ابن خلدون ثائرا.. الثورة الناقصة

العلامة ابن خلدون مع مباني من القاهرة القديمة
ابن خلدون (732-808 هـ/1332-1406م) عاش في زمن بلغ فيه العالم الإسلامي درجة غير مسبوقة من التفتت والتحلل (الجزيرة)

"الدنيا وأحوالها مطية للآخرة.. ومن فقد المطية، فقد الوصول" عبارة لخص فيها ابن خلدون رؤيته لجوهر مشاكل وإشكاليات العالم الإسلامي: ثمة مشكلة في الدنيا وأحوالها. وكان ابن خلدون عالما وقاضيا وفيلسوفا اجتماعيا ومؤرخا، وغير ذلك.  وكرَّس مهاراته الفائقة وقدراته المتفردة للإجابة عن السؤال: ما المشكلة في دنيا المسلمين وأحوالهم؟ وكان تشخيصه لهذه المشكلة أنها "فساد البأس" بمعنى فساد وانحدار قوة الفاعل الإنساني (المسلمون في هذه الحالة هم الذين اتسم عمرانهم بانهيار مستمر للدول والنخب الحاكمة).

وانطلق ابن خلدون بما لديه من عدة معرفية وذخيرة منهجية يسبر أحوال المسلمين ودنياهم في كتابه الأهم: "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، والذي اشتهرت منه مقدمته وذاع صيتها بين الناس.

كانت ظاهرة السلطة والقوة في قلب اهتمام ابن خلدون، إذ رأى أن السلطة والقوة الاجتماعية هي جوهر العمران وأنها حتمية لا مناص عنها

عاش ابن خلدون في القرن الـ 14 الميلادي (الثامن الهجري) (732-808 هـ/1332-1406م) في وقت بلغ فيه العالم الإسلامي درجة غير مسبوقة من التفتت والتحلل، كان أبرز علاماتها تعدد الوحدات السياسية وتنازعها المستمر فيما بينها. وسيستمر هذا التحلل في منحناه الصاعد حتى يبلغ 24 دولة في (900 هـ/1494م)، و26 دولة في (950 هـ/1543م)، و29 دولة (999 هـ/1592م)، و35 دولة (1149 هـ/1736م).

وكان رافضا لهذا الوضع الذي كان بوابة للضعف والانحدار في عالم المسلمين، وقرر أن يقود "ثورة" من نوع مختلف على هذه الأوضاع البائسة. ودرس تاريخ المسلمين في سياق التاريخ العالمي، وبحث دورات السيادة والهيمنة من سلالة أو نخبة حاكمة لغيرها. وفسَّرها ابن خلدون بدورة أو عملية ذات مراحل متعاقبة و"حتمية".

وهكذا لفت النظر إلى عدم الاستقرار "الحتمي" لكل السلالات المسلمة الحاكمة ما قبل الحديثة. وكان سبب عدم الاستقرار الحتمي هذا في رأي ابن خلدون مشكلات الشرعية، والولاء، والتحكم الناتجة عن افتقاد هذه الدول المتعاقبة لأنماط منتظمة في تداول الحكم والسلطة (والتي كانت قد بدأت تتطور في السلالات الحاكمة الأوروبية في ذلك الوقت). وكان هذا تفسير ابن خلدون، وهو عقلاني واقعي.. في وقت كان العلماء والمفكرون الآخرون في وقته منشغلين بتقييم ما رأوه غياب الفاعلية لدى المسلمين نتيجة غياب القيادة صاحبة الرؤية.

وكانت ظاهرة السلطة والقوة في قلب اهتمام ابن خلدون، إذ رأى أن السلطة والقوة الاجتماعية هي جوهر العمران وأنها حتمية لا مناص عنها.  إذ بدأ بشرح الاحتياجات الأساسية للبشر والتي تدفعهم على نحو تلقائي للعيش المشترك، وتحدث أن الإنسان مدني بالطبع.

ثم تناول تطور التجمعات البشرية بالظهور الحتمي للعصبية كرابطة جماعية ونفسية تربط البشر بوثاق متين. ثم قال إن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك، ثم رأى أن الصراع حتمي، إذ أنه من طبيعة الملك الانفراد بالمجد، فضلا عن أن الملك على الحقيقة لمن لا يكون فوق يده يد قاهرة.

وكان مصير كل الدول والإمبراطوريات والسلالات الحاكمة الإسلامية ما قبل الحديثة التحلل والانحدار، لقد كانت ضحية "فساد البأس" بالتعبير الخلدوني. لقد وقع هذا كثيرا من قبل، وكان نتيجة للضعف الحتمي للدولة المعتمدة على الغزو أو الفتح العسكري والقائمة على الحماية العسكرية والتي تحولت إلى مركزية مطلقة.

