في ظلال القرآن (5) | أثر سيد قطب في جماعات العنف

سيد قطب
الكاتب والداعية مؤلف كتب الظلال سيد قطب (الجزيرة)

وعدتُ في مقال سابق أن أفرد مقالاً لبيان الأثر الذي تركه كتاب "في ظلال القرآن" في جماعات العنف، وكيف أن منظريها بنوا على التطورات الأخيرة لسيد قطب التي ضمّنها النسخة الثانية من الظلال؛ حتى اعتبرها صالح سرية (صاحب أول تطبيق فعلي للعنف في مصر عام 1974) مرجعًا لمعرفة "التفسير الحق" للقرآن. وكنت قد خلصت سابقًا إلى أن زيادات النسخة الثانية من الظلال اشتملت على أفكار رئيسة هي:

  • الخروج على الأنظمة (الإسلام ثورة وانقلاب).
  • تكفير المجتمعات المسلمة (التوحيد حاكمية سياسية وقانونية).
  • وأن النظام الإسلامي الشامل لا يقبل التبعيض (نظام مطلق)، ولا يتحرك إلا في محيط هو الذي يصنعه (الطهورية والعزلة الشعورية).

شكّلت هذه الأفكار المنهج الحركي القائم على الثورية والإطلاقية والطهورية، ثم جاءت جماعات العنف فبنت على هذا وأوجدت الوسائل لتنفيذه، فنقلته من "فقه الأوراق" إلى "فقه الحركة" بلغة سيد قطب، وهو ما سأوضحه هنا من خلال محورين: التطابق في أجزاء من المنهج والتطابق في البنية الفكرية.

على مستوى المفاهيم، ألح منظرو العنف على إعادة بناء مفاهيم الإيمان والتوحيد والكفر والجهاد وغيرها؛ لأنها تحرفت في رأيهم في ظل الدولة القومية، ومن ثم أصبحت دعوة المسلمين إلى شهادة التوحيد من جديد واجبًا مركزيًّا كما هو الحال مع سيد قطب

أولاً: التطابق في المنهج

شكلت العلاقة مع النص من جهة، والموقف من التقليد العلمي التاريخي من جهة أخرى، مسألة مركزية في منهج جماعات العنف، كما أوضحتُ في كتابي "العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة". ويمكن أن نرصد هنا 3 مظاهر لأثر سيد قطب على جماعات العنف سواء لجهة التعامل مع النص أم لجهة الموقف من التقليد العلمي، وهي:

  • المظهر الأول: العودة المباشرة إلى النص، وهي عودة ذات طبيعة "تأملية" (أي غير علمية). فالنص -وفق هذه الرؤية- شديد الوضوح ولا يحتمل أي أَشكلة أو تعددية في المعنى. ووضوح دلالة النص يغني عن الحاجة إلى التعلم أو التقليد العلمي. فأبو عبد الله المهاجر (صاحب كتاب "فقه الدماء") ردد -في عدد من القضايا- القول: إن هذه المسألة "حسمتها النصوص الشرعية في أعين النابهين"، وهؤلاء النابهون هم الجهاديون الذي يتحركون بالنص وفق المنهج القطبي كما سنرى بعد قليل. وأبو البراء الهندي (أحد أفراد تنظيم الدولة الإسلامية) يقول بوضوح: "افتحوا المصحف واقرؤوا آيات الجهاد، وكل شيء سيتضح (…). كل العلماء يقولون لي: هذا فرض وذاك ليس فرضًا، وهذا ليس وقت الجهاد (…). اتركوا الجميع واقرؤوا القرآن تعرفوا الجهاد". وسبق للجماعة الإسلامية في مصر أن اعتقدت أن القرآن لا يحتاج إلى تفسير، الأمر الذي دفع الشيخ جاد الحق علي جاد الحق إلى الرد بشدة على استخفاف محمد عبد السلام فرج (صاحب "الفريضة الغائبة" الكتاب التأسيسي للجهاديين) بالعلم والعلماء. والأمر نفسه دفع جماعة من العلماء -فيما بعد- إلى كتابة ما أسموه "رسالة مفتوحة" فندوا فيها أفكار تنظيم الدولة الإسلامية وتحدثوا عما أسموه "الاستسهال" في الفتوى لدى تنظيم الدولة.
  • المظهر الثاني: الحركة بالنص لمواجهة الجاهلية وتغيير العالم (وهو ما أسميته المنهج الحركي). فأبو بكر ناجي (صاحب كتاب "إدارة التوحش") استعار من الظلال فكرتين: الأولى: أن الحركة بالنص تكشف عن حقيقة معنى النص، وأن الإسلام لا يتحرك إلا في محيط هو الذي يصنعه. وقد عزا لسيد نصًّا نقله -بالمعنى- عن الظلال، وهو أن "هذا القرآن لا يكشف أسراره إلا للذين يخوضون به المعارك، والذين يعيشون في الجو الذي تَنَزل فيه أول مرة". والثانية: أن هؤلاء المجاهدين يريدون أن يصنعوا المحيط الملائم لتطبيق أوامر الله. وسبق لسيد أن قال في الظلال: "إن الحركة هي قوام هذا الدين، ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به ويجاهدون لتقريره في واقع الناس وتغليبه على الجاهلية بالحركة العملية".
  • المظهر الثالث: أولوية الجهاد على العلم، وهذا ما فهمه الجهاديون من نصوص سيد قطب المتكررة التي يقارن فيها بين "فقه الأوراق" و"فقه الحركة"، فيقلل من شأن الأول ويرفع -باستمرار- من شأن الثاني. ولذلك وجدنا عبد السلام فرج يقلل من شأن العلم؛ بحجة أن الفرائض الشرعية مقدمة على العلم؛ فالجهاد فرض عين بينما العلم فرض كفاية. بل إن صورة العلم تختلف لدى الجهاديين؛ لجهة تَصَورهم ذلك التلازمَ البسيط بين العلم والعمل الذي يتمحور حول الجهاد. يقول فرج: إن "حدود العلم أن من عَلِم فرضية الصلاة فعليه أن يصلي"، أي حدود العلم ووظيفته سهلة للغاية، فمن علم فرضية الجهاد يجب عليه أن يجاهد.

