رمضان المغتربين.. كيف يعيشه الأطفال؟

قبل رمضان بأيام بدأت ابنتي الصغرى أسئلتها عن فكرة الصيام وجدواه وتأثيره (غيتي)

زينة تملأ الشوارع وأهازيج تصدح حتى قبل استطلاع الهلال، وأطفال يطوفون الشوارع يحملون فوانيسهم وألعابهم.. هكذا نستقبل رمضان في بلداننا يأتي بكل تفاصيله البسيطة والعميقة، فينغمس الصغار في حكايات الشهر ورمزيته.

ولكن ربما يحتاج الذين يعيشون رمضان في بلاد غير أوطانهم أن يستحضروه بأنفسهم لأبنائهم، فليست هناك عائلة تدعم ولا جدة تعد الأطباق وتروي حكاياتها فيما يتحلق أحفادها حولها قبل الأذان، ولا وجود لجد يصحبهم معه إلى المسجد للصلوات الخمس. وأكثر ما يفتقده المغتربون ذلك الإفطار العائلي الكبير الذي يضم كل أفراد الأسرة الممتدة أول يوم، ورغم ذلك فرمضان فرصة لغرس مفاهيم الشهر الكريم في نفوس أبنائنا الذين ربما يعايشونه في غربة مكانية وروحية.

البحث عن إجابات

قبل رمضان بأيام بدأت ابنتي الصغرى أسئلتها عن فكرة الصيام وجدواها وتأثيرها، بشغف كانت تنتظر إجابة عن تلك الأمور العالقة في ذهنها لماذا نصوم شهرا واحدا فقط؟ وكيف نمتنع عن الطعام طوال تلك المدة من دون تعب؟ وما جدوى الصيام؟ كيف يكون جيدًا لله أن نترك الأكل والشرب لساعات محددة؟ تحدثنا طويلا، بحثنا وتبادلنا الحكايات والشروح وحاولت الإجابة عن أسئلتها، كما شاهدنا مقاطع مصورة عن الصيام وكيفيته، وفوائده الصحية.

بعد أيام بدأنا تزيين البيت بالهلال والأضواء، وكانت فقرة مهمة ومؤثرة كثيرا في إحساسنا بالاستعداد للشهر الكريم، ومع أول أيامه قررت صغيرتي إتمام صومها فشجعتها على ذلك، وحددنا محاذير معينة لو شعرت بشدة العطش أو الجوع أن تخبرني وتفطر، خاصة مع قدوم رمضان هذا العام وسط الدراسة.

أنهت طفلتي يومها الأول بسلام، وقبيل الأذان حضر أصدقاؤنا لمشاركتنا أول إفطار، جلسنا نتذكر أول أيامنا في الصوم صغارا، ضحكنا وصلينا المغرب وقرب أذان العشاء اخترنا مسجدًا قريبا للتراويح. عوضنا العائلة بأصدقاء يشاركوننا المشاعر نفسها ويحتاج أبناؤهم لمشاعر العائلة البعيدة أيضا.

في اليوم التالي تبادلنا الأطباق الشهية مع الجيران من ثقافات مختلفة، فكانت فرصة للتعرف على عادات رمضان في الهند، وباكستان، وسوريا، والعراق. وهي ميزة ربما لا نحققها في بلادنا، فللغربة ميزات أيضا.

انتصارات صغيرة

بعد أيام شاركت ابنتي ذات العشرة أعوام في مسرحية مدرسية عن الصوم، كانت حريصة على فهم كل جملة كتبتها مدرستها في دورها، وكان من ضمنها أهمية الصلاة على وقتها. بعد أيام قررت أن تطلب من مدرستها تخصيص مكان لصلاة الظهر في المدرسة التي لا يوجد بها مسجد للطلاب؛ في اليوم التالي عادت فرحة وهي تحكي كيف أنها انتصرت محققة هدفها في الحصول على ما ناضلت من أجله لتقام أول صلاة ظهر لجميع صفوف الابتدائية في اليوم التالي..

كانت سعيدة ووقفت يومها وقالت بجدية: "ماما، أشعر أن إيماني عال وصادق جدًا اليوم".. بهرتني تلك الطريقة العميقة التي اختارت بها كلماتها، ونحن الغارقون في الكلمات الرنانة ربما نعجز عن التعبير هكذا عن لحظات تجمعنا بقوة الإيمان عندما نشعر بها تجتاحنا..

في اليوم ذاته، قررت أن تعد جدولا تدون فيه التزاماتها الجديدة كأن تحافظ على قراءة القرآن بشكل يومي وصلاة الفجر والتراويح وإضافة عدد من الركعات إلى صلواتها المفروضة..

في أول صلاة تراويح، لفتتني فتاة في الخامسة عشرة من عمرها بدت متحمسة للغاية، دخلت المسجد مع أمها وجلبت لباس صلاتها معها، ظلت تركض حتى وقفت في الصف الأول، وحملت مصحفها في يدها بلونه الوردي ممهورا باسمها على غلافه.

