برويز مشرف.. من السطوة العسكرية إلى الإهمال السياسي

تعرف على الرئيس الباكستاني الأسبق برويز مشرف المحكوم عليه بالإعدام
الرئيس الباكستاني الأسبق "برويز مشرف" (الجزيرة)

رحل عن عالمنا الرئيس الباكستاني برويز مشرف عن عمر ناهز الـ 79 عاما، وسيظل اسمه يلاحق كل مؤرخ للحرب الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على أفغانستان 2001-2020، وسيكون من الصعب على أي مؤرخ أو محلل أن يتحدث عن تلك الحقبة بدون أن يأتي على ذكر الرئيس الباكستاني برويز مشرف، والذي يُعد من الرؤساء النوادر عالميا الذين كتبوا مذكراتهم، وهم لا يزالون على هرم السلطة.

قرر نواز شريف منع طائرة مشرف من الهبوط في مطار كراتشي بينما كان عائدا من سريلانكا في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2001، واستطاع مشرف التواصل مع قادته العسكريين من طائرته وأصدر أوامره لضباطه على الأرض بتنفيذ انقلاب، فكان أول انقلاب يحصل من الجو.

وثق مشرف مذكراته في كتابه "على خط النار" المترجم إلى اللغة العربية، وقد أثار اعترافه في الكتاب بتسليم المئات من المقاتلين العرب والباكستانيين للولايات المتحدة الأميركية من أجل سجنهم في غوانتانامو مقابل مئات الملايين من الدولارات؛ تساؤلات كثيرة، لا سيما وسط المنظمات الحقوقية، خصوصا بعد أن أفرجت الولايات المتحدة الأميركية عن كثير منهم بدون أن توجه لهم التهم أو الإدانة.

in the line of fire cover book
كتاب "على خط النار " للجنرال برويز مشرف (مواقع التواصل الاجتماعي)

بدأت قصة برويز مشرف كقائد للجيش الباكستاني تسطع حين دعم بعض الجماعات الإسلامية المسلحة الكشميرية التي نفذت هجمات على مرتفعات كارجيل الإستراتيجية مع الهند، ثم تطور ذلك إلى تدخل الجيش الباكستاني نفسه إلى جانبها، وحين وقع الجيش في مأزق حقيقي مع القوات الهندية، وكادت أن تنشب مواجهة نووية بين الجارين النوويين الهند وباكستان، وجد مشرف نفسه في المصيدة.

طار حينها رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون طالبا تدخله، والذي على ما يبدو اشترط تسليم أسامة بن لادن الموجود لدى إمارة أفغانستان الإسلامية حليفة باكستان، أو السماح لقوات خاصة أميركية بتعقبه في أفغانستان، بدعم من الاستخبارات الباكستانية، فتمت الموافقة، وفق ما يقوله كثير من المصادر الأميركية.

هنا بدأ الخلاف بين شريف كرئيس للوزراء ومشرف كقائد للجيش الذي أراد شريف التخلي عنه، فتعمقت الخلافات إلى أن قرر نواز شريف منع طائرة مشرف من الهبوط في مطار كراتشي بينما كان عائدا من سريلانكا في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2001، واستطاع مشرف التواصل مع قادته العسكريين من طائرته التي لا تزال في سماء كراتشي، وأصدر أوامره لضباطه على الأرض بتنفيذ الانقلاب، فكان أول انقلاب يحصل من الجو.

وبالفعل هبطت طائرته في مطار كراتشي بعد نجاح الانقلاب، واعتقل على الفور نواز شريف وأُودع في سجن القلعة على طريق "بيشاور- إسلام آباد"، وتربع مشرف على السلطة مجددا ليكون عاشر رئيس باكستاني ورابع جنرال عسكري يحكم باكستان، التي تناصف حكمها المدنيون والعسكريون خلال تاريخها القصير منذ انفصالها عن الهند عام 1947.

الرئيس الباكستاني الأسبق وقائد الجيش السابق الجنرال برويز مشرف (وكالات)

مشرف ومحاولات اغتياله

منذ وصوله إلى السلطة وخصومه في تعاظم وتكاثر، فبالإضافة إلى الخصمين الأساسيين وهما الحزبان الرئيسيان حزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف الذي انقلب عليه وسجنه، وحزب الشعب الباكستاني بزعامة بينظير بوتو، فقد برز خصم دموي خطير وهو الحركات الجهادية الباكستانية المسلحة، لغضبها من موقفه إزاء تسليم المقاتلين العرب و الباكستانيين إلى الأميركيين لسجنهم في غوانتانامو، إضافة إلى خصم آخر وهو الجماعات المسلحة الكشميرية الذي أيضا انقلب عليها، واتهمها بالإرهاب، وذلك إرضاء للهند بعد مأزق كارجيل، مستغلة أجواء الحرب على ما يوصف بالإرهاب.

وكانت البيئة تفرض عليه تبريد المشكلة سياسيا مع الهند فدفعت ثمنها الجماعات الجهادية الكشميرية التي ظلت لوقت طويل مدعومة من الجيش والاستخبارات الباكستانية، لكنها رأت أن مشرف بدأ يغرد خارج سرب من كان يدعمها فنفذت أكثر من محاولة اغتيال استهدفته، وتمكنت إحدى المحاولات من وصول الانتحاري إلى سياراته في الموكب الذي كان يسير فيه قرب راولبندي العاصمة العسكرية لباكستان، والتي جرت بتنسيق مع ضباط وعسكريين باكستانيين من الحلقة الضيقة لمشرف، حيث لم يُخفِ كثير من الضباط العسكريين وخاصة المتقاعدين غضبهم وحنقهم على مشرف لتخليه عن حركة طالبان، وتعاونه مع الأميركيين، وقد عبّر عن ذلك لي بشكل مباشر قائد الجيش الباكستاني الأسبق ميرزا أسلم بيغ، ومدير المخابرات العسكرية الباكستانية الأسبق الجنرال حميد غول، اللذان وصفا تحالفه مع الأميركيين بالخيانة.

مشرف وتحديات المشروعية

سعى الرئيس برويز مشرف في 2002 إلى شرعنة حكمه وانقلابه، فأجرى انتخابات عامة، بعد أن دعم انشقاق حزب الرابطة الإسلامية الموالي له بقيادة تشودري شجاعت حسين، وأسس حزب الرابطة الإسلامية جناح قائدي أعظم في إشارة إلى مؤسس باكستان محمد علي جناح، وقام الحزب الوليد بتشكيل تحالف مع أحزاب أخرى معظمها إسلامية تحت اسم مجلس العمل الإسلامي، وتمكن التحالف مع أحزاب مؤيدة لمشرف من حيازة أغلبية الثلثين التي استطاع من خلالها إجراء تعديل على التعديل 17 من الدستور، وهو تعديل كفل له شرعنة انقلابه وحكمه، وهو ما كان يفتقده طوال السنتين الماضيتين.

لكن وقوف رئيس المحكمة العليا "افتخار تشودري" في وجهه كلّفه الكثير حتى انقلب عليه مشرف لاحقا وأطاح به كرئيس للمحكمة العليا، مما أدى إلى انتفاضة المعاطف السوداء كما أُطلق عليها، والتي تشكلت من المحامين الرافضين لحكم مشرف، والذين رأوا في خطواته انقلابا على الدستور، وقد أفضى ذلك بالنهاية إلى استقالته، وعقد انتخابات عامة فاز فيها حزب الشعب الباكستاني بزعامة آصف علي زرداري زوج بينظير بوتو التي قضت في تفجير انتحاري في راولبندي قبل أشهر معدودة من الانتخابات.

مشرف والخيانة العظمى

بعد استقالته، وتراجع حلفائه في انتخابات 2007، استقال برويز مشرف من السلطة وغادرها إلى دبي، وبدأت تطارده المحاكمات حتى قضت عليه محكمة باكستانية عام 2019 بالإعدام بسبب خيانته العظمى في تعليق الدستور، وفرض حالة الطوارئ، وقد اتهم بعدم توفير الحماية اللازمة لرئيسة الوزراء الباكستانية السابقة التي سمح لها بالعودة من المنفى الاختياري، وهو ما أدى إلى قتلها في تفجير انتحاري طالباني، وكان تقرير للجنة دولية خاصة تابعة للأمم المتحدة اتهم مشرف بالتعمد في عدم توفير الحماية الشخصية لبوتو وهو ما تسبب في قتلها.

ولن ينسى الشعب الباكستاني خلال فترة حكم مشرف المجزرة التي ارتكبها خلال حكمه في المسجد الأحمر والتي قضى فيها -ضمن حملة قادتها الوحدات الخاصة الباكستانية- عشرات المدنيين من أطفال صغار، حيث لا أزال أتذكر يومها حين دخلنا بعد اقتحام المسجد، وأحذية الأطفال الصغار ملوثة بالدماء، كما جدران الغرف التي كان يسكنها الأطفال الذين يدرسون العلم الشرعي فيه، ويبيتون فيه، وحصل هذا بعد أن تحصّن قادة المدرسة الدينية في المسجد، مطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية. وقد لقي الاقتحام الدموي انتقادات داخلية واسعة، وكان يمكن للحصار أن يُفك بدون هذه التكاليف الدموية الباهظة، بنظر الكثير من المتابعين للمشهد، لا سيما أن المحاصرين من العزل الذين لا قوة لهم.

مشرف والنهاية في دبي

أغمض الرئيس الباكستاني العاشر برويز مشرف عيونه في دبي بعد معاناة مع مرض وصفه الأطباء بالنادر وهو ما يدعى بمرض " الداء النشواني" هو مرض نادر الحدوث تحدث الإصابة به عندما يتراكم بروتين يُسمى الأميلويد في أعضاء الجسم. ويمكن لتراكم بروتين الأميلويد أن يؤثر سلبا في وظائف الأعضاء. ومن الأعضاء التي قد تتأثر به القلب والكلى والكبد والطحال والجهاز العصبي والسبيل الهضمي. وظل مشرف يطمح قبل رحيله بالعودة إلى باكستان، لكنه أخفق في نيل عفو قضائي يمكنه من العودة بدون المطاردة، لكنه اليوم بمقدوره أن يعود ميتا ليدفن فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.