العلاقات العربية.. قراءة في ملامح توجهات سياسية جديدة

خلال الفترة الأخيرة تحسنت فرص التقارب الثنائي والجماعي، وأدت التطورات الإيجابية إلى صياغة ملامح جديدة للعلاقات السياسية بين دول المنطقة (الجزيرة)

على مدى السنوات الماضية، يمكن ملاحظة تزامن بين مراجعة العديد من دول الإقليم لسياساتها الخارجية ومحاولات فرض مشاريع غربية لإثارة الصراع الإقليمي، وخلال الفترة الأخيرة تحسنت فرص التقارب الثنائي والجماعي، وأدت التطورات الإيجابية إلى صياغة ملامح جديدة للعلاقات السياسية بين دول المنطقة، لكن تبقى مشكلة أن تلك التطورات أخذت طريقها دون مبادرة جماعية تعمل على تحويل ما يمكن وصفه بالسلام البارد في طبيعة وشكل هذه العلاقات إلى علاقات تفاعلية وحيوية ذات أبعاد إستراتيجية.

في مواجهة المشاريع الغربية

في عمقها التاريخي، تبدو العلاقات الإقليمية أمام اختبار مهم في إمكانية بناء شبكة من العلاقات الجماعية تشمل دول الجوار العربي على أساس تجميع المصالح، فقد تلاقت المصالح في إحباط 3 مشاريع غربية دار محتواها حول إثارة الصراع الإقليمي، ففي فترة متقاربة، دفعت الولايات المتحدة بمشروع المظلة الدفاعية للشرق الأوسط (الناتو العربي في 2017)، وهو ذاك المشروع الذي أُعدّ في خمسينيات القرن الماضي لدمج إسرائيل في الأنساق العسكرية للدول العربية، وكان منظور إعادة طرحه لغرض المواجهة الأميركية مع إيران.

وفي السياق ذاته، طرحت إدارة دونالد ترامب المبادرة الأميركية للسلام في يناير/كانون الثاني 2020، وهي تقوم في مجملها على فرض مشاريع التطبيع وتجاوز قضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وقد شكلت استجابة بعض الدول له تحديا للأمن الإقليمي وخصوصا مع ظهور أفكار هلامية حول الإبراهيمية كمبادئ للتعايش أو التداخل الديني. لقي هذا التوجه معارضة واضحة من جانب مصر باعتباره تخليا عن شروط السلام العادل، كما تبنت السعودية موقفا متقاربا للقلق من مشاريع تؤثر على الأمن الإقليمي والسلامة الثقافية للمسلمين.

لم تقف محاولات الغرب عند هذا الحد، بل شرع في التفكير في إنشاء تحالف جديد يماثل حلف بغداد في خمسينيات القرن الماضي، يكون هدفه الأساسي إثارة الصراع مع دول الجوار وإسقاط محاولات الاستقلال. هذه المرة ظهر فجأة مشروع "مؤتمر بغداد للشراكة" (2021) تحت رعاية فرنسا، ورغم استبعاده لإسرائيل، فقد تبنى موقفا لتهميش دور إيران وربطه بشروط حُسن النية والمصداقية تجاه ملفات سوريا واليمن.

على أية حال، اختمرت أفكار تعميق التغلغل في المشروعات الغربية، لكن لم يشهد أي منها تقدما نوعيا، بل على العكس، واجهت حوائط صد وإدراك مشترك لمخاطرها. وكان هذا الإدراك هو الركيزة الأساسية للتقييم الإيجابي للعلاقات الثنائية أو الجماعية. وخصوصا مع سعي الأميركيين لتعطيل الحل السياسي في سوريا، أو بعثرته في حالة ليبيا. وتحت إكراهات التطبيع مع كيان الاحتلال يمكن مناقشة أولويات الحكومات والشعوب.

وتُقدم التجربة المصرية محاولة جديرة بالمتابعة في تثبيت حالة السلام البارد مع إسرائيل، فقد اكتفت بوقف الحرب وإقامة قنوات دبلوماسية لم تصل لمرحلة التطبيع السياسي أو الثقافي فضلا عن الأمني. لم يتوقف التصور المصري للسلام عند هذا الحد، لكنه لعب دور رئيسيا أيضا، في إعاقة المشروعات الأميركية الإسرائيلية، في السنوات الأخيرة، لتكوين تحالف عسكري أو أمني ضد إيران. العودة للتاريخ تخبرنا أن هذا التوجه المصري كان حاضرا كذلك في مواقف قديمة كما هو الحال عندما رفض الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك دعوة إسرائيل مصر لتبني سياسة مشتركة بينهما ضد إيران.

أسست قمة العلا في السعودية 2020 لسلسلة من المصالحات والتسويات التي شملت الكثير من البلدان على أرضية المصالح المشتركة والتعاون الاقتصادي

وبغض النظر عن غياب الأسباب الموضوعية للتوتر، تزايدت دوافع التقارب الإقليمي كرد فعل للإكراهات الأميركية للحشد ضد إيران والترويج الإقليمي لكيان الاحتلال الإسرائيلي، حيث اتجهت العلاقات الإقليمية نحو الترابط السياسي والاقتصادي.

