أوروبا وبوادر تجاوز أزمة الغاز الروسي

جاء الاتفاق في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي على وضع سقف سعري للغاز الطبيعي الروسي ضمن حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية (شترستوك)

روسيا مصدر الغاز الرئيسي

منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، واصطفاف المجتمع الدولي ودول أوروبا على وجه الخصوص مع الجانب الأوكراني، ظهرت أزمة كبيرة لدى معظم الدول التي تعتمد على روسيا في تلبية احتياجاتها من الطاقة، وذلك لأن الغاز الروسي هو المصدر شبه الرئيسي لتوليد الكهرباء واحتياجات الطاقة لدى تلك الدول.

تعتمد دول أوروبا على الغاز الروسي بنسب متفاوتة، حيث تعتمد ألمانيا على روسيا للحصول على 55% من حاجتها من الغاز الطبيعي، بينما تعتمد إيطاليا على الغاز الروسي بنسبة 40%، تغطي فرنسا نحو 25% من احتياجاتها من خلال الغاز الروسي.

أدركت أوروبا أن تعديل السلوك الاستهلاكي قد يكون حلا سريعا للتعامل مع الأزمة بشكل مؤقت، إلا أنه على المدى الطويل السياسة الأنجح أمام الدول الأوروبية هي سرعة توفير مصادر بديلة للغاز الروسي، وذلك ما عملت على فعله

وتسببت الحرب الروسية في خفض الإمدادات من النفط والغاز للقارة العجوز ردا على العقوبات الاقتصادية التي سعت الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لفرضها على روسيا، فضلا عن أعمال التخريب التي طالت خطي توريد الغاز الروسي نورث ستريم، ذلك الخفض الذي تسبب بدوره في زيادة أسعار الطاقة بنسبة 7% في نفقات المعيشة للأسر الأوروبية في عام 2022، مع توقعات بوصولها إلى 9% في عام 2023 مقارنة بعام 2021، وفقا لتقرير نشره صندوق النقد الدولي حول التوقعات بشأن الوضع الاقتصادي في أوروبا، كما ذكر التقرير أن أكثر الدول التي ستتضرر في أوروبا هي المجر والتشيك وسلوفاكيا، في حين ستتمكن دول مثل ألمانيا وإيطاليا التعامل مع الأزمة من خلال سياسات التدخل السريع.

السقف السعري وازدياد الأزمة

يدرك الأوروبيون خطورة الوضع الراهن ومدى تهديد هذا الملف للأمن القومي الأوروبي، لأن إمدادات الطاقة هي عمود اقتصادات تلك الدول، وكان الخلاف الأوروبي، بحسب وال ستريت جورنال، هو ضرورة وضع آلية تدخل طارئة لوضع حد لارتفاع الأسعار من عدمه، وإذا تم الإجماع على الاقتراح البلجيكي بفرض سقف سعري على الغاز والنفط الروسيين فقد يؤدي هذا لتوقف الإمدادات الروسية أو توجه روسيا للبيع خارج الدول التي تم فيها فرض سقف الأسعار، وهذا تحديدا ما تخشاه ألمانيا المعارض الأكبر لمثل هذا التدخل.

ثم جاء الاتفاق في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي على وضع سقف سعري للغاز الطبيعي الروسي ضمن حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية تدخل حيز التنفيذ في فبراير/شباط القادم عند 180 يورو لكل ميغا وات/ساعة، الأمر الذي قابلته موسكو بخفض أكثر من توريداتها من النفط والغاز إلى أوروبا، لتصبح الأزمة الأوروبية أكثر تعقيدا.

شتاء معتدل وبوادر حلول

أدركت أوروبا أن تعديل السلوك الاستهلاكي قد يكون حلا سريعا للتعامل مع الأزمة بشكل مؤقت، إلا أنه على المدى الطويل السياسة الأنجح أمام أوروبا هي سرعة توفير مصادر بديلة للغاز الروسي، لذلك عملت أوروبا على سرعة توفير مصادر بديلة، وخفف بشدة من وطأة الأزمة أن فصل الشتاء هذا العام كان معتدلا وأكثر دفئا في المتوسط من الأعوام السابقة.