ثانيًا: تطابق البنية الفكرية

وكما سبق، تقوم البنية الفكرية لسيد قطب على أن الحاكمية هي أساس توحيد الله ومفتاح لفهم النص. وقد قاده هذا المفهوم الجديد للتوحيد إلى القول إن تحكيم القوانين الوضعية يُخرج من الإسلام ويُدخل في الجاهلية التي باتت مفتاح فهم الواقع القائم وتحولاته، ومستند قياسه على الجاهلية الأولى وسريان أحكامها على الحاضر. وهنا يشكل المنهج الحركي (وجوهره الجهاد) حلا لهذا المأزق؛ لإزاحة "الجاهلية المعاصرة" من جهة، واستعادة التوحيد المؤسَّس على الحاكمية (وبناء المجتمع المسلم من جديد) من جهة أخرى. والمتتبع لكتابات منظري جماعات العنف سيجد تطابقًا في البنية الفكرية الرئيسة، وهو ما سأوضحه هنا من خلال مسألتين: تتبع توحيد الحاكمية، ورؤية العالم في كتابات جماعات العنف.

المسألة الأولى: الحاكمية والتوحيد

أوضحت فيما سبق، أن مفهوم الحاكمية مفهوم مركزي لدى سيد قطب، وكيف أنه حدد -على أساسه- معنى "لا إله إلا الله" وجعله معيار الإيمان والكفر. وسنجد الأمر نفسه لدى جماعات العنف، ويمكن أن نشير هنا إلى فكرتين مركزيتين تتصلان بمفهوم الحاكمية، وهما: إعادة تعريفهم للمفاهيم من منظور قطبي، ومركزية الحكم السياسي والقانوني في صياغة تلك المفاهيم وتطبيقاتها.

فعلى مستوى المفاهيم، ألح منظرو العنف على إعادة بناء مفاهيم الإيمان والتوحيد والكفر والجهاد وغيرها؛ لأنها قد تحرفت في رأيهم في ظل الدولة القومية، ومن ثم أصبحت دعوة المسلمين إلى شهادة التوحيد من جديد واجبًا مركزيًّا كما هو الحال مع سيد. يقول أبو بصير الطرطوسي: "لم تتعرض كلمة -عبر التاريخ وإلى يومنا هذا- إلى التشويه والتحريف والتأويل الفاسد كما تعرضت له كلمة التوحيد"؛ فقد "أفرغوها من حقيقتها ومعناها، ومن الغاية التي أُنزلت لأجلها، وصوروها للناس على أنها مجرد أحرف باردة يُتَبرك بها عند الذكر أو التلاوة؛ لا مساس لها بواقعهم وحياتهم وأعمالهم وسلوكياتهم وعلاقة بعضهم ببعض!"، وروح قطب في هذا النص غير خافية. ويتردد الحديث عن "فتنة المصطلحات" في كتابات منظّري العنف عامة، كأبي قتادة وأبي بكر ناجي وغيرهما، وهي مسألة جوهرية في إعادة اكتشافهم للإسلام وخروجهم على التقليد العلمي.

أما على مستوى مركزية الحكم السياسي والقانوني وأثرها في تحديد مفاهيم عقدية كالتوحيد والردة والجاهلية، فنجد أن صالح سرّية حريص على تشخيص ما سماه "الكفر المعاصر" الذي وقع فيه المسلمون، وهو الحاكمية لغير الله، ومن ثم تَلَبّسوا في الردة الجماعية، وأضحت المجتمعات الإسلامية "مجتمعات جاهلية".

ويتكرر المعنى نفسه عند عبد السلام فرج ومَن بعده وصولاً إلى تنظيم القاعدة ثم تنظيم الدولة. فأيمن الظواهري يرى أن "معركة الحق والباطل الدائرة عبر الزمان ما دارت ولا تدور إلا حول هذا الركن الركين من عقيدة الإسلام: لمن حق الحكم والتشريع؟"، بل إن الحكم "ركن ركين من أركان التوحيد"، ولذلك قال في إحدى خطبه عن مصر بتاريخ (12-10-2013): "إن ما يحصل في مصر هو ضد كل ما هو إسلامي وليس مصالح أو سياسة أو منافع. [هو] ضد الإسلام، ضد الشريعة، ضد الإقرار بحق المولى في التشريع".

أما سيد إمام (أحد منظري العنف) فيرى أن "مسائل التشريع والحكم والتحاكم ليست من مسائل الأحكام الفرعية في الدين، وإنما هي داخلة في أصل الإيمان وصلب التوحيد". وكان أبو عبد الله المهاجر قد افتتح كتاب "فقه الدماء" بالآيات التي تتحدث عن قصة سيدنا إبراهيم التي تصف حالة الشرك وتحطيم التماثيل المعبودة من دون الله (سورة الأنبياء: 51-70). وكل من قرأ النسخة الثانية من الظلال وجد فيها هذه المعاني، ولكن جماعات العنف أدخلت عليها تعديلات وزيادات تتضح من خلال 3 أصول نجدها سارية في كتابات منظريها، وهي كالآتي:

الأصل الأول: التكفير

سبق أن سيد قطب أسس لفكرة الخروج على الأنظمة حيث الإسلام لديه (كما لدى المودودي) هو ثورة وانقلاب، كما أسس لتكفير الأنظمة والحكم بالشرك على من يتحاكمون إلى القوانين الوضعية. وقد ذكر أبو مصعب السوري قصصًا مهمة عن صلة كتاب "معالم في الطريق" بمسألة تكفير الحكام، ولا تخفى الصلة بين الظلال والمعالم. وسبق أن نقلت كلام سيد قطب في الظلال الذي جاء فيه: "مَن أطاع بشرًا في شريعة من عند نفسه ولو في جزئية صغيرة، فإنما هو مشرك. وإن كان في الأصل مسلمًا ثم فعلها فإنما خرج بها من الإسلام إلى الشرك أيضًا؛ مهما بقي بعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه (…)، وحين ننظر إلى وجه الأرض اليوم في ضوء هذه التقريرات الحاسمة، فإننا نرى الجاهلية والشرك -ولا شيء غير الجاهلية والشرك- إلا من عصم الله فأنكر على الأرباب الأرضية ما تدّعيه من خصائص الألوهية ولم يَقبل منها شرعًا ولا حكمًا إلا في حدود الإكراه". ورغم أن سيد قطب قرر أصول التكفير وحكم به جملةً، فإن ذلك لم يكن مسألة مركزية ضمن مشروعه.

بدا سيد قطب -في بعض المواضع- متساهلاً في الظلال؛ من حيث إنه كتب تفسيرًا معاصرًا (أو شبه تفسير) يخاطب فيه القارئ العام، إذ تورط في إطلاق أحكام عامة لا تراعي استيعاب المتلقي الحديث وكيفية تفاعله معها في سياق الدولة القومية

أما منظّرو العنف فقد ألحوا على أن التكفير حكمٌ شرعيٌّ لا بد من القيام به، كما نجد في كتابات تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية ومن سبقهما. وقد يختلف هؤلاء حول التوسع في التكفير لا في أصل تنزيله على الواقع المعاصر؛ فقد عاب بعض منظري العنف على تنظيم الدولة توسعه في التكفير، واختلف معتقَد تنظيم الدولة عن معتقد تنظيم القاعدة في تكفير أهل ديار الإسلام التي تحولت إلى دار كفر، ولكنهم جميعًا يتفقون على أصل عام هو تكفير مَن لم يحكم بما أنزل الله؛ لأنه أخل بتوحيد الحاكمية، ويتفقون أيضًا على تكفير كل من لم يكفّر هؤلاء جميعًا؛ لأن تكفيرهم من مستلزمات التوحيد الحق.

وقد ذكر تنظيم القاعدة في عقيدته ضمن نواقض شهادة التوحيد ما نصه: "مَن لم يكفّر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم: كفَر إجماعًا"، وكذلك "مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين". ومن المهم أن نتذكر أن "المشركين" هنا تشمل -لدى هؤلاء- الأنظمة الحاكمة وكل من تحاكم إلى قوانينها، وهو الحكم الذي سبق إليه سيد قطب، ونجد الأمر نفسه في بعض كتابات تنظيم الدولة. وإذا أردنا تأريخ هذه الفكرة فهي مستفادة من أئمة الدعوة النجدية الذين نقل عنهم شارح متن عقيدة تنظيم الدولة، وأبو عبد الله المهاجر وأبو بكر ناجي وغيرهم.

نقل أبو عبد الله المهاجر -مثلاً- عن "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" أن "المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلام أو اعتقاد أو فعل أو شكٍّ، وهو قبل ذلك يتلفظ بالشهادتين ويصلي ويصوم؛ فإذا أتى بشيء مما ذكروه صار مرتدًّا مع كونه يتكلم بالشهادتين ويصلي ويصوم، ولا يمنعه تَكَلّمه بالشهادتين وصلاته وصومه عن الحكم عليه بالردة". وهذا الحكم المجرد إنما يطرأ عليه الإشكال من جهة تنزيله على واقعنا اليوم؛ فلا بد من تحديد هذا الكلام أو الاعتقاد أو الفعل الذي يُخرج من الملة ويستوجب الحكم بالردة (أي نواقض الإيمان)، وهنا سنجد أن الصياغة الجديدة لمفهوم التوحيد لدى قطب وجماعات العنف ستُدخل جمهور المسلمين في الردة.

ومن هنا توسع سيد إمام وأبو مصعب السوري في التكفير فحكما على البلاد المحكومة بالقوانين الوضعية بأن حكامها كفار وقضاتها ومن يتحاكمون إليها ومن يعملون فيها ومن يدافعون عنها (كالجنود والأمن وغيرهم) كفار، وهو ما مشى عليه لاحقًا تنظيم الدولة حين كفّر العدناني كل الجيوش العربية ودعا إلى مقاتلتها، فقال في تسجيل بتاريخ (31-8-2013): إن "جيوش الطواغيت من حكام ديار المسلمين -بعمومها- جيوش ردة وكفر"، وقال سيد إمام: "من صلى وصام لله وأعطى حق التشريع أو الحكم لغيره أو تحاكم لغير شريعته، فقد عَبَد الله وعَبَد غيره، وهو بهذا مُشرك كافر ليس بمسلم، وهذا هو الشأن في المجتمعات الجاهلية المعاصرة"، ومن اللافت أن سيد إمام ينقل هنا وفي مواضع أخرى عن قطب في الظلال.

اتفقت -إذن- كتابات منظري العنف على تكفير الأنظمة الحاكمة، بدءًا من صالح سرية إلى أبي عبد الله المهاجر؛ مرورًا بعبد السلام فرَج وأبي مصعب السوري وسيد إمام وغيرهم. بل إن العدناني ألح على هذا المعنى في إحدى خطبه (31-8-2013) حين قال: "الأنظمة كلها كافرة؛ لأنها تحكم بالقوانين الوضعية، ولا فرق بين مبارك ومرسي والغنوشي (…). كلهم طواغيت يحكمون بنفس القوانين، والأخيرون أشد فتنة على المسلمين"؛ لأن ردة الحكام تستلزم سقوط إمامتهم فتصبح هي والعدم سواءً. وقد جاء تأكيد هذا المعنى في متن عقيدة القاعدة التي تقول: "إذا طرأ الكفر على الإمام خرَج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونَصْب إمام عادل إن أمكنهم ذلك"، وهذه هي النقلة العملية التي ميزت فكر سيد قطب عن فكر جماعات العنف، وهو الانتقال من التنظير إلى التطبيق من خلال المنهج الحركي.

الأصل الثاني: وجوب القتل

بدا سيد قطب -في بعض المواضع- متساهلاً في الظلال؛ من حيث إنه كتب تفسيرًا معاصرًا (أو شبه تفسير) يخاطب فيه القارئ العام، إذ تورط في إطلاق أحكام عامة لا تراعي استيعاب المتلقي الحديث وكيفية تفاعله معها في سياق الدولة القومية. ففي موضع نقل قطب عن أبي الأعلى المودودي قوله: "إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة -ولو قيد شعرة- وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض". فمثل هذا النص مفتوح على احتمالات عدة، خاصة فيما يتصل بإقامة نظام الحق، والخروج عن الجماعة والقتل، بعد كل ما سبق من أفكار الحاكمية والجاهلية والتكفير، لنكتشف أن الجماعة التي تجرّم الخروج عليها هي الطليعة المؤمنة عند سيد قطب ثم التنظيمات الجهادية نفسها لا غير.

لم يفصّل سيد قطب في ثمرة الحكم بالكفر والشرك، ولكن منظري العنف فعلوا؛ فهذا أبو عبد الله المهاجر يزعم أن الفقهاء "نقلوا الاتفاق على وجوب -لا إباحة!- قصد الكفار بالقتل والقتال في ديارهم؛ وإن لم يتعرضوا بأي أذى للمسلمين" (إشارة التعجب هنا من المصدر). ويكرر هذا المعنى فيقول: "وقد نص الفقهاء والأئمة على إباحة دم ومال الكفار إباحةً مطلقة ما لم يُؤمّنه المسلمون"، ويؤكد أبو بكر ناجي هذا المعنى فيقرر أن الشدة مطلوبة في مواجهة أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم. ويقول: "لا مانع لدينا من إراقة دمائهم بل نرى ذلك من أوجب الواجبات". وغنيّ عن البيان أن مجال تطبيق هذه الأحكام صار واسعًا جدًّا بعد توسيع قاعدة مَن تم تكفيرهم؛ بناء على المفهوم الجديد للتوحيد، وقد ناقشت بطلان هذه الادعاءات وفساد هذا الفكر في كتابي "العنف المستباح".

الأصل الثالث: أولوية قتال المرتدين على الكفار الأصليين

يرجع هذا الأصل إلى "توحيد الحاكمية" أيضًا، فمفهوم التوحيد الجديد يبلغ مداه حين يقرر قطب أن "الإسلام يتسامح مع مخالفيه جهارًا نهارًا في العقيدة، ولكنه لا يتسامح هذا التسامح مع من يقولون الإسلام كلمةً باللسان تكذّبها الأفعال، لا يتسامح مع من يقولون: إنهم يوحدون الله ويشهدون أن لا إله إلا الله ثم يعترفون لغير الله بخاصية من خصائص الألوهية، كالحاكمية والتشريع للناس". وقد ألهم هذا المعنى منظري العنف فيما بعد حيث ركزت كتاباتهم على أولوية قتال المرتدين (وأولهم الحكام بغير ما أنزل الله). نجد هذا في عقيدة تنظيم القاعدة وأعمال كل من سيد إمام وأبي عبد الله المهاجر وأبي مصعب السوري. يقرر أبو مصعب -كغيره- أن تكفير الحكام وأعوانهم والعاملين معهم هو "من قواعد الحاكمية لله والولاء والبراء في ذات الله، وليست مسائل فرعية"، فقد حولت جماعات العنف هذا الأصل إلى منهاج حركة، واجتهدت في تطبيقه.

خلاصة المسألة الأولى -إذن- أن المشروع الحركيّ الذي أرسى دعائمه سيد قطب وتبعته جماعات العنف، قائمٌ على تصور غياب الشريعة مع غياب الخلافة، أي أن مسألة الحكم مسألة من صميم الإيمان والتوحيد وطاعة الله ورسوله. فإذا اختل نظام الحكم اختلت الشريعة واندثرت؛ إذ لا يمكن تطبيقها من دون دولة. فالدولة لازمة لإقامة الدين، والإيمان الواجب بالله لا يتحقق إلا بإقامة الحاكمية، والحاكمية -التي هي ركنٌ ركينٌ من توحيد الألوهية- لا تتحقق إلا بحكم الشريعة، وحكم الشريعة لا يتحقق إلا بإقامة الخلافة التي تشكل الدولة الإسلامية وسيلةً إليها (كما هو تصور تنظيم القاعدة وغيره) أو تتطابق معها (كما هو تصور تنظيم الدولة).

