أُلفة الدم والتطبيع مع القتلة في الأفلام والحياة

(مواقع التواصل الاجتماعي)

أُلفة الدم والتّعاطف مع القتلة من أخطر الأدوار، غير المقصودة، للآداب والفنون. القتل بالأسلحة الذكية والكيماوية محدّد الهدف. والقتل بالمسدس وبالمخدِّرات محدد أو عشوائي. تاجر المخدِّرات ربما لا يقربها، ويريح ضميره بالتديّن، وبأنه يجهل ضحاياه.

كمال، تاجر المخدِّرات- (الممثل نور الشريف)، بطل الفيلم المصري «العار» (1982)- حظي بتعاطف المشاهدين. أشفقوا عليه، وكادوا يمدون أيديهم إلى الشاشة يطيّبون خاطره؛ لضياع «شقاء عمره». تعاطفٌ أخطأ أخوَيه: الطبيب الذي أصيب بلوثة، ووكيل النيابة الذي انتحر. سعيد مهران أدركه حظٌ من هذا التعاطف، لدى قرّاء رواية نجيب محفوظ: «اللص والكلاب»، ومشاهدي فيلم كمال الشيخ. سعيد مهران قتل أبرياء، وتُرجم التطبيع معه بإمداده بالسلاح وبالحب.

سعيد مهران متمرد جائع للانتقام. لصٌّ تآمر عليه صديقه وزوجته. هل تسوّغ الخيانة للمجرم قتل شركائِه؟ وفي السنوات الأخيرة تتبنى أعمالٌ فنية- ولو من غير قصد- مفاهيمَ انتقامية تنتهي بألفة الدماء واستئناس القتلة، وتطبيع وجودهم في المجتمع غير مثقلين بالشعور بالإثم، بدلًا من التطهر من الجريمة بنيل العقاب العادل. هل تتحقق غاية شريفة بوسيلة غير شريفة؟

لعل الفيلم الأميركي «جوكر» ذِروة هذا النزوع- وقبل فوز بطله خواكين فينيكس بجائزة الأوسكار (2020)- كان قد نال جائزة الجمهور عبر العالم. وفي مهرجان الجونة السينمائي السادس (14 -21 ديسمبر/ كانون الأول 2023)، عرضت أفلام تطبّع عملية القتل. أكتفي بالفيلمَين: السوداني «وداعًا جوليا»، والفرنسي «دوجمان».

خطورة نسف المسافة بين الواقع والخيال

رؤية قاتل، في فيلم، لا تمحو المسافة بين الواقع والخيال. هناك اتفاق ضمني على أن ما نشاهده «تمثيل». والخطورة في نسف هذه المسافة، وعدم معرفة أي منهما يقود الآخر. وكارثة الفن، بطغيان سحره، إذا امتلك شيئًا من الإلهام الإجرامي. إنه إلهام عابر للأزمنة والثقافات. من كان يظن أن يكون مايكل كورليوني- (الممثل آل باتشينو) في فيلم «الأب الروحي»- ملهمًا لصدام حسين؟

أصدّق السيدة، ضيفة صدام في سنوات الحصار، وقد أخبرتني أنها سألته: «لماذا قتلت صِهرَيْك؛ زوجَيْ ابنتيك؟». لعلها الكائن الوحيد القادر على طرح هذا السؤال، ولعل الرجل المهيب شعرَ بصدقها؛ فأجابها بدلًا من أن يُلحقها بالصهرَين: صدام كامل، وشقيقه حسين.

السؤال مفاجئ، والإجابة صريحة. اعتداد الرجل بنفسه منعَه أن يميل إلى دبلوماسية تعفيه من المسؤولية. الكلام عفوي، ويتأكد لصدام أنها لن تبوح به، على الأقل ما دام يحكم العراق، وهي حدثتني بالإجابة بعد الغزو الأميركي للعراق، 2003، ولا أتذكّر بالضبط قبل القبض على صدام أو خلال محاكمته.

في كل الأحوال كان صدام قد انتهى، ومعه العراق إلى حين. إجابة صدام تفيد بأنه كبير العائلة، عائلة المجيد. وفي الأزمات تتقدم العشيرة ويتوارى الوطن. حتى رئيس الدولة يحتكم إلى قوانين أرباب العائلات. قال للسيدة: أحيانًا تفرض الضرورة على العائلة أن تضحّي بفرد خائن من أجل تماسكها. وسألها: ألم تشاهدي فيلم «الأب الروحي»؟  سؤال دالّ على أسوأ الآثار الجانبية للأفلام.

حسين كامل وشقيقه صدام ابنا عم صدام حسين. الأول انتهى صعوده السريع وزيرًا للتصنيع العسكري، والثاني أصبح مسؤولًا عن الحرس الخاص بالرئيس. وتمكنا عام 1995 من الفرار إلى الأردن بصحبة زوجتَيهما، وأعلنا الانشقاق عن النظام، ومنحهما الملك حسين لجوءًا سياسيًا. وفي فبراير/ شباط 1996 نالا عفوًا رئاسيًا، وتعهد صدام بألا يمسّهما سوء.

الوطن أم العائلة؟ ذلك هو السؤال. لم يكن للوطن، بعد عودة الصهرَين، فائدة في قتلهما. صدام صريح، لم يذكر للسيدة إلا التماسك العائلي، بالتضحية بعضو تقرر أنه فاسد. صدام اهتدى بآل باتشينو، في نهاية الجزء الأول من «الأب الروحي»، انتقم من أعدائه، ونظّف العائلة من الخونة فقتل زوج شقيقته.

جسور للتطبيع مع القاتل

التطبيع العائلي مع القاتل، مايكل كورليوني، أخذ وقتًا. في نهاية الجزء الأول من «الأب الروحي»، تصرخ كوني، (الممثلة تاليا شاير)، في أخيها مايكل، تواجهه وتتهمه بقتل زوجها، فيطلب طبيبًا يعالج انهيارها العصبي.

وفي الجزء الثاني يأخذها النزق بعيدًا عن العائلة، طيش للهروب والنسيان. ويحكم مايكل قبضته على شؤون العائلة، ويقرر التخلص من أخيه فريدو، (الممثل جون كازال)، لخيانته العائلة، وتفضيله أحد أعدائها. وفي الجزء الثالث تنسى كوني قتل أخيها زوجَها، وتستبدل بألمها الشخصي القديم إيمانًا بالعائلة، حتى إنها توفر غطاء أخلاقيًا لمايكل، قائلة: إن «موت» شقيقهما فريدو من إرادة الله، وتقتل العم ألتوبيلو، (الممثل إيلاي والاك)، بدسّ السمّ في الحلوى.  من الذي لا يحب مايكل كورليوني؟

كلنا تقريبًا نحبه. ولو كرهنا الشخصية لأشدْنا بقدرة آل باتشينو على تقمّص تحولات الشخصية الدرامية، من شاب وديع إلى وحش يجيد فنون الانتقام. تأسرني شخصيته، حتى إنها احتلت مساحة كبيرة من مقال لا يستهدف الاستعراض «التاريخي» السابق على أفلام مِهرجان الجونة 2023. أي مِهرجان مرآة لمشهد إنساني أكثر عمقًا من أفلامه، وليس مصادفة أن توجد في هذا المِهرجان أفلام أجنبية وعربية توطّن القاتل، وتمدّ جسور التطبيع معه. الفن، بهذا المعنى، يرسخ اعتياد القتل، واعتباره وجهة نظر مصحوبة بأسباب وقوعه. في قسم «نافذة على فلسطين» عرض فيلم «الأستاذ» للفلسطينية فرح نابلسي. متوقع وجود مستوطن صهيوني قاتل تبرّئه المحكمة، المحكمة لا «العدالة».

حتمية الانفصال

ويحمل الفيلم السوداني «وداعًا جوليا»، لمحمد كردفاني، دلالة لم يتوقّف أمامها أحد، في حدود متابعتي. يبدأ الفيلم بأحداث شغب، بعد مقتل الزعيم الجنوبي جون قرنق النائب الأول للرئيس السوداني عمر البشير، في نهاية يوليو/ تموز 2005، وينتهي بعد الاستفتاء على انفصال جنوب السودان عام 2011.

كان سلفاكير، في تلك الفترة، يتحدث عن الوحدة الجاذبة، أما الفيلم فيؤكد بالدراما حتمية الانفصال. ففي الخرطوم، حيث تدور الأحداث، مظاهر تؤدي إلى اختيار الجنوبيين الانفصال. الجنوبيون فقراء أُميون، والدولة غائبة، ولا يصيبهم نصيبٌ من العدالة الاجتماعية إلا إحسانٌ مرتبطٌ بتكفير الذنب، تجسده المغنية المعتزلة منى، (الممثلة إيمان يوسف)، نحو جوليا الجنوبية، (الممثلة سيران رياك).

حرمان جوليا المسيحية من حقوق المواطنة، يقابله حرمان نوعي لمنى، وقد أجبرها زوجها أكرم، (الممثل نزار جمعة)، على التخلي عن الغناء، ويراقب سلوكها. أكرم متديّن، ذو نزعة عنصرية استعلائية على الجنوبيين. وحدث أن صدمت منى بسيارتها طفلًا وهربت، فطاردها أبوه بدراجته النارية. وصلت إلى البيت، ولم ينتظر زوجها معرفة سبب المطاردة، فسارع إلى إطلاق النار على الجنوبي، وبنفوذه ومساعدة جاره يثبت أن القتل دفاع عن النفس.

لكن الزوجة تشعر بالذنب، فتفتعل مصادفة لمساعدة جوليا، ثم تأتي بها. منى تقنع زوجها بإقامة جوليا في البيت كخادمة، ثم تلحق ابنها بمدرسة وتتكفل بالمصاريف. ويستنكر الزوج تباسطها مع جوليا: «جوليا خادمتك وليست صديقتك!».

غليان صامت

كرست السينما المصرية منطقًا شعبويًا يقول: «كلنا ضحايا». مفهوم مراوغ يمثّل للمخطئ حصان طروادة، يعفيه من الشعور بوطأة الجريمة. هنا قاتل يعرف أنه قاتل، وزوجته تعلم أنه يعلم أنه قاتل. في لحظة صراحة تواجه زوجها بأن القتل لم يكن دفاعًا عن النفس، وتسأله لماذا لم يطلق النار في الهواء أو على قدم الجنوبي؟

وفي الوقت نفسه كانت جوليا تتظاهر بالبحث عن زوجها «الغائب»، وهي تعرف أنها تقيم كخادمة في بيت قاتل زوجها. غليان صامت، مكبوت، ينتظر لحظة انفجار، وقد جاءت عبر صناديق الاستفتاء على الانفصال. جوليا التي تعلمت الكتابة رفضت الانفصال، أما ابنها الصبي «داني» فارتدى الزي العسكري وحمل السلاح.

في مِهرجان الجونة السينمائي منحت مجلة فارايتي الأميركية مخرج فيلم «وداعًا جوليا»، محمد كردفاني جائزة أفضل موهبة عربية في الشرق الأوسط. وفي ختام المهرجان فاز الفيلم بجائزة سينما من أجل الإنسانية؛ (جائزة الجمهور).

فيلم «من أجل الإنسانية» يحمل مغزى خطيرًا، يسمح للقاتل بالعيش في سلام، بينه وبين نفسه، ومع أهله وجيرانه، وبين أصحاب الدم العاجزين عن تحمل تكلفة التقاضي، في ظرف عام ضاغط لا يسمح للفقراء بهذا «الترف».

المشيدون بالفيلم اهتموا بالقضايا الكبرى: الوحدة والانفصال، الثراء والفقر، الحرب الأهلية في غياب معنى الدولة. وفي الغبار الناتج عن هذه الحرائق غاب البعد الإنساني، وحمل الفيلم رسالة لا تستبعد التطبيع مع القاتل.

التصفيق للقاتل!

وفيلم «دوجمان» أكثر خطورة من «وداعًا جوليا». للمرة الأولى، بعد حضور العشرات من مِهرجانات السينما، أشاهد فيلمًا مرتين.

الفيلم، الذي كتبه وأخرجه الفرنسي لوك بيسون، ساحر، يدعو المشاهد إلى التصديق، إلى ما بعد التعاطف، إلى التصفيق لقاتلٍ عذرُه الوحيد أنه عانى ظلم الأب وقسوة الأخ الكبير. كلاهما؛ الأب والأخ، شارك في نبذ الصبي دوجلاس، وحبسه في قفص الكلاب، حتى إن أباه أطلق عليه النار، وهو في القفص، ولم ينقذه إلا كلاب فضّل صحبتها على أسرته. الرصاصة أصابته بشلل الساقَين، فخرج من قفص الكلاب إلى قفص الكرسي المتحرك. وحكم بالسجن على الأب والأخ، وسرعان ما انتحر الأب، وقضى الأخ ثماني سنوات.

خرج من السجن، فانتظرته كلاب دوجلاس، (الممثل الأميركي كاليب لاندري جونز في أداء استثنائي). قتْل الأخ ليس كافيًا للانتقام، فيطلق كلابه لسرقة الأثرياء؛ بحجة إعادة توزيع الثروة، ويتكرر تكليف الكلاب بمهام إجرامية كالقتل، وعادلة أحيانًا لردع بلطجي عن إزعاج أرملة.

جرْح دوجلاس غائر، لم يعالجه حب عابر من فتاة علمته القراءة، وحببت إليه أعمال شكسبير فحفظ مسرحياته، واستطاع أداء الشخصيات، وقدم فقرات غنائية في ملهى.

فيلم كبير ثمرة فلسفة يحملها حوار مكتوب بدقة وإقناع، وبين قوسَي البداية القاسية، والنهاية المتفائلة ينسى المشاهد أن القتل ليس له اسم إلا القتل. وينتهي الفيلم بدوجلاس في ساحة، يفرد ذراعَيه على خلفية ظلٍّ لصليب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.