مثال ذلك ألمانيا التي لا تملك محطات على أرضها للغاز المسال وكانت تعتمد على التوريدات من خلال أنابيب الغاز عكس غيرها من الدول الأوروبية، وبخلاف التمديدات التي تصل من خط أنابيب الجنوب الذي يحمل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، اتجهت إلى بناء محطات استقبال الغاز المسال العائمة حيث افتتحت محطتين حتى يناير/كانون الثاني 2023، وعلى الرغم من ارتفاع التكلفة التشغيلية لمثل هذه المحطات التي قد تصل إلى 200 ألف يورو يوميا، فإنها تخطط لزيادة عدد محطاتها بأربع أخرى خلال العام الجاري، وذلك لاستقبال الغاز المسال من صفقات الشراء الفورية والطويلة الأجل التي أبرمتها، وأهمها تلك التي وقعتها مع دولة قطر لتزويد ألمانيا بالغاز المسال لمدة 15 عاما ابتداء من العام 2026 نقلا عن بلومبيرغ.

وعلى الرغم من ذلك في تقرير للوكالة الدولية للطاقة حلل بشكل مفصل أزمة الغاز في أوروبا وتوقعاتها لعام 2023، اعتبر أن الشتاء المعتدل حاليا قد لا يستمر، وأن الإجراءات التي تتخذها أوروبا لتأمين توريدات الغاز قد لا تفي بكامل الاحتياجات خلال هذا العام، فضلاً عن أن التكلفة التي رصدها الاتحاد الأوروبي للتعامل مع نقص الإمدادات والتي تبلغ 330 مليار يورو بحاجة على الأقل إلى 100 مليار يورو إضافية لتجاوز الأزمة.

 انخفاض أسعار الغاز الطبيعي وتوجه روسيا شرقا

لا تزال تعريفة الطاقة بالنسبة للمستهلكين في أوروبا مرتفعة كما هي ولم تتغير تحسبا لتقلبات السوق، إلا أن سعر الجملة للغاز الطبيعي في أوروبا انخفض إلى أدنى مستوى له منذ بداية الحرب في أوكرانيا، حيث بلغ سعر الغاز الآن قرابة 27 يورو للميغا وات/ساعة، بينما كان في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي يبلغ 130 يورو للميغا وات/ساعة، وكان في أعلى ارتفاع له في منتصف أغسطس/آب السابق بـ340 يورو للميغا وات/ساعة.

في المقابل، توجهت روسيا أيضا إلى زيادة توريداتها من الغاز الطبيعي إلى الصين والهند وجمهوريات آسيا الوسطى من خلال خط الأنابيب "باور أوف سيبيريا 1" الذي لا يعمل بطاقته القصوى حتى الآن، وهي تعمل على بناء خط جديد هو "باور أوف سيبيريا 2″، الذي يتوقع أن يدخل الخدمة في 2030 ويصل الصين عبر منغوليا. علما بأن الصين حتى العام الماضي كانت تستورد احتياجاتها من الغاز الطبيعي من أستراليا بشكل رئيسي وقطر ثانيا، وهو الشيء الذي سيتغير لصالح الغاز الروسي خلال الأعوام القادمة، في حين تحصل الهند على حوالي 50% من احتياجها من الغاز من الخارج وبشكل رئيسي من دول الخليج.

أسواق جديدة وفرص مثالية

إن دولا مثل قطر والجزائر ونيجيريا قد تشكل الحل السحري لهذه الأزمة في الأعوام القادمة. وعلى الرغم من أن قطر لديها الاحتياطات الكافية والقدرة على القيام بهذا الدور، فإنها ملتزمة بعقود توريد طويلة الأجل مع دول شرق آسيا، مما يحول دون قدرتها على التدخل السريع في السوق الأوروبي، الأمر الذي سيفتح المجال للقارة السمراء الغنية بموارد الطاقة للقيام بدور أكبر في الساحة الدولية.

لعل العائق الأكبر أمام المنتجين الأفارقة هو أنه رغم توفر الاحتياطات والموارد، فإن هذا القطاع يحتاج إلى استثمارات كبيرة في تطوير التقنيات واللوجيستيات وبناء خطوط النقل وآلياته ليصل الغاز الأفريقي إلى أوروبا، كما أن المنتجين الأفارقة ينقصهم الخبرة التفاوضية التي تتطلب منهم العمل بشكل منسق وليس عقد صفقات بشكل فردي، بحيث يتم توحيد المواقف بين منتجي الطاقة الأفارقة والعمل بشكل موحد من خلال اتفاقية إنتاج مشتركة وربط مشترك لتغطية النقص وتلبية احتياجات سوق الطاقة العالمية.

وعلى الرغم من وجود محادثات واتفاقات مبدئية في هذا الخصوص، فإنها لم تدخل حيز التنفيذ حتى الآن، ولم تكن الظروف مواتية لمثل هذه التحالفات كما هي الآن، هذا إن تم فسيكون الحل الأمثل لأزمة الطاقة الأوروبية، وسوف يخلق توازنات جديدة ولاعبين جددا في سوق الطاقة العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.