الجباية تمنع ترخيص المشروعات الصغيرة

11 جهة تمارس الرقابة والتفتيش على المشروعات الصغيرة أعطيت لها صفة الضبطية القضائية (الجزيرة)

قبل أسبوعين صدر قرار رئيس الوزراء المصري بمد مهلة تقديم طلبات توفيق أوضاع مشروعات الاقتصاد غير الرسمي لمدة عام آخر، وذلك للمرة الثانية بعد إعطاء مهلة سنة بالعام الماضي، عقب انقضاء السنة التي أتاحتها لائحة قانون تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر الصادرة عام 2021.

ورغم أن مشروعات الاقتصاد غير الرسمي تمثل القطاع الأكبر من حيث عدد العمالة، مقارنة بأعداد المشتغلين بالقطاعين الحكومي والخاص المنظم، فلم تجد مهلة رئيس الوزراء الجديدة اهتماما إعلاميا وسط الانشغال بارتفاع أسعار الدواجن والبيض والأسماك واللحوم وغيرها، رغم أن الاهتمام بمشروعات الاقتصاد غير الرسمي من شأنه المساهمة بدور مؤثر في مشروعات الأمن الغذائي وتوفير السلع عموما، سواء الغذائية أو غيرها.

الملاحظ أن 75% من ودائع القطاع الخاص غير المنظم اتجهت إلى البنوك الخاصة، بينما اتجهت نسبة 25% منها فقط للبنوك العامة الحكومية، وربما ارتبط ذلك بتعودها الابتعاد عن التعامل مع جهات حكومية

مشروعات الاقتصاد غير الرسمي هى المشروعات الصناعية والتجارية والخدمية التي لم تحصل على تراخيص من الجهات الحكومية لمزاولة عملها، نظرا لتخوفها من كثرة الرسوم الحكومية والاشتراطات الفنية والبيروقراطية المصاحبة لتلك الموافقات.

يؤكد مخاوف مشروعات الاقتصاد غير الرسمي ما جاء بالمادة 96 من لائحة قانون المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر الصادرة عام 2021، حين أعطت صفة الضبطية القضائية لـ11 جهة تمارس الرقابة والتفتيش على تلك المشروعات، وهي: وزارة الزراعة ووزارة الاتصالات، ووزارة البيئة ووزارة السياحة والآثار وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، وهيئة التنمية الصناعية ومصلحة الضرائب وجهاز تنمية التجارة الداخلية، وجهاز شؤون البيئة وجهاز تنظيم إدارة المخلفات والمراكز المختصة بالتراخيص بالوحدات المحلية.

حجم غير معروف للاقتصاد الموازي

وها هي أرقام تعاملات قطاع الأعمال الخاص غير المنظم مع البنوك بالعام المالي المنتهى في يونيو/حزيران الماضي، تشير إلى بلوغ قيمة ودائعه 235 مليار جنيه، في حين بلغت قيمة قروضه 322 مليار جنيه، ليصل صافي مديونيته للبنوك 88 مليار جنيه، وكانت نسبة 76% من الودائع بالجنيه المصري مقابل نسبة 24% بالعملات الأجنبية.
توزعت القروض ما بين 62% لقصيرة الأجل بينما كانت 38% منها طويلة الأجل، وتضمن التوزيع النسبي للقروض على قطاعات النشاط المختلفة، حصول قطاع الصناعة على 39% من الإجمالي والتجارة 29% والخدمات 23% والزارعة 9%.

والملاحظ أن 75% من ودائع القطاع الخاص غير المنظم اتجهت إلى البنوك الخاصة، بينما اتجهت نسبة 25% منها فقط للبنوك العامة الحكومية، وربما ارتبط ذلك بتعودها الابتعاد عن التعامل مع جهات حكومية خشية حصول تلك الجهات على بيانات تخص نشاطها، وربما كان السبب أيضا مرونة الإجراءات بالبنوك الخاصة بالمقارنة للبنوك العامة المزدحمة غالبا والمحكومة بضوابط أكثر بيروقراطية.

تعود قضية ابتعاد المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر غير المسجلة بالسجلات الحكومية عن التعامل مع الجهات الرسمية إلى عقود سابقة، مما جعل حجمها غير معروف للجهات الرسمية حيث تذكر بعض الجهات أن حجمها يمثل حوالى 40% من الاقتصاد الرسمي، ويرى آخرون أن حجمها يمثل حوالي 60% من الاقتصاد الرسمي، بينما يرى آخرون أن حجمها مماثل لحجم الاقتصاد الرسمي.

وسيلة إنقاذ وقت الأزمات الاقتصادية

ظهرت أهميتها بشكل واضح للاقتصاد المصري خلال فترة الإغلاق بسبب فيروس كورونا بالربع الثاني من عام 2020، حين استوعب القطاع غير الرسمي الكثير من العمالة التي استغنى عنها القطاع الخاص الرسمي، كما اتضحت أهميته أيضا خلال حالة الركود المهيمنة على الأسواق المصرية خلال السنوات الأخيرة والمستمرة حتى الآن.

حيث توفر السلع منخفضة السعر والجودة والتي تقبل عليها الشرائح الفقيرة، مما جعل لها أسواقا خاصة معروفة تباع فيها سلع الدرجة الثانية التي تناسب أسعارها غالبية السكان، إلى جانب توفيرها فرص عمل عديدة للعاطلين وأعمالا إضافية للباحثين عن أعمال إضافية، ومن هنا كان على الحكومة الأخذ بيدها كي تطور من نفسها وتحسن جودة منتجاتها، وتمدها بالخدمات الفنية والتمويلية والتأمينية والرعاية الصحية.

