شرارة اقتحام الأقصى.. إلى أين؟

لم يسبق لكيان الاحتلال أن خاض المواجهة بمثل هذا الانقسام الداخلي (غيتي)

بدأت المواجهة المسلحة، ورغم أن الصواريخ في سماء غزة وفلسطين المحتلة، ورغم أن الانقسام في الداخل الإسرائيلي يلقي بظلاله على التفاصيل اليومية، لكن أبعاد المواجهة تتجاوز اعتبارات المشهد المحلي، لتتناول مسألة الحضور الإيراني قريبا من الحدود الإسرائيلية، وضرورة التعامل معه فيما يبدو أنه تحضيرات لا بد منها قبل التوجه المباشر لشل التطور النووي الإيراني.

والتحول بالمشهد نحو هذه المواجهة كان سريعا ولم يكن مفاجئا، إذ إن تفجير الصراع بات نتيجة ومصلحة في الوقت ذاته، فهو نتيجة طبيعية لإعادة التموضع العربي الإسرائيلي ضمن خريطة التطبيع المحدثة، وهو كذلك مصلحة متبادلة لطرفي المواجهة بغرض تصدير الأزمة الداخلية، سواء لدى حكومة نتنياهو أو لدى نظام الملالي في إيران.

غير أنه رغم السعي الواعي نحو الاشتباك، لا يسعنا وصف هذه الحسابات بالرهان، بل يغلب عليها وصف الجنون.

 ليست رهانا سياسيا

ذلك أنها ذات بعد ديني ينطلق من ضرورة تفجير الصراع مما يزيد من فرص اندلاع حرب "يأجوج ومأجوج" التي تعد مقدمة لنزول المخلص المنتظر بحسب معتقد أتباع وزير الأمن القومي بن غفير. كما أنها في أدواتها تتخذ شكلا عبثيا يعتمد البلطجة كجهاز تنفيذي، ويحيل الدولة إلى مليشيات مسلحة. هذا عن جنون الوسائل، وأما في النتائج فقد يبدو السؤال عن ضمانات السيطرة على حدود المواجهة وحده كفيلا بإثارة القلق، لا سيما مع تراجع رصيد التفاهمات الدولية لصالح شحن المواجهة الشاملة.

جولة مختلفة

مما يجعل هذه الجولة مختلفة:

  • كونها من حيث التوقيت مدفوعة بمعادلة المصلحة الانتخابية بدلا من "المصلحة الوطنية" كما تدعوها دولة الاحتلال.
  • قطار التطبيع، فلم يسبق للعلاقة الإسرائيلية العربية أن شهدت مثل هذا التقارب، على مستوى أنظمة الحكم.
  • كما لم يسبق في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي أن اتسعت المسافة بين الشعوب العربية وبين حكوماتها بالقدر القائم الآن، حيث لا يزال الموقف الشعبي من الاحتلال ثابتا، وموقف الاحتلال نفسه ثابت، وأما المتغير فهو في موقف أنظمة عربية مبتعدة عن شعوبها، لم يسبق لكيان الاحتلال أن خاض المواجهة بمثل هذا الانقسام الداخلي العمودي وأزمة الهوية التي تختصرها مطالب إعداد دستور لدولة الكيان.
  • لم يسبق للخريطة الدولية منذ نشأة دولة الاحتلال حتى يومنا أن شهدت ما تشهده اليوم من انزياح جيوسياسي واسع وما رافقه من ارتفاع حاد في معدلات العنف وتسخين أجواء الحرب وولادة تحالفات وأقطاب إقليمية ودولية، سياسية واقتصادية وعسكرية.

الصراع على سوريا ولبنان

الوجود الإيراني في سوريا تعرض لمئات الضربات بسلاح الجو الإسرائيلي، وبينما تتبنى إسرائيل غالبا العملية درجت عادة إيران على التزام الصمت. لكن هذا تغيّر قبل أيام حين أعلنت طهران عن مقتل أحد كبار مستشاريها في سوريا بضربة إسرائيلية، مسجلة بذلك موقفا متقدما في المواجهة، معلنة بالحضور العسكري في سوريا دون مواربة، ومتوعدة بالرد وحماية هذا الحضور، لترسم بذلك معادلة ردع جديدة، مستفيدة من خريطة التحالفات الدولية الجديدة وتراجع الدور الأميركي العالمي.

بينما أكد وزير دفاع الاحتلال يؤاف غالانت صباح يوم الاثنين خلال لقائه ضباط جيشه شمال الأراضي المحتلة عزم إسرائيل على دفع إيران خارج سوريا، محذرا من استهداف الكيان من حدوده الشمالية.

وبهذا فإن غالانت يقرر مصلحة إستراتيجية لا مجرد تكتيك انتخابي، وإن مسلسل الضربات الإسرائيلية الجوية في سوريا طيلة سنوات الصراع يؤكد ذلك بوضوح.

من شأن المواجهة العسكرية القائمة أن تسارع في عودة نظام الأسد للحضن العربي بقيادة المملكة العربية السعودية، التي ترى في التطبيع مع الأسد خطوة إضافية تعزز بها التقارب مع إيران ومصلحة أمنية تدفع بها نيران المواجهة حين تجاوز الحدود المحلية، هذا على المدى القريب، وأما على المدى المتوسط فهي تأمل الدفع بنظام الأسد نحو التطبيع أو السلام مع إسرائيل، ليكون ذلك بمثابة انتزاع من النفوذ الإيراني.

خلاصة

لن يمر مشهد اقتحام الأقصى والاعتداء الهمجي على المعتكفين فيه مرور الكرام، سينجح راسمو هذا المشهد في تفجير الوضع كما أرادوا، لكن المؤكد أن الصدام لن يظل حبيس القدس، بل مقدمة لانتفاضة شعبية واسعة تأتي في حين غياب سلطة مركزية قوية قادرة على إدانة الحدث، وفي ظل نكوص أردني عن القيام بواجب الوصاية ومنه الحماية للأقصى، وفي غمرة اضطراب أمني لدى دول الجوار على الحدود الشمالية نتيجة فشل الدولة في كل من سوريا ولبنان، وفي ظل تنازع إقليمي على احتكار قرار دمشق، وتراجع الاهتمام الغربي في الشرق الأوسط لصالح الانشغال بحرب أوكرانيا وروسيا وسيطرة أجواء الحرب على التجاذبات الدولية.

وهو ما يجعل التكهن بمآلات المواجهة مهمة صعبة، إلا أن المؤكد أنها ستكون جولة محرجة لكل الفاعلين في المنطقة، بداية من المشاركين في قمتي العقبة وشرم الشيخ، وعلى رأسهم السلطة الفلسطينية، مرورا بدول قاطرة التطبيع مع دولة الاحتلال، وصولا للدول الغربية الغارقة في اتهامات الكيل بمكيالين فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

قد يجد نظام الملالي أو حكومة نتنياهو في هذه الجولة طوق نجاة، لكنهما قد يجدان فيها أيضا منصة إعدام، فهي ليست مجرد معركة، إنها مفترق طرق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.