نحو مشروع وطني لبناء دولة مدنية ديمقراطية في السودان

عناصر من الجيش السوداني يحتفلون بالسيطرة على "التمرد" في جنوب دارفور (القوات المسلحة السودانية)

حملت الثورة السودانية -التي شعارها "حرية.. سلام.. وعدالة"- مضامين ومعاني المواطنة المتساوية، ليعيش كل فرد بغض النظر عن انتمائه السياسي والديني والقبلي كريما في وطنه.

وبما أن مفهوم المواطنة المبني على الحقوق والواجبات أساسه دولة مؤسسات مدنية ديمقراطية كان من أهداف الثائرين والثائرات إصلاح المؤسسة العسكرية وبناء مجتمع مدني ديمقراطي، لكن المماحكات السياسية والبحث عن الحواضن العسكرية من قبل التيارات المدنية قادت إلى عسكرة الفضاء السياسي والاقتصادي، وساهمت في تمرد فصيل تابع للقوات المسلحة.

صحيح أن قوات الدعم السريع المعروفة بالجنجويد سابقا هي من صناعة نظام الرئيس السابق عمر البشير لكن تمدد وتطور هذه القوات اقتصاديا وسياسيا حدث بصورة متسارعة في الفترة الانتقالية لحكومة قوى الحرية والتغيير (قحت) المحسوبة على الثورة.

إن التحدي الأكبر الآن هو تقديم أطروحات بعد هذا الصراع الدامي، والتعامل مع جذور وتداعيات الأزمة ومآلاتها، وهذا يستدعي التفكير العميق في فترة ما بعد الحرب ودحر مليشيا الدعم السريع، وكيف يمكننا أن نساهم في رسم مستقبل الوطن على نحو يحافظ فيه على وحدة كيانه وحقن دماء شعبه وتحقيق السلام الشامل والعادل على كافة ربوعه، السلام الذي يملكه ويستفيد من منافعه السواد الأعظم من الضحايا الذين ما زالوا في معسكرات النزوح واللجوء.

لا شك أن الفشل السياسي الكبير والمدمر ممن تصدوا لإدارة الفترة الانتقالية كان السبب الأكبر في ما نتج من موت ودمار وانهيار اقتصادي وتفتت سياسي واجتماعي، مما عمّق فشل الدولة السودانية وعطل مؤسساتها وعرّض البلاد لاختراق الطامعين بشكل غير مسبوق.

ولهذا لا بد من تضافر أهل الرأي والفكر في جهد جماعي واسع الأفق وبإرادة وطنية مخلصة، للمساهمة في تشكيل المشهد السياسي والإستراتيجي للوطن بما يجنبنا المزالق التي أدت لهذه الأزمة وإلى هذا الانهيار الكبير للمؤسسات والإهدار للإمكانيات والموارد.

وتأتي الأولوية لترتيب البيت المدني الذي تم اختطافه من قبل فئات فاقدة الأهلية والبوصلة الأخلاقية، وهذا يتطلب بدوره قيام طليعة تَنذُر نفسها للتصدي لمهام التخطيط الإستراتيجي المتقدم والمتبصر الخالي من الغرض والاستقطاب السياسي، واتخاذ المصلحة الوطنية العامة دليلا وهاديا في أي نقاش للخيارات والخطط المستقبلية لإرساء أسس الحرية والعدالة والبناء الديمقراطي السليم، وتكون هذه الطليعة جامعة لكل أطياف المجتمع وقطاعاته وفئاته، تطرح أفكارها ومقترحاتها بعيدا عن الشخصنة والشللية والعصبيات الضيقة التي أوردت البلاد موارد الفشل والهلاك.

والأولوية هنا هي الوقوف أمام المحاولات المشبوهة لإعادة إنتاج نفس الفئات والشخصيات التي صنعت الفشل وانتزعت الهزيمة من فك انتصار شعبنا العظيم، والمسؤولة عن الدمار الحالي تحت شعارات براقة حول السلم ورفض الحرب، ومواجهتها بتحرك وطني جاد من الوطنيين المخلصين من غير المتورطين في تجارب الفشل المريرة ومن غير الطامعين في المغانم والمصالح الضيقة على حساب الشعب والثورة.