مع بدء الصلاة كانت السكينة بادية على ملامحها، وعندما بدأ الإمام الدعاء ظلت تجهش بالبكاء.. عند الانتهاء التفتت لأمها وقالت "رمضان جميل يا ماما فرصة للصلاة والدعاء، أشعر أنني في مكة ".. ابتسمت من فهمها الجميل لرمضان وتأثيره، نزعت لباس صلاتها وخرجت سعيدة..

ولو بابتسامة..!

على أعتاب متجر للتسوق شاهدت طفلة صغيرة تحمل في يديها هدايا مغلفة بعناية توزعها على العمال، توقفت قليلا لأفهم ما تقوم به، كانت تنتظر مرورهم أثناء مساعدتهم المتسوقين في حمل أغراضهم بعد الشراء وتعطي كل واحد منهم هدية، أعجبتني فكرتها، ولاحظت وجود أبيها في سيارته، يراقبها من بعيد هي وأخاها الأكبر، الذي سبقها للداخل ليوزع أظرفا بيضاء صغيرة على العاملين وزهرة وردية تزينه.

"ربما نسرف قليلا في رمضان، نعد موائد عامرة وأطعمة متنوعة، وقد يفيض منا الطعام في أيام عدة، لذا ففي كل يوم، أعد 5 أطباق قبل الإفطار وأطلب من ابني توصليها لعمال الأمن والمؤذن في المجمع السكني الذي نقطنه" هكذا قالت زميلتي في العمل عندما سألتها عن كيفية زرع مفهوم الصدقة في أطفالنا.

على بعد محيطات وأسفار، أرسلت صديقتي التي تعيش في أستراليا كتيبا صغيرا، أعدته لأطفالها عن رمضان، يحتوي على جدول يومي بالصلاة وقراءة القرآن والصوم، ثم زادت عليها الصدقة كفعل يومي وأرفقت معه أوراقا للتلوين. طلبت مني توزيعه على من أعرفهم ممن لديهم أطفال في عمر أبنائها، أعجبتني فكرتها البسيطة.

صديقة أخرى حكت أن ابنها تأثر بخطبة الجمعة الأولى من رمضان، فقرر أن يخصص جزءا من مصروفه كصدقة يومية يعطيها لمن يستطيع، ولم يقتصر على المال فقط بل فكر في التصدق بوقته وجهده كمساعدة زميل دراسة أو مشاركة في عمل خيري، وحينما لا يجد شيئا ستكون الابتسامة في وجه مسلم صدقته لذلك اليوم.. ليكون هدفه عمل واحد على الأقل مع كل شمس تطلع".

"أنباء ما قد سبق"

بعد قراءة سورة الكهف يوم الجمعة الأولى من رمضان، حكت أم 4 أبناء كيف بدأ ابنها حوارا حول الآية الأخيرة من السورة الكريمة "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا" فقال: إذن إذا كنت مؤمنا بالله وأعمل الصالحات فأنا متأكد من لقاء الله سبحانه وتعالى في الآخرة.. يعني حتما سأدخل الجنة فلن نحظى بتلك المنحة إلا هناك. صحيح؟" توقفت هي قليلا قبل أن تجيبه، وفكرت في المعنى فوجدته واضحا، إلا أنها فكرت في طريقة لإشراكه في معرفة المعاني، فطلبت منه أن يطرح السؤال ويبحث عن تفسير الآيات ويتعرف أكثر على أشكال العمل الصالح المقصودة هنا.

فعل ابنها ما قالته وطال الحديث وتشعب إلى كثير من الموضوعات والأفكار التي وردت في السورة الكريمة.. أنهوا جلستهم وهي تتأمل ما حدث، فهي لم تعرف من قبل أن ابنها المتمرد فكر من قبل في جلال لقاء الله، وأنه بحث عن مكان وجود يأجوج ومأجوج.. أو تساءل كيف عرف الخضر كل تلك الأشياء التي أخبرها لسيدنا موسى عليه السلام..!

لم تكن تهتم من قبل بقراءة سورة الكهف مع أبنائها، وربما تضيع كثيرا من أيام الجمع من دون قراءتها لانشغالها.. ومنذ ذلك اليوم قررت أن تحيي تلك السنة التي كانت مفتاحا للحوار في أمور مهمة.

ربما يعد رمضان فرصة لمراجعة كثير من الحكايات التي فاتنا أن نشاطرها أبناءنا ومنحة لتدبر القرآن، وخطوة على طريق الحفاظ على الصلاة، ومساحة حرة للتعرف أكثر على قصص الأولين، 30 يوما من النوافذ المفتوحة على التدبر والفهم والتأمل، وقبل كل ذلك نحتاج أن نكون قدوة، لا مجرد أبواق لكلمات حفظناها ورددناها ونسينا أن نطبقها في حياتنا اليومية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.