لكن منطق الجباية كان هو المهيمن على تعامل الحكومة معها، حيث ترى أنها لا تدفع ما عليها من ضرائب ورسوم وتسعى لضمها للاقتصاد الرسمي لزيادة الحصيلة الضريبية، مما يعزز مخاوف تلك الأنشطة من الانضواء تحت العباءة الحكومية، فتتفنن في ابتكار أشكال جديدة للتهرب من التعامل مع الأجهزة الحكومية.

المشكلة قديمة وتعود لعقود سابقة، في عام 1997 كان هناك مشروع لحصر الاقتصاد غير الرسمي، بدعم مالي من هيئة التنمية الأميركية استمر 3 سنوات، وبالفعل قدم الخبير التنموي الدولي هيرناندو دي سوتو تقريرا شاملا للتعامل مع الاقتصاد غير الرسمي لوزير المالية مدحت حسانين عام 2004، الذي تحمس لتنفيذ تلك المقترحات لتسهيل حصول مشروعات الاقتصاد غير الرسمي على خدمات وتيسيرات حكومية، وبحيث يدرك بشكل عملي المزايا التي سيحصل عليها في حالة انضوائه تحت إطار الاقتصاد الرسمي.

لكن خروج الوزير من الحكومة عطل تنفيذ تلك المقترحات، ليصدر قانون جديد لضريبة الدخل عام 2005 حاصر تلك المشروعات من المنبع، حين نص بالمادة 74 منه على أن التزام كل من يزاول نشاطا تجاريا أو صناعيا أو حرفيا أو مهنيا أو نشاطا غير تجاري، أن يقدم إخطارا لمصلحة الضرائب بتلك المزاولة للنشاط خلال 30 يوما من تاريخ بدء مزاولة هذا النشاط، ونص على غرامة مالية كبيرة على من لا يلتزم بذلك.

كما ألزم القانون -الذي مازال ساريا حتى الآن- كل من يزاول نشاطا تجاريا أو صناعيا أو حرفيا أو نشاطا غير تجاري أو مهني بصفة مستقلة أن يتقدم لمصلحة الضرائب لاستخراج البطاقة الضريبية، على أن تكون تلك البطاقة ضمن إجراءات التأسيس أو الترخيص بمزاولة المهنة أو النشاط أو تجديده.

زادت درجة الحصار لتلك المنشآت بجعل شهادة القيد بالسجل التجاري أو الصناعي المرتبطة بوجود بطاقة ضريبية لاستخراجها، أحد اشتراطات التعاقد على إدخال الكهرباء للمنشأة وكذلك عند التعاقد لإدخال مياه الشرب أو الصرف الصحي أو الغاز الطبيعي.

تيسيرات حكومية لم تنفذ

استمرت لعبة القط والفأر بين مصلحة الضرائب وتلك المشروعات، حيث أوجبت مصلحة الضرائب على الجهات التي تمنح تراخيص مزاولة التجارة أو الصناعة أو الحرف أو مهن معينة، أو منح ترخيص لبناء عقار أو لاستغلال عقار في مزاولة تجارة أو حرفة أو مهنة أن تخطر مصلحة الضرائب عند منح تلك التراخيص.

ورغم صدور قانون خاص بالمنشآت الصغيرة عام 2004 حفل بالعديد من التيسيرات لأصحاب المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر، من إنشاء وحدات بالأقاليم لاستخراج التراخيص لها خلال 30 يوما، وإنشاء صندوق لتمويلها بكل محافظة، وتخصيص نسبة لا تقل عن 10% من مشتريات الوزارات والجهات التابعة لها ووحدات الإدارة المحلية لشراء منتجاتها، وتخصيص نسبة 10% على الأقل من الأراضي الشاغرة بالمناطق الصناعية والتجمعات العمرانية لها، وتحديد سعر بيع الأراضي لها في حدود تكلفة المرافق فقط، وعدم جواز إيقاف نشاطها إداريا.

غير أن غالبية تلك النصوص لم تنفذ على أرض الواقع، مما دفع الحكومة لإعادة النص على معظمها في قانون آخر للصناعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر صدر عام 2020، والذي حدد قيمة رسوم التراخيص حسب رأسمال المشروعات المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، أو حسب حجم أعمالها السنوية  بفئات مالية متدرجة، وكذلك تحديد رسوم متدرجة للتراخيص المؤقتة.

لكن القانون لم يجد صدى كبيرا لدى أصحاب مشروعات الاقتصاد غير الرسمي، لاستمرار حالة عدم الثقة في القانون، حيث يعتبرونه وسيلة لجذبهم للانضواء تحت الهيمنة الحكومية، وبمثابة إتاحة الفرصة لباقي الجهات الحكومية لفرض رسومها على تلك المشروعات، والمرتبطة بعقوبات مالية وجنائية للمتخلفين عن السداد، خاصة مع استمرار صدور قوانين أخرى تزيد من الأعباء على المشروعات القائمة.

مثلما حدث بصدور قانون للمحال العامة بفرض رسوما متعددة للمعاينة والترخيص والتجديد حسب الموقع الجغرافي وسعة المكان، وقانون لعربات تقديم الطعام بالشوارع برسوم كبيرة، وقانون لفرض رسوم بنسبة 2.5 بالألف من الإيرادات للشركات لصالح التأمين الصحي الشامل، أي سواء كانت رابحة أو خاسرة، وإنشاء صناديق حكومية مصحوبة برسوم جديدة لتمويلها، وغير ذلك من قوانين الجباية المتتالية، والنتيجة مرور عامين على صدور لائحة قانون المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر، دون استجابة ملموسة من قبل أصحاب منشآت الاقتصاد غير الرسمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.