إدراكا ووعيا بهذا التحدي الكبير ندعو الآن إلى قيام تيار وطني عريض يتصدى لمهام هذه المرحلة ويضطلع بواجب طرح رؤية وطنية لبديل وطني حقيقي للفترة القادمة بعيدا عن أي مطامح حزبية أو تطلعات سلطوية وبعيدا عن أي ارتهان للخارج وقعت فيه قوى الفشل والاستقطاب.

وتكون الأولوية هي طرح رؤية لكيفية بناء السلطة المدنية الديمقراطية المرتضاة من الشعب وغير المرتهنة للمليشيات والقوى الاستبدادية الأجنبية التي تسندها بغرض الاستعباد والنهب ورهن مستقبل البلاد لمصالح بعينها، ويمتلك هذا التيار الكفاءة والنزاهة والعزيمة لإنجاز مهام المرحلة بدون تهاون أو تحيز ضيق.

السودان اليوم مخترَق بصورة غير مسبوقة، فهنالك 19 ألف منظمة طوعية تعمل فيه، ألفان منها منظمات وطنية، صرفُ هذه المنظمات يعادل 1.5 مليار دولار، وهناك 13 منظمة منها تابعة للأمم المتحدة

ويكون من مهام المرحلة التالي:

بناء جيش وطني قوي

الجيش الوطني هو الرافعة والعمود الفقري للدولة، فهناك تشوهات في منظومة القوات المسلحة جراء تدخلها في الشأن السياسي واستخدام مليشيات في حروبها الداخلية.

لقد تطورت مليشيا الجنجويد من مليشيات هدفها القتل والنهب إلى قوة لديها علاقات دولية وتعاون أمني مع الكيان الصهيوني، وأصبحت تتحكم في موارد البلاد وتحتكر الموارد الريعية والتصدير واستيراد السلع الإستراتيجية، وتقدّر ثروة الدعم السريع وزعيمها بنحو 10 إلى 13 مليار دولار.

أحد الأخطاء المفصلية في ظل حكومة قحت برئاسة عبد الله حمدوك هو تعيين قائد الدعم السريع رئيسا للجنة الطوارئ الاقتصادية، والذي بدوره أنشأ محفظة لاستيراد السلع الأساسية بمعدل هامش أرباح تصل إلى 20% من التكلفة، مما تمخض عنه تضخم ثروته في فترة حكومة حمدوك أضعافا مضاعفة، كما تضاعف حجم قوته العسكرية إلى 118 ألف جندي، فيما كانت في عهد النظام البائد تقدّر بـ18 إلى 20 ألف مسلح.

لقد كانت الفترة الانتقالية فرصة لقوات الدعم السريع لبناء ترسانة اقتصادية، وعليه فإن تفكيك ترسانتها الاقتصادية لا يقل أهمية عن تفكيك بنيتها العسكرية.

ومن نافلة القول إن هناك قوات تابعة للحركات المسلحة الأخرى تنتظر استيعابها في القوات المسلحة، فلا بد من دمج وتسريح كل التشكيلات المسلحة على الأسس الدولية المتعارف عليها التي تشمل دمج قطاعات منها في القوات المسلحة الوطنية والأجهزة الأمنية الأخرى بصورة تراعي أيضا المصلحة العامة للقطاعات المتضررة، وليس فقط مصالح جهات حزبية أو جهوية بعينها.

ولا بد من مهمة بناء القوات المسلحة على أسس مهنية بعيدة عن التجيير السياسي، كما لا بد من تنحي القيادة الحالية وإتاحة الفرصة لقيادات جديدة لتُجري الإصلاحات الضرورية.

التصدي للمهام الإنسانية

حسب المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، يبلغ عدد النازحين داخل السودان بسبب القتال الدائر حتى الآن 700 ألف إنسان، ولا ننسى أن هنالك نزوحا قبل هذه الأحداث في دارفور يقدّر بـ3 ملايين و200 ألف نازح، وأيضا هنالك نزوح في جنوب كردفان والنيل الأزرق.