أثر قمة العلا

انعقاد قمة العلا العربية في السعودية في يناير/كانون الثاني 2020، يمكن اعتبارها الخطوة العملية الأقوى والأكثر تأثيرا لاستعادة الموضوعية والمصالح في العلاقات الإقليمية وإنهاء مرحلة البحث عن محاور متخاصمة وغير متجانسة. أسست القمة لسلسلة من المصالحات والتسويات التي شملت الكثير من البلدان على أرضية المصالح المشتركة والتعاون الاقتصادي، لم يتوقف الأمر عند الزيارات المتبادلة، بل تشكلت لجان عليا لتطوير العلاقات في مصر والسعودية وقطر وتركيا والإمارات، تم تتويجها بالاتفاق الإيراني السعودي.

يكتسب الاتفاق أهميته من توافر مقومات أساسية، فبالإضافة للمكونات الدينية والثقافية، فإن لدى هذه الدول العديد من سمات القوة الإقليمية، يتضاعف عائدها مع تبني السعودية لدبلوماسية نشطة لتكون مركزا وسطا بين مصر وتركيا وإيران، وهو ما يساعد على تسوية النزاعات الإقليمية وسد الثغرات أمام نفوذ القوى الغربية، فضلا عن تزايد فرص الاعتماد المتبادل.

الحاجة إلى إطار سياسي

قد تكون التقاربات والمصالحات الإقليمية كافية في مرحلة ما، لكنها قد لا تناسب مرحلة أخرى، فالانتقال من التوتر أو تجنب ما يؤدي إليه السلام البارد هو إنجاز مهم، لكنه لا يكافئ التقلبات في النظام الدولي وظهور تحديات جديدة كالأزمة الجارية في السودان حاليا. فلا بد إذن من التقدم نحو إطار منظم يحفظ المصالح المشتركة ويمكنه تنظيم وترتيب ثورة المصالحات الإقليمية.

تتزايد الحاجة إلى هذا الإطار السياسي لتنظيم تلك العلاقات الآخذة في التحسن، وهذا التوجه لا بد أن يقود لتنسيق العلاقات ما بين عدة منظمات إقليمية كالجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة الدول التركية، إذ إن هناك حاجة لإيجاد رابطة مشتركة بين الدول الأعضاء، يكون لديها القدرة على التنسيق وخفض تأثير النفوذ الأجنبي.

على أية حال، تتضح مما سبق الحاجة للمضي نحو إطار واسع لتجميع القدرات وتحييد المخاطر، بحيث يقتصر دور العامل الخارجي على التحفيز في إطار علاقات متكافئة. وفي هذا السياق، يمكن فهم السياسة الصينية الباحثة عن تموضع في المشهد السياسي يساعدها أن تحل مكان منافسيها، وذلك على أساس من الشراكة، والبعد عن الاستقطاب بين الداعمين للسعودية والموالين لإيران في المنطقة العربية.

تمثل مبادرة عمرو موسى، الأمين الأسبق للجامعة العربية، لتأسيس "رابطة لدول الجوار العربي" في قمة سرت (ليبيا) في 2010، إطارا مناسبا لتنسيق العلاقات العابرة للإقليم العربي

وهنا، تأتي أهمية التفكير في شكلٍ يجمع القواسم والمصالح المشتركة بين دول الإقليم، ويكون بمثابة منتدى للنقاش والتبادل والتفاوض حول الأزمات والتحديات المشتركة، ويمثل الاتفاق السعودي الإيراني تجربة حية لإمكانية تسوية الاختلافات الأخرى بين الدول.

كانت باكورة ثمار تقريب المواقف بين السعودية وإيران هو طرح فكرة عودة سوريا للجامعة العربية، ووضع ضمانات لالتئام الحل السياسي والإعمار وعودة النازحين، بالإضافة إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن، وقد ساهم في هذا تراجع تحفظات مصر على التقدم في الملف السوري.

وقد تمثل مبادرة عمرو موسى، الأمين الأسبق للجامعة العربية، لتأسيس "رابطة لدول الجوار العربي" في قمة سرت (ليبيا) في 2010، إطارا مناسبا لتنسيق العلاقات العابرة للإقليم العربي، فتلك المبادرة تتناسب مع التطورات الإقليمية الجارية لعوامل كثيرة، يأتي في مقدمتها انفتاح العلاقات السياسية على دول الجوار ووجود رغبة في الوصول لمرحلة الاعتماد المتبادل، بشكل يمهد الطريق للتكامل الإقليمي.

على أية حال، تساعد استعادة التفكير في الترابط بين الدول الإسلامية في تنويع بدائل السياسة الخارجية. ولا سيما أن المنطقة تواجه التحديات والمشكلات نفسها، وأهمها فقدان الثقة في السياسة الأميركية وتنامي خطر إسرائيل. وهنا، تعمل هذه الفكرة على دعم دول المواجهة مع إسرائيل وكسر موجة التطبيع، ويُعتبر عقد الجامعة العربية لاجتماع تحت عنوان "القدس صمود وتنمية" في فبراير/شباط الماضي، مؤشرا على فرصة لتنسيق التعاون الأمن الإقليمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.