المسألة الثانية: رؤية العالم

سبق أن أوضحت كيف أن رؤية العالم لدى سيد قطب مؤسَّسة أيضًا على مفهومه للحاكمية؛ فقد مال إلى الرأي القائل إن العالم إما دار إسلام أو دار حرب، ومعيار دار الكفر أو الحرب (لا يميز بينهما) هو الحاكمية، وبناء على هذا المعيار غابت دار الإسلام عن حاضرنا؛ لأن المجتمع جاهلي لا يُحكم بالشريعة. وقد شكّلت قسمةُ الدُّوْر مسألة مركزية في تفكير جماعات العنف ومنظّريها حتى تحولت إلى "معلوم من الدين بالضرورة"، و"من بدائه الإسلام" كما قرر المهاجر وغيره، بل إن تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين وضع ذلك في متن عقيدته، أي أن المسألة تحولت من فروع الفقه التاريخية إلى أصول الاعتقاد، وهو ما يعكس الحاجة الضرورية إلى تلك القسمة الثنائية في التصور الجهادي عامة، وإلا انهار التصور والمنظومة المتصلة به، وهي قسمةٌ حضرت في خطاب بن لادن الشهير عن الفسطاطين، ثم حضرت في خطاب البغدادي بعد إعلان خلافته (1-7-2014).

وأثر أفكار سيد قطب واضح هنا من حيث اعتماد نوع الأحكام القانونية الجارية في الدار معيارًا للحكم عليها؛ بغض النظر عن سكانها، ومن هنا أجمع منظرو العنف على تكفير الحكام وتَحَوُّل الدول الإسلامية إلى دار كفر؛ لأنها تحكم بشرائع الكفر لا بما أنزل الله، فديار الإسلام لم تَعد موجودة اليوم كما قرر سيد قطب من قبل، وكما قرر من بعده منظرو العنف من صالح سرية وفرج إلى المهاجر؛ مرورًا بسيد إمام وأبي مصعب وغيرهما. فهم يرون -كسيد قطب- أن كل دار كفر هي دار حرب، الأمر الذي يُفسر حاجتهم إلى الحرب وتَمَركزهم حولها في رؤيتهم للعالم والواقع. ودار الحرب هي -بالضرورة- دار إباحة لا تَثبت لها عصمة ولا حُرمة وتجب الهجرة منها. ولما كانت الهجرة واجبة، وجبَ إيجاد دار الإسلام حتى يتسنى لهؤلاء الهجرة إليها، ومن هنا أمكن لتنظيم الدولة جذب المهاجرين؛ لأنه حوّل دار الإسلام إلى حقيقة واقعية لم تكن متاحة من قبل مع اتفاق جماعات العنف على القول بوجوب الهجرة من دار الكفر.

تركت -إذن- الأفكار الجديدة لسيد قطب أثرها على فكر جماعات العنف، ومن اللافت وجود اتفاق بين سيد قطب وجماعات العنف من جهة، وأفكار أئمة الدعوة النجدية من جهة أخرى، فيما يخص مسائل التوحيد والشرك وتكفير من يحكم بالقوانين. ولكن الحكم على الناس ومقتضيات ذلك لم تكن مسألة مركزية عند قطب، في حين أن التكفير والقتل لأجل الشرك هو مسألة مركزية لدى جماعات العنف.

وغالب الظن أن سيد قطب اطلع على كتب أئمة الدعوة النجدية التي نشرت في مصر من قبل جهات عدة في النصف الأول من القرن العشرين، منها: المطبعة السلفية، ومطبعة المنار، ودار المعارف، والعامرة الشرفية، والمطبعة الرحمانية، وإدارة الطباعة المنيرية، كما ظهر من تتبعي للطبعات القديمة لتلك الكتب. بل إن رشيد رضا كان قد اعتنى بكتب محمد بن عبد الوهاب في مرحلته الأخيرة وكتب دفاعا عنه، كما كتب كتاب "الوهابيون والحجاز"، والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.