ولذلك لا بد من إيصال المساعدات وتوفير الأمن ووقف جميع الانتهاكات وتوفير سلاسل الإمداد عبر التنسيق مع دول الجوار والمجتمع الدولي، فعودة النازحين إلى مناطقهم ومدنهم ستكون من أولويات ومهام الحكومة الانتقالية، كما أن التصدي للمهام الإنسانية أصبح ضرورة ملحة للسودان ودول الجوار، خاصة مصر.

الإصلاح الاقتصادي

لقد بدأت الدولة إجراء إصلاحات أفشلها ضعف حكومة عبد الله حمدوك، والأولوية الآن يجب أن تمنح إلى تأهيل القطاع الزراعي ورفع القيود عنه، وخلق عناقيد صناعية حول المناطق الزراعية، وتطوير وتشجيع الصناعات الصغيرة، وتطوير القطاع المصرفي، وتوجيه المستخلص من الموارد الريعية إلى تطوير قطاعي التعليم والصحة، ولا بد للدولة من احتكار تصدير الصمغ العربي وحماية المنتجين.

العدالة الانتقالية

الإفلات من العقاب سمة في السياسة السودانية، والنتيجة تكرار المآسي ذاتها، ما حدث في جنوب السودان تكررت نسخته بصورة أكثر بشاعة في دارفور وتكرر اليوم في عاصمة البلاد، فلا بد من بناء مؤسسات عدلية تعمل بأعلى المعايير الدولية، فيها فصل للسلطات، وتعمل بمهنية من دون تسييس، وتساعد الدولة والمجتمع على تطبيق العدالة الانتقالية بعيدا عن التشفي والانتقام، ويتم عبر هذه المؤسسات استرداد الأموال المنهوبة في عهدي الإنقاذ والفترة الانتقالية، ومحاكمة مجرمي الحرب في دارفور والخرطوم، ولا بد من غرس مبادئ العدالة على أسس عقلانية بعيدا عن التطرف والاستقطاب.

ترميم العلاقات الخارجية

السودان اليوم مخترَق بصورة غير مسبوقة، فهنالك 19 ألف منظمة طوعية تعمل في السودان، ألفان منها منظمات وطنية، صرفُ هذه المنظمات يعادل 1.5 مليار دولار، وهناك 13 منظمة منها تابعة للأمم المتحدة.

يجب حصر أنشطة هذه المنظمات وتقنين عملها في مجالات تنموية، وليس كأدوات سياسية لتشكيل المشهد السياسي بعيدا عن الوصاية، ولا بد من ترميم علاقات البلاد الخارجية مع دول الإقليم والمؤسسات الدولية وكل دول العالم حتى تُحترم سيادة البلاد ومصالح أهل السودان.

كما يجب رفض التدخل السافر في شؤون البلاد، وقد يتطلب هذا مراجعات لبعض الاتفاقيات القائمة بما يخدم المصلحة العامة ويساعد في تحقيق مكاسب ملموسة في مجالات التنمية والازدهار الاقتصادي والدعم للفئات الأضعف والأكثر تضررا.

دعونا إذن نفكر بحكمة وتجرد في المستقبل بعيدا عن نسق التفكير الفئوي قصير النظر، وذلك أملا في أن يكون شبابنا جزءا من المشهد ومساهما نشطا وخلاقا في تشكيل الحياة الجديدة لسودان المستقبل والأمل، والذي يتشكل أمام ناظرينا.

وينبغي أن تتاح الفرصة لدماء جديدة تتولى تمثيل الفئات المتضررة في كل أنحاء السودان، بما فيها دارفور وشرق السودان، دون أن يقتصر ذلك على مناطق النزاع وحدها، وبعيدا عن القيادات والنخب الحالية التي تتحمل المسؤولية عن الدمار الحالي وتتحمل مسؤولية الفشل والانهيار.

يجب أن يكون لدينا أمل وثقة في مقدرة هذا الشعب وشبابه في بناء سودان السلام والحرية والعدالة، فبدون هذا الأمل سننزلق إلى فخ التفكير العدمي غير المتعقل، وتتلبسنا روح انهزامية تعطل التفكير الخلاق حول بناء مستقبل مشرق، وهذا ما تعلمناه من شباب الثورة وتضحياتهم وأدبياتهم، وهذا الأمل مجسد في واحد من شعارات الثورة وهو شعار "حنبنيهو".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.