الهدن الإنسانية استراحة محاربين أم مقدمة لوقف النار؟

تسليم كتائب القسام الدفعة الرابعة من الأسرى الإسرائيليين في غزة صور خاصة بالجزيرة
تسليم كتائب القسام الدفعة الرابعة من الأسرى الإسرائيليين في غزة (الجزيرة)

استأنفت إسرائيل هجماتها على قطاع غزة شمالًا وجنوبًا، بعد سبعة أيام من الهدن الإنسانية، تبادلت فيها مع المقاومة الفلسطينية عددًا من النساء والقصّر بنسبة ثلاثة إلى واحد.

ومع ذلك، أكد الاحتلال من جديد أنه مستعد لهدنة إضافية، حددها بيوم واحد، فيما لا تزال المقاومة تبدي استعدادها لاستئنافها، ما يعني أنّ هذه الهدن قد تتكرر.

ولا يزال الوسطاء – قطر ومصر- يعملون بالتنسيق مع الولايات المتحدة للوصول لاتّفاقات هدن جديدة بين الطرفين، بعد أن أكدت حماس استعدادها لتشمل هدنًا جديدة، ورفضت عرضًا إسرائيليًا بإطلاق مجنّدات في جيش الاحتلال.

فما هي المدلولات التي انطوت عليها هذه الهدن، وهل أحدثت اختراقًا في منطق ومنهج الحرب لدى الاحتلال؟ وهل تشكل هذه الهدن فرصة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في الأيام أو الأسابيع القادمة؟

مدلولات الهدن

لعل المدلول الأهم في هذه الآلية هو أن الاحتلال لا يمكنه الاستمرار إلى ما لا نهاية في حربه على غزة، وأن القيود الدولية على القوة المفرطة ستظل تعمل بصرف النظر عن تقدم الحرب أو تطورها، فضلًا عن استحقاقات إخفاق القوة العسكرية الإسرائيلية في تحقيق الإنجازات أو استعادة كرامة الكيان المستباحة في هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

فقد اعتبر الاحتلال أنه يخوض حربَ استقلال جديدةً- كالتي خاضتها العصابات المؤسِّسة له عام 1948- وسخّر لها كل قوته العسكرية التقليدية المتاحة، فيما هدد أحد وزراء حكومته باستخدام السلاح النووي ضد غزة!

ورغم كل الحشد والاستنفار الذي نفذه الاحتلال في غزة، وتنفيذه العديد من المجازر البشعة بحق المدنيين- التي أدّت لاستشهاد أكثر من 15 ألفَ فلسطيني، ووقوع الآلاف من الجرحى، وتشريد ونزوح مئات الآلاف، وتدمير جزء كبير من قطاع غزة، وتسويته بالأرض- فإنّ ذلك لم يحقق له ما أراد حتى الآن.

وفي الوقت نفسه، تكبّدت قوات الاحتلال خسائر كبيرة في الأرواح والمعدّات، رغم أنها لم تدخل بعد المدن والمناطق ذات الكثافة العالية في شمال وجنوب غزة.

ولم يعترف الاحتلال إلا بسقوط ما يقارب 80 من جنوده، ولكن صحيفة هآرتس كشفت، نقلًا، عن ناطق عسكري عن سقوط 1000 جريح، بينهم 202 بحالة الخطر.

أمّا المقاومة فقد وثّقت بالفيديو تدمير عدد كبير من الآليات، من بينها مدرعات وناقلات جند، وقتْل وجرْح مَن فيها، الأمر الذي يرجح لجوء الاحتلال إلى إخفاء خسائره.

كما استمر نزوح مستوطني غِلاف غزة الذين يقدرون بالآلاف، ليزيدوا من حجم التكاليف التي يتحمّلها الاحتلال في هذه الحرب، فضلًا عن استمرار شعور مواطنيه في المستوطنات وفي المدن الرئيسية بتهديد صواريخ المقاومة.

واللافت أنَّ حماس عرضت- قبل بدء الحرب البرية نهايات شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي- إطلاقَ سراح المدنيين بحوزتها دون مقابل، ولكن الاحتلال أصرّ على الاستمرار بحملته البرية، وعمد إلى المماطلة بالاستجابة للمطلب الأميركي بالهدن الإنسانية علّه يظفر بصورة نصر يظهرها أمام شعبه قبل الذهاب لوقفات من هذا النوع.

لقد فشل الاحتلال في تحقيق أيّ إنجاز على الأرض، من قبيل اعتقال أو تصفية قيادات المقاومة، أو الاستيلاء على أنفاقها المنتشرة طولًا وعرضًا في القطاع، أو شلّ قدرة المقاومة عن استهداف آلياته ودباباته وجنوده، بل كانت صواريخ المقاومة تنطلق ضد مدن الاحتلال وغلاف غزة من بين أرتال الدبابات والمدرعات، لتثبت فشل الحملة البرية في تحقيق أهدافها.

ورغم الدعم اللامحدود الذي قدَّمته الولايات المتحدة لإسرائيل، فإنّها فشلت في تحقيق هدفَيها المعلنَين: هزيمة حماس والقضاء عليها، وتحرير الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية.

غير أنه، ومع استمرار الصور المروِّعة للهجمات على المدنيين، وركاكة وكذب روايات الاحتلال في تبرير استهداف المستشفيات والمدارس، فقد بدأت صورة الكيان- ومعه الإدارة الأميركية- تهتزّ، فيما بدأ التحالف الغربي يتخلخل أمام الرأي العام الذي انقلب ضