الأفريقية، حيث الثأر حاضر بين قبائل كثيرة اقتتلت في الماضي لأسباب لا تتجاوز العراك على شاحن أو هاتف أو سيارة، هناك حيث التنافس على الأرض بين المزارعين والتعالي العنصري بين الجميع، وكلٌّ يرى في الآخر كافة المناقص.

القبائل الأفريقية ترى في عرب البادية ضيفًا ثقيلًا عابرا من وراء الحدود يريد أن يشاركهم في الأراضي الزراعية المعروفة بالحواكير، بينما تظن القبائل العربية نفسها أنها تسمو بنسبها وأصلها العربي على ما سواها. هنا تتحول مكاسب الخرطوم في الحرب الجديدة القديمة في دارفور، وستتحرك المليشيات العربية مدفوعة بالزهو وآليات الدولة في معاركها الجديدة.

السيناريوهات الدامية

يبقى أن نطرح السؤال المهم وهو: ماذا لو خسر الدعم السريع معارك الخرطوم؟ هنا سينفرط عقد الضبط والربط عند هذه القوات وستتحول إلى مليشيات غاضبة وتمتلك أدوات مادية أفضل بجانب تدريب ساخن، ويُسخّر كل ذلك في حرب جديدة وغير محسومة في دارفور.

الانسحاب نحو دارفور لن يكون نزهة، فمعظم الحركات المسلحة في دارفور لن تقابل العناصر المهزومة بالزهور وستخرج من حالة الحياد الكاذب في هذه الحرب.

والحقيقة المجردة أن حركة التحرير والعدل بقيادة جبريل إبراهيم وحركة تحرير السودان بقيادة مني مناوي تناصران الجيش سرا، أما المجلس الانتقالي وحركة الطاهر حجر فتنسجان خيوطًا واهية من التواصل مع قوات الدعم السريع.

هذه الخطوط لن تصمد حين تُقرع طبول الحرب القبلية، فكل هذه الحركات تعدّ ممثلًا للقبائل الأفريقية أو تدّعي ذلك على وجه الدقة. وستحاول هذه الحركات أن تأخذ نصيبها من غنائم حرب الخرطوم كما ستعيد القبائل الأفريقية تموضعها لمواجهة جيش جرار ومفترس وقابل للاستفزاز إن لم تواجهه سيلتهمها بالكامل.

بوادر هذه المواجهة هو ما حدث في مدينة الجنينة من قتل جماعي لقبيلة المساليت قامت به المليشيات العربية المنتشية بما يحدث في الخرطوم، أو خطة المدافعة الحذرة التي يتبناها مني أركو مناوي في مدينة الفاشر والتي يمكن أن تكون شرارة الحرب القادمة.

الوحدة ضد المركز

هناك سيناريو آخر ينظر إليه بعض قادة الدعم السريع يتوجس منه قادة الحركات المسلحة ومن ورائهم القبائل الأفريقية. بدأ هذا السيناريو باجتماعات عقدها نائب قائد قوات الدعم السريع مع قادة هذه الحركات في دولة تشاد برعاية بعض الدول الإقليمية وبتشجيع من الرئيس التشادي، والفكرة تكمن في توحد كل الدارفوريين ضد الخرطوم لانتزاع السلطة ثم الجلوس لاحقًا لاقتسامها.

قادة هذه الحركات معظمهم لم ينسوا أن الذي فرّق شملهم وأذاقهم الهزيمة في دارفور لم يكن سوى الدعم السريع، وأن حريق دارفور الأول صنعته أيادي الجنجويد، لذا لن ينجح توحيد أهل دارفور خاصة حينما يتحول إلى خطة عمل في الميدان متجاوزًا الشعارات.

هناك لاعبون خارج الملعب يمكنهم أن يرموا الميدان بالحجارة مثل الشيخ موسى هلال شيخ عشيرة المحاميد والخصم اللدود لقائد قوات الدعم السريع. موسى الذي حبسه حميدتي أكثر من 6 سنوات انطلق عائدًا إلى دارفور مستغلًّا السحب الدخانية التي تحجب رؤية أهل دارفور مثل قادة قبلائل المساليت الذين لم يتمكنوا حتى الآن من مواراة جثث قتلاهم في مدينة الجنينة غربي السودان. مثل هؤلاء من الصعب أن يضعوا أيديهم مع من يعتقدون أنه سفك دماءهم وشرد أهلهم ونزع سلاحهم.

تحييد أصابع الشيطان

السيناريو الأفضل هو أن يتمكن العالم من احتواء حرب الخرطوم عبر التفاوض والتنازل من الجانبين، لكن حتى التسوية السياسية للكارثة القادمة لن تمنع تفاقم الأوضاع في دارفور إن لم ينتبه العالم إلى الكارثة القادمة. التسوية ستحافظ على مكاسب مقاتلي الدعم السريع وغنائمهم من حرب الخرطوم، لكنها لن تحسم الصراعات المستقبلية بين قبائل دارفور بالدراجات البخارية والحصين والأسلحة الخفيفة والمتوسطة.

ذلك زمنٌ ولّى وحان وقت استخدام الأسلحة الثقيلة وسيارات الدفع الرباعي، كل هذه ستكون بعضًا من غنائم الخرطوم التي ستحسم معارك المستقبل القريب في دارفور.

التدخل الدولي المحتمل يجب أن يقوم في البداية بتحييد الحواضن الإقليمية في صراع القبائل المحتمل، فقد ثبت بالدليل أن هناك من يخوض مغامرة جديدة في الإقليم الملتهب عبر مناصرته ودعمه غير المحدود لقوات الدعم السريع، حتى تشاد التي تقوم الآن بدور الناصح الأمين ستجد نفسها في أتون معركة حينما يستنجد أبناء القبائل المشتركة بأبناء عمومتهم من الداخل التشادي.

إن نجح العالم في غلّ يد تشاد في معركة دارفور المقبلة، وتكبيل أيدي اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر ومنعه من إرسال المؤن والعتاد إلى حلفائه في دارفور، وقبل ذلك إقناع بعض الفاعلين في الخليج أن هذه المغامرة الجديدة خاسرة وتكلفتها الدموية عالية، فكلها خطوات من شأنها أن تقلل من النزيف المتوقع حدوثه.

لكن هناك ما هو أهم؛ كيف السبيل إلى منع المركز من مناصرة طرف على آخر؟ جنرالات الخرطوم يناصرون هذه المرة القبائل الأفريقية لإضعاف حواضن الدعم السريع الاجتماعية حتى لا يعود في مرة جديدة ويقتلع سلطانهم. مهمة تنتظر العالم أن يجبروا قادة الجيش ألا يتورطوا في أزمة جديدة، ومن المفيد التلويح ببطاقة العدالة الدولية هذه المرة.

ثم قبل ذلك يحتاج العالم إلى وضع خطة دولية مسبقة للتعاطي مع أحداث الجولة الثانية من حرب الخرطوم التي ستدور رحاها في إقليم دارفور. رؤية تحدّ من تدهور الأحوال الإنسانية وتقلل من انتهاكات حقوق الإنسان، ثم تضع في المدى البعيد خطة تنموية شاملة تخرج دارفور من دائرة الفقر المفضي إلى الصراع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.