ولقد كانت الإمبراطوريات الإسلامية العظيمة الثلاثة: العثمانية، والصفوية، والمغولية تنويعات على علامة دولة الرعاية أو المحسوبية العسكرية والتي كانت تتسم بأربع خصائص أساسية:

  1. كانت دول المحسوبية العسكرية، كما يوحي الاسم، عسكرية في الأساس. كان هناك قائد عسكري رئيسي على رأس المجتمع يعتمد على قادة تابعين له يتولون الحكم المحلي. وكان المجتمع منقسما إلى "طبقتين": الطبقة العسكرية الحاكمة، التي كانت تؤدي الخدمات العسكرية وغيرها من الخدمات للحكام، وباقي الناس كانت وظيفتهم إنتاج فائض يمكن إخضاعه للضرائب.
  2. كانت جميع الموارد الاقتصادية تقريبا تنتمي إلى العائلة أو العائلات العسكرية الرئيسية. ويمكن لهذه العائلة أو العائلات الحاكمة إعادة توزيع هذه الموارد كما يحلو لهم، وهو ما قامت به. غالبا ما فعلوا ذلك مقابل الخدمات المذكورة أعلاه التي قدمها الوجهاء المحليون؛ ومن هنا تأتي "المحسوبية".
  3. جمعت قوانين دول المحسوبية العسكرية بين قانون الأسرة الحاكمة، والعادات والأعراف المحلية، والشريعة الإسلامية.
  4. كانت هذه الدول تتشارك في نظريتها السياسية مع الدول الإسلامية الأخرى القائمة على دائرة السياسة العدالة أو السلطة، والتي لخصها ابن خلدون قائلا: "العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه نظام العالم.  العالم بستان..".

لقد كان ابن خلدون واعيا بأنه يختط خطا جديدا وينسج على غير منوال سابق، لكنه كان مدركا كونه لم يستنفد أغراضه بعد وأن مشروعه لإنقاذ العالم الإسلامي غير مكتمل

وكانت هذه الدول يعوزها تطوير نظريتها السياسية كي تستجيب للمشاكل الجوهرية التي كانت تعتور العمران الإسلامي، وكان في الحقيقة ثمة صراع على قراءة الواقع ورؤية المستقبل بين الأسر والسلالات الحاكمة التي كانت رؤيتها جميعا قاصرة.

إن الصراع الداخلي وعدم الاتفاق على رؤية واحدة للواقع والمستقبل موجود في كل المجتمعات الإنسانية. غير أن الفرق الحاسم يكون دوما في وجود أو غياب منظومة مستقرة لحل هذه الخلافات. وكان الحل الغربي لهذه المشكلة هو الديمقراطية. وبرغم كل علاتها، فإن الديمقراطية تجيب من زاوية عن سؤال ابن خلدون المتعلق بـ "لماذا تفشل الدول في العمران الإسلامي ولماذا لا توجد طريقة متفق عليها لتداول السلطة؟".

وثمة مشكلة جذرية أخرى تطرحها الرؤية الخلدونية علينا، وهي مشكلة تتعلق بغياب العصبية الاجتماعية التي تبني وتقود التطور السياسي. وفي غالب الأحوال، طحنت الدولة الحديثة الأسس الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية للعصبية في العمران الإسلامي، وتم استنبات مؤسسات بديلة بشكل قسري وسطحي أصبحت نبتا شيطاني في مجتمع ينبذها أصلا وهي تقهره من ناحية أخرى. وفي بعض الأحوال الأخرى، تعايشت العصبية مع الدولة الحديثة ولم يطوع أحدهما الآخر (كما في اليمن مثلا)، لكن هذا أيضا لم يفلح في إحداث أي اختراق من أي نوع في بنية التخلف السياسي.

إن التقاليد الفكرية الخلدونية لطالما تم تجاهلها على نحو لافت، كما أن من اهتم بها غالبا ما فاته أنها تقاليد غير مكتملة على نحو جوهري. لقد كان ابن خلدون واعيا بأنه إنما يختط خطا جديدا وينسج على غير منوال سابق، لكنه كان كذلك مدركا كونه لم يستنفد أغراضه بعد وأن مشروعه لإنقاذ العالم الإسلامي غير مكتمل.  فهو وإن درس وحلل وأبان مشكلة دنيا المسلمين وأحوالهم وتناول مشكلة فساد البأس، إلا أنه لم يسعفه الوقت للحديث عن حلول في العمل والحركة النابعة من إشكاليات في الفكر والخيال. ومن ثم فإن ابن خلدون وإن كان ثائرا حقا، وثائرا من نوع خاص، إلا أن ثورته تظل ناقصة وفي انتظار من يكملها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.