غزة وسؤال اليوم التالي؟

الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (يسار)، وشيمون بيريز (وسط)، وإسحاق رابين يعرضون جوائز نوبل للسلام في ديسمبر 1994، السلام الذي تبخّر بسبب قضم إسرائيل المزيد من الأراضي ومعاناة الفلسطينيين (غيتي)

قبل أن تنتهي أربعٌ وعشرون ساعة على ما حدث في السابع من أكتوبر، سارعت واشنطن ومعها إسرائيل إلى الحديث عن اليوم التالي، بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، بطريقة التفكير نفسها مع تطورات أخرى في منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين والتي تقوم على حذف الآخر.

بدأ الحديث بالتركيز على غزة بدون حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ثم تطور المشهد إلى غزة بدون السلطة الوطنية الفلسطينية، التي قامت بموجب اتفاق أوسلو أو ما سُمي بإعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل أو اتفاق "غزة- أريحا" للحكم الذاتي الفلسطيني في العام 1993، وهو خيار الحكم الذاتي الذي قبلت به إسرائيل، ومعها المجتمع الدولي آنذاك.

تسعى هذه المقالة إلى تحليل السيناريوهات التي يجري طرحها لمستقبل غزة، ومدى إمكانية نجاحها في ظل الوضع الفلسطيني والإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك منطق الاستقطاب الذي يشير إلى حالة من التصدع في المشهد الدولي.

مستقبل غزة السياسي

رغم أن الحديث عن مستقبل غزة السياسي برز إلى مقدمة النقاشات بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، إلا أن ذلك ليس دقيقًا بالضرورة. فمنذ العام 2007 ومستقبل غزة مثار اهتمام صامت إسرائيليًا وإقليميًا.

منذ سيطرة "حماس" على القطاع- في العام 2007 في أعقاب الانتخابات التشريعية للعام 2005- بدا واضحًا تصدُع مشروع السلطة الفلسطينية أو "غزة- أريحا"، كما بدا واضحًا صعوبة إعادة السلطة الفلسطينية في ظل الانقسام الفلسطيني الذي تعزّز بسبب عوامل إقليمية ودولية.

وجد اليمين المتطرف في إسرائيل- بقيادة بنيامين نتنياهو- في ذلك فرصة لتمرير مخططاته التي تستند إلى رفض كلي لمشروع أوسلو، من هنا بدأ رواج مقولات من قبيل لا يوجد "شريك فلسطيني للسلام"، وأن السلطة لا تختلف عن "حماس"، من حيث إنهم جميعًا أعداء يريدون فلسطين التاريخية، وإنهم يتبعون في سبيل ذلك تكتيكات، وليسوا مخلصين في السلام مع إسرائيل.

وخلال حوالي 17 عامًا، تم إضعاف مشروع السلطة في الضفة الغربية، ومرّ في مراحل؛ أهمها: محاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم قتله في ظروف غامضة، ثم التدمير الممنهج لمؤسسات السلطة، وإضعافها اقتصاديًا وسياسيًا، وتحويلها إلى مزود للخدمات الأمنية لدولة الاحتلال.

استثمار في الانقسام

في السياق ذاته، استمرت "حماس" في إدارة شؤون القطاع في ظل حصار اقتصادي محكم يراقب دخول الإبرة إلى القطاع، ومع مرور السنوات ترسخت جملة من الحقائق:

الأولى: أن السلطة الفلسطينية يجري إضعافُها إسرائيليًا وحتى أميركيًا.

الثانية: تسعى إسرائيل إلى استثمار كبير في الانقسام الفلسطيني، وإقامة واقع جديد يستند إلى توسيع المستوطنات، وزيادة دعم المستوطنين؛ بحيث يصبح عمليًا من الصعب أن يكون هناك سلطة فلسطينية؛ في ظل تغيير المعادلة السكانية، وبالتالي الدفع بخيار التهجير القسري، وإنهاء مشروع التحرر الفلسطيني برمته.

الثالثة: الدفع بأولوية التطبيع مع دول عربية بعيدًا عن البعد الفلسطيني، بحيث يتم دمج إسرائيل في المنطقة دون أن تقدم تنازلات للفلسطينيين الذين هم تحت الاحتلال. بهذا يتحول الفلسطينيون وقضيتهم إلى عبء على دول المنطقة، وهو الأمر الذي تريده إسرائيل، ومعها شركاء آخرون في هذا العالم.

سيناريوهات غزة والعودة إلى " روابط القرى"

في الأسبوع الأول من الحرب الإسرائيلية على غزة، أخذت سيناريوهات غزة ما بعد الحرب الإسرائيلية تتزايد.

فقد بدأت واشنطن تتحدث عن عودة السلطة وإحيائها في القطاع، لكن هذا المقترح أخذ يتراجع أمام الرفض الإسرائيلي الذي يبدو أنه أصاب التصور الأميركي في مقتل، حيث بدأت واشنطن تتحدث عن أن محمود عباس والسلطة في الوضع الحالي لن يكون بمقدورهم المساعدة في غزة. وهذا بدوره فتح شهية الطامحين بمنصب رئيس السلطة الفلسطينية. وبدأت التقارير تتداول أسماء من قبيل محمد دحلان، وسلام فياض كقيادات للمرحلة القادمة.

لكن كل هذا يبدو مقترحًا ميتًا قبل أن يولد. وتتزايد القناعة بأن نتنياهو لا يريد للفلسطينيين أكثر من إدارة مدنية محدودة، مقابل تغوّل أمني إسرائيلي كامل. وهذا يعيد مشروع " روابط القرى" الذي بدأ تنفيذه في العام 1978- والذي تم استنساخه من تجربة الانتداب البريطاني السابقة؛ لخلق بديل سياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية آنذاك، تحت عباءة تحسين الأوضاع الزراعية والاقتصادية للفلسطينيين، لكن ذلك في الحقيقة دفعَ إلى تقسيم المجتمع الفلسطيني أكثر.

كما قامت إسرائيل بتسليح البعض مما ساهم في ظهور نوع من المليشيات التي تعمل مع الجيش الإسرائيلي. ثم كانت الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987.

المقترحات التي تركز على حضور دولي أو إقليمي تبدو هي أيضًا في مأزق، حيث إن التصور الموجود حتى اللحظة أن نتنياهو يأخذ الجميع نحو المجهول، وأن دعم أي فكرة تعزز من إفشال أوسلو، سيكون له تبعات إقليمية تتعلق بالمعاهدات القائمة بين إسرائيل، وكل من الأردن ومصر.

كما سيعقد ذلك من الترتيبات الأمنية التي توليها واشنطن ودول أخرى أهمية كبيرة. الأمر المهم في هذا السياق، أنه- وخلال العقدين الماضيين- لم تنجح أي من الحلول الدولية في نزع فتيل أي صراع في المنطقة، بل هي حلول أضعفت الدول، وزادت من حضور اللاعبين إلا الدولة، ولعل الأمثلة في العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان، وأفغانستان، خير دليل.

يمكن القول؛ إن حالة طالبان في أفغانستان مثال واضح على فرض الحلول التي تقوم على تجاهل اللاعبين الفاعلين على الأرض، فبعد حوالي عقدين من الحرب على أفغانستان، وفرض حكومة هشّة، لم تجد الولايات المتحدة إلا خيار طالبان للتفاوض معها تمهيدًا لانسحابها والإذعان إلى أنها أصبحت صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أفغانستان.

من الواضح أن هناك انقسامًا بين إسرائيل وشركائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة حول ما يمكن أن ينجح في غزة، لا سيما مع حالة الغضب لدى العديد من الدول حول ما يجري من إبادة في غزة.

وهذا بدوره يجعل مقترحات بنيامين نتنياهو تواجه تحديات جمة؛ أبرزها: شكل المشهد الإسرائيلي الداخلي، وتأثير هذه الحرب في ذلك.

الأمر المهم في هذا السياق؛ هو أن الطريقة التي ستتوقف بموجبها الحرب في غزة، ستلعب دورًا حاسمًا في شكل الحل النهائي. وهذا من شأنه أن يؤثر على ترتيبات أخرى في المِنطقة برمتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.