مخاطر الحصار الاقتصادي للفلسطينيين

توسيع المستوطنات أدى إلى شلّ الاقتصاد الفلسطيني (غيتي)

يخطئ من يظن أن الفلسطينيين يعيشون على المعونات الأجنبية، فحسب بيانات ميزان المدفوعات الفلسطيني لعام 2021 كان نصيب المعونات الأجنبية 5% فقط من مجمل الموارد من العملات الأجنبية، وهو أمر تكرر في السنوات السابقة. كذلك أشارت بيانات موارد الموازنة الحكومية الفلسطينية للعام نفسه إلى بلوغ نسبة المنح والمعونات أقل من 7% من موارد الموازنة، مع تكرار ذلك بالسنوات السابقة.

هذا أمر يُضاف إلى عظمة الشعب الفلسطيني الذي يضحي بأرواح شهدائه منذ عقود حتى الآن دفاعا عن أرضه المسلوبة، ولم يؤثر فيه تكالب عدد من الدول العربية لإقامة علاقات مع إسرائيل خضوعا للضغوط الأميركية. يظهر ذلك جليًّا حين تغلب على المأزق الكبير بميزان المدفوعات الفلسطيني الذي يتضمن وجود عجز مزمن بالميزان التجاري السلعي تخطى عمره الربع قرن بلا انقطاع، وكذلك وجود عجز مزمن أيضا بميزان التجارة الخدمية نتيجة العجز بميزان السياحة وميزان خدمات النقل.

حدث هذا على الرغم من أن أغلب دول العالم التي يكون لديها عجز تجاري سلعي يكون لديها فائض تجاري خدمي أو العكس، بحيث يعوض فائض أحدهما عجز الآخر، خاصة أن الصادرات السلعية والخدمية عادة ما تمثلان المورد الأكبر للنقد الأجنبي بدول العالم.

تسبب حصار إسرائيل للفلسطينيين وسيطرتها على عوامل الإنتاج الرئيسة في الحد من قدرة الاقتصاد الفلسطيني على توفير فرص عمل، وذلك أجبر السكان على التخلي عن العمل في قطاعات حيوية منها الزراعة التي كانت مصدرا رئيسا للتشغيل.

المعونات الأجنبية نصف مليار دولار

رغم ظروف الحصار الإسرائيلي فإن النموذج الفلسطيني استطاع التغلب على عجز كل من الميزان التجاري والسلعي، وذلك من خلال أجور العمالة الفلسطينية في إسرائيل وتحويلات العمالة الفلسطينية في الخارج، فقد مثلت هذه الأجور والتحويلات نسبة 51% من مجمل موارد النقد الأجنبي، ومكّنت بذلك من سدّ الجانب الأكبر من ذلك العجز المزمن.

إضافة إلى ذلك، تم تحقيق إيرادات أخرى أقل من بعض الموارد، أسهمت في تحقيق فائض بالميزان الكلي للمدفوعات ببعض السنوات انعكس بالضرورة على تكوين احتياطيات من النقد الأجنبي بلغت 872.5 مليون دولار في منتصف العام الماضي.

نجد أن بيانات ميزان المدفوعات الفلسطيني لعام 2021 تشير إلى تحقيق الميزان التجاري السلعي عجزا بلغ 5 مليار و595 مليون دولار كفرق بين الصادرات البالغة 2 مليار و299 ألف دولار والواردات البالغة 8 مليار و254 مليون دولار، كما حقق الميزان الخدمي عجزا بلغ مليار و109 مليون دولار، كفرق بين المتحصلات البالغة 882 مليون دولار والمدفوعات البالغة مليار و991 مليون دولار.

تزيد مدفوعات الفلسطينيين للسياحة بالخارج للعلاج والدراسة والتجارة على إيرادات السياحة الواردة التي تبلغ نحو نصف مليون سائح سنويا، ويأتي معظمها من أوروبا وآسيا، ورغم ذلك فقد أسفر الميزان الكلي للمدفوعات عن تحقيق فائض بلغ 174 مليون دولار.

يفسر ذلك قائمة موارد النقد الأجنبي خلال العام والتي تصدرتها أجور العمالة الفلسطينية بإسرائيل بقيمة 3 مليار و188 مليون دولار، تليها الصادرات السلعية بقيمة مليونين و290 ألف دولار، وتحويلات الفلسطينيين المغتربين التي بلغت مليار و983 مليون دولار، والودائع والقروض الخارجية بقيمة مليار و102 مليون دولار.

الصادرات الخدمية 822 مليون دولار، والمعونات الأجنبية 541 مليون دولار وتحويلات رؤوس الأموال 439 مليون دولار، وفوائد الاستثمارات الفلسطينية بالخارج 307 ملايين دولار والاستثمار الأجنبي المباشر 177 مليون دولار.

حصار اقتصادي مقنن منذ 1994

تسبّب حصار إسرائيل للفلسطينيين وسيطرتها على عوامل الإنتاج الرئيسة في الحد من قدرة الاقتصاد الفلسطيني على توفير فرص عمل، وذلك أجبر السكان على التخلي عن العمل في قطاعات حيوية منها الزراعة التي كانت مصدرا رئيسا للتشغيل.

كما أدى توسيع المستوطنات إلى شلّ الاقتصاد الفلسطيني، مع وجود فجوة في تكاليف الإنتاج بين الاقتصاد الإسرائيلي والفلسطيني لمصلحةالإسرائيلي، الأمر الذي زاد من الصادرات الإسرائيلية إلى فلسطين وأضعف تنافسية المنتجات الفلسطينية.

أسهمت سيطرة الاحتلال على المعابر الفلسطينية والحدود مع الأردن ومصر في تمكينه من تعطيل التجارة الفلسطينية تصديرا واستيرادا لتكون دولة الاحتلال هي الشريك التجاري الأول، حيث اتجهت إليها نسبة 83% من الصادرات الإسرائيلية في عام 2021 وتم استيراد نسبة 55% من الواردات منها.

كان مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" قد قدّر خسارة الاقتصاد الفلسطيني بسبب إغلاقات دولة الاحتلال للحدود والمعابر بنحو 58 مليار دولار بالفترة ما بين عامي 2000 و2019، حيث تسيطر إسرائيل على الحدود الفلسطينية والموارد الطبيعية والشؤون التجارية وعلى السياسات النقدية والضريبية.

وتعود مشكلة خنق سلطات الاحتلال للاقتصاد الفلسطيني إلى ما يعرف باتفاقية باريس الاقتصادية، أو بروتوكول باريس لتنظيم العلاقات الاقتصادية الفلسطينية مع دولة الاحتلال عام 1994، بما يشمل الاتحاد الجمركي الذي تسيطر عليه سلطة الاحتلال ضمن 6 مجالات نظمها البروتوكول هي: الضرائب والجمارك والعمالة والزراعة والصناعة والسياحة، إلى جانب الاتفاق على أن يكون الشيكل الإسرائيلي هو العملة المتداولة بالمناطق الفلسطينية.

وكان البنك الدولي قد أشار في دراسة عام 2013 إلى أنه بإمكان الفلسطينيين زيادة ناتجهم المحلي الإجمالي سنويا بنحو 704 ملايين دولار في حالة السماح لهم باستغلال أراضيهم الواقعة بالمنطقة "ج"، وكانت اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995 قد قسمت الضفة الغربية إلى 3 أجزاء، منها المنطقة "ج" التي تمثل نسبة 61% من مساحة الضفة الغربية بحيث تتولى السلطة الفلسطينية فيها الخدمات الطبية والتعليمية للفلسطينيين، بينما تتولى السلطات الإسرائيلية الجوانب الأمنية والإدارية والقانونية بها.

60 % من إيرادات الموازنة عبر إسرائيل

لطالما حاولت السلطات الفلسطينية الانفكاك عن اقتصاد الاحتلال من خلال منع استيراد العجول والمواشي من المربّين بدولة الاحتلال، وكذلك نقل ملف التحويلات الطبية إلى المستشفيات الأردنية والمصرية، وأيضا التوقف عن استيراد المياه المعدنية والعصائر والخضر والفاكهة من الأراضي المحتلة.

كما حاولت استيراد مشتقات بترولية من العراق، لكن السلطات الإسرائيلية ردت على ذلك بوقف إدخال المنتجات الزراعية الفلسطينية إلى أسواقها، ومنع تصدير تلك المنتجات عبر موانئها، وإن كانت قد تراجعت عن ذلك بعد ضغوط دولية.

ومع وقوع الاقتصاد الفلسطيني ضمن الاتحاد الجمركي مع دولة الاحتلال، فإن السلطة الفلسطينية تطبق معدلات الضرائب نفسها التي تفرضها سلطات الاحتلال على مواطنيها، بما فيها ضريبة القيمة المضافة والجمارك، سواء على السلع المحلية أو السلع المستوردة رغم التفاوت الكبير بين معدل الأجور في الاقتصادين.

السلطة الفلسطينية تطبق معدلات الضرائب نفسها التي تفرضها سلطات الاحتلال على مواطنيها بما فيها ضريبة القيمة المضافة والجمارك (شترستوك)

كذلك تأخير إسرائيل دفع مستحقات الضرائب والجمارك التي حصلتها لمصلحة السلطات الفلسطينية، ويطلق عليها إيرادات المقاصة وشكلت نسبة 60% من مجمل إيرادات الموازنة الفلسطينية بالعام الأسبق، ولطالما طالب الفلسطينيون بتغيير اتفاقية باريس واعتماد إطار اقتصادي جديد يحقق مصالح الشعب الفلسطيني، لكنهم لم يجدوا استجابة خاصة مع انحياز الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة للجانب الإسرائيلي.

24 % معدل البطالة وأعلى منه بغزه

في ضوء حادثة إطلاق النار على رواد أحد المعابد اليهودية ردا على قتل عشرات من الفلسطينيين بالعام الماضي والشهر الأول من العام الحالي، وتهديد الحكومة الإسرائيلية برد عنيف، فإن هناك مخاوف على عمل الفلسطينيين بالمناطق المحتلة، حيث بلغت نسبة البطالة بمنتصف العام الماضي 24%، وهي نسبة تزيد بغزة على ذلك، فبنهاية عام 2021 بلغ معدل البطالة نحو 26.4% وكانت النسبة 15.5% بالضفة الغربية مقابل نسبة 47% بغزة.

توزعت العمالة الفلسطينية في منتصف العام الماضي بين 81% بالمناطق الفلسطينية و19% بالمناطق الإسرائيلية المحتلة، إلا أن قيمة الأجر بالمناطق الإسرائيلية تكون أعلى منها بالمناطق الفلسطينية، ففي نهاية العام الأسبق كان متوسط الأجر اليومي بالضفة الغربية 124 شيكلا، وبقطاع غزة 60 شيكلا مقابل 266 شيكلا بإسرائيل والمستعمرات، رغم الظروف الصعبة التي يعمل بها الفلسطينيون بإسرائيل وتدنّي أجورهم بالمقارنة مع العمالة الإسرائيلية.

كذلك هناك مخاوف على الصادرات الفلسطينية التي يتجه معظمها إلى إسرائيل، وأهمية استقبال جانب عربي منها لتوفير موارد لأصحاب المشروعات والعمالة والسكان، ففي عام 2021 بلغت قيمة الصادرات الفلسطينية للدول العربية 260 مليون دولار، منها 188 مليون دولار اتجهت إلى الأردن و24 مليون دولار للسعودية، و23 مليونا للكويت و20 مليونا للإمارات و3 ملايين لقطر ومليون دولار لمصر، وأقل من المليون دولار لكل من المغرب واليمن والعراق.

وفي العام نفسه بلغت واردات الإمارات من إسرائيل 384.4 مليون دولار، ومصر 121 مليون دولار والأردن 64 مليون دولار والمغرب 31 مليون دولار، وأقل من ذلك جيبوتي والبحرين والصومال وتونس لوارداتها السلعية من إسرائيل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.