صعود اليمين المتطرف في فرنسا.. قيم الجمهورية على المحكّ

تردي الأوضاع المعيشية أدى إلى موجة احتجاجات وصعود كبير لليمين المتطرف (غيتي)

ما فتئ صعودُ اليمين القوميّ المتطرّف في أوروبا يثير قلقَ الجاليات المسلمة، وأحزاب اليسار، وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان، وتحديدًا تلك التي تعنى بقضايا وأوضاع المهاجرين.

فبعد انتخاب جورجيا ميلوني، زعيمة حزب "إخوة إيطاليا"، رئيسة للحكومة الإيطالية في سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، ها هي هولندا تلتحق بركب البلدان الأوروبية التي تقودها أحزاب معادية للأجانب، عقب فوز حزب الحرية بزعامة "خيرت فيلدرز" بالانتخابات الأخيرة التي شهدتها البلاد.

في فرنسا، تراهن مارين لوبان على اكتساح الانتخابات الرئاسية المقبلة عبر تكثيف حضورها في المؤسَّسة التشريعيّة، وفي وسائل الإعلام، محاولة توجيه رسائل طمأنة إلى الطيف السياسيّ الفرنسيّ.

وهو مشهد يعزّزه حضور إيريك زمور زعيم حزب "الاسترداد"، الذي يعتبره مراقبون مجرد "أرنب سباق" يجعل لوبان تبدو أكثر لطفًا واعتدالًا.

أزمة اقتصادية وخطاب شعبوي

إنّ الصعود الملحوظ لليمين المتطرف في أوروبا عمومًا وفرنسا على وجه الخصوص، يشكل ظاهرة تخضع لتأثيرات متعددة.

يمكن القول إجمالًا؛ إنّ هذا الزخم ليس سوى رد فعل على تنامي مدّ العولمة، واحتدام الأزمة الاقتصادية، وما نجم عنهما من تعميق للفوارق الاجتماعية وتوسيع لشريحة الغاضبين.

هؤلاء تحول عدد منهم إلى لقمة سائغة للمشاريع السياسية التي تقتات على الأيديولوجيات الهُوياتية. وهي خطابات تحمّل المسؤولية للمهاجرين وتعتبرهم عبئًا على ميزانية الدولة، وكأنه برحيلهم، فقط، ستتراجع الأسعار وتنمو القدرة الشرائية للمواطن، وتتحسّن خدمات المرافق العامة.

يتبّنى اليمين القومي المتطرف، عادة، خطابًا شعبويًا في معارضته توجهات ومواقف النخبة التي بات يُنظر إليها كمجموعة فاسدة ومنفصلة عن عامة الشعب، وذلك عبر التركيز على أهمية الهُوية الوطنية أحادية الأصل، والدعوة إلى تبنّي سياسة أمنية متشددة، وهو المنحى نفسه الذي تسير على نهجه لوبان وأنصارها، ويشكل تهديدًا صريحًا لقيم الديمقراطية الليبرالية.

غير أنّ بعض المراقبين يرون أنّ شراسة زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي وحِدّة مواقفها قد تراجعتا في السنوات الأخيرة.

كما أنّ الوزير السابق، لوك فيري، دعا مرارًا في عدد من تصريحاته إلى: "الكفّ عن اعتبار مارين لوبان يمينية متطرفة؛ بسبب التغيير الواضح الذي طرأ على خطابها". فقد ليّنت هذه الأخيرة كثيرًا من لهجتها فيما يخصّ عددًا من القضايا، كتلك المرتبطة بالحريات الفردية والعضوية في الاتحاد الأوروبي.

تراجع دور الدولة

لكن هناك من ينظر إلى هذا التحوّل بتوجّس ويعتبره مجرد تكتيك يروم التعود، ثم التطبيع مع حزبها؛ امتدادًا للجبهة الوطنية التي أسّس نواتها الأولى متعاطفون مع نظام فيشي، ومعارضون لاستقلال الجزائر.

هذه التجرِبة التي قال عنها جون فرانسوا غالفير- وهو أحد أقطابها البارزين-: "لا بدّ من حزب ثوري، أبيض مثل عرقنا، أحمر مثل دمنا، وأخضر مثل آمالنا".

وعلى الرغم من أنّ مراقبين يقللون من أهمية احتمال فوز حزب مارين لوبان في الانتخابات الرئاسيَّة المقبلة- على اعتبار أنّ هذا الأخير اضطر إلى تقليم أظفاره وتليين خطابه ومواقفه حتى يستميل شريحة مهمة من الغاضبين من الإجراءات الحكومية وتدني القدرة الشرائية- يظل آخرون متوجّسين من هذه الشعبية المتزايدة، ويدقون ناقوس الخطر قبل فوات الأوان.

إذ يتشبّث مختلف أطياف اليسار، وجزء من حزب النهضة الذي يقود الحكومة الحالية- فضلًا عن النقابات الأكثر تمثيلية، وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان والبيئة- بمواقفها الصارمة من مارين لوبان، وحزب التجمع الوطني، الذي يقوده جوردان بارديلا ذو الثمانية والعشرين ربيعًا.

كما ترفض هذه القوى جميعًا أيَّة مهادنة أو تطبيع مع هذا الإطار المعروف بمحافظته الشديدة ومعاداته للأجانب والحريات.

في الجامعة الخريفية عقدت عصبة حقوق الإنسان (LDH) – وهي واحدة من أعرق المنظمات الحقوقية الفرنسيَّة – ملتقى في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، شدّد المشاركون في هذا اللقاء على خطورة صعود اليمين المتطرف الذي يستفيد من مخلّفات السياسات النيوليبرالية.

فالوضع العام الراهن يتسم بتدني القدرة الشرائية وتراجع دور الدولة في إدارة القطاع العام الذي يعرف ترديًا ملحوظًا في جودة خدماته. كل ذلك يزيد من تنامي السخط الشعبي ويتيح الفرصة لانتعاش قوى اليمين المتطرّف التي تتغدّى على الأزمات.

شماعة المهاجرين

وفي هذا الإطار، صرحت ماري كريستين فيرجيات- النائبة الأوروبية السابقة ونائب رئيس عصبة حقوق الإنسان- بأن: "الهجرة أصبحت موضوع تنافس ومزايدة محتدمة بين اليمين واليمين المتطرف، فكلاهما يحاول أن يَظهر أشدّ غلوًا من الآخر".

لا يتوفر حزب لوبان في الولاية الحالية على أي تمثيل في مجلس الشيوخ، في حين يملك 88 مقعدًا في الجمعية الوطنية، إلا أنّ تأثيره في المشهد السياسي بات ملحوظًا من خلال تركيز خطابه على معاداة الأجانب، خاصة العرب والمسلمين.

في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والتراجع المهول للقدرة الشرائية، أصبح المهاجرون شمّاعة تعلق عليها كل المشاكل والإخفاقات، علمًا أنَّ فرنسا في أمسّ الحاجة إلى اليد العاملة في مجالات تواجه صعوبة في الاستقطاب، كالمطاعم، والفنادق، والبناء.

هذا الوضع المؤرق دفع وزير الداخلية، جيرالد موسى دارمانان، إلى تقديم مشروع قانون أمام البرلمان يروم تسوية وضعية المهاجرين المقيمين بصفة غير قانونية؛ بهدف تشغيلهم في القطاعات المعنية.

على صعيد آخر، في حال تمكّن اليمين المتطرف من الوصول إلى دواليب الحكم في الرئاسيات المقبلة، فمن شأن ذلك أن يحدث هزّة سياسية كبيرة في البلاد التي بشّرت بقيم الحرية والمساواة والإخاء منذ أزيد من مئتي عام.

فهذا التنظيم قد يتبنّى سياسات أكثر صرامة مع الهجرة والمهاجرين، فضلًا عن احتمال تضاعف الخطابات والأعمال العدائية تجاه المواطنين والمقيمين المتحدرين من ثقافة مسلمة، كالتحرش، والعنف المعنوي، والاعتداءات الجسدية.

وهو أمر بدأت بوادره تلوح من خلال أعمال عدوانية يقدِم عليها، من حين لآخر، نشطاء محسوبون على اليمين المتطرف، غير أن الإعلام لا يوليها الاهتمام اللازم.

لقد أصبح لخطاب اليمين المتطرّف تأثيرٌ واضحٌ على النقاشات العامة؛ فوسائل الإعلام شرعت- في غالبيتها، ومنذ فترة ليست بالوجيزة- في توجيه النقاش نحو المواضيع ذات الصلة بالأمن والهُوية والقيم.

كما يحاول هذا التيار الاستيلاء على العلمانية وجعلها هُوية وطنية مسجلة باسمه، ولا يفوّت أي مناسبة للتباهي بذلك، وهو ما يعتبره البعض إساءة وقفزًا (récupération) على قيمة إنسانية خرجت من رحم فلسفة الأنوار التي مجّدت الإنسان بغض النظر عن عِرقه أو دينه أو لونه.

لقد بات واضحًا اليوم أن العيش المشترَك أصبح مهدَّدًا أكثر من أي وقت مضى. فالتنميط والتهميش اللذان يتعرضان لهما شباب الضواحي يؤديان إلى ردود فعل عدوانية، في ظل غياب سياسة مدروسة تضمن اندماجًا حقيقيًا في المجتمع الفرنسي، الذي يتميز بتنوعه وتعدّده، وهو ما لا يريد اليمين الاعتراف به.

إذ إنّ هذا الأخير لا يقبل بغير اندماج يتماهى بشكل كامل ومطلق مع الهُوية الفرنسية دون أن يترك للآخر الحق في الاحتفاظ بموروثه الثقافي والحضاري على نحو يضمن توازنه النفسي.

في ظلّ هذه الأوضاع المعقدة، يبدو أن الناخب الفرنسي في أمسّ الحاجة إلى بوصلة ووضوح في الرؤية حتى يتسنّى قطع الطريق على التوجهات المتطرفة.

تواجه فرنسا- اليوم- خطرًا مستقبليًا محدِقًا، ما لم تقرّر إدارة تنوعها بشكل عقلاني، جدّي وحكيم على نحو يضمن التعايش المشترك وقيم الحرية والعدالة والإخاء والمساواة التي ثار من أجلها الشعب الفرنسيّ في 14 يوليو/ حزيران من عام 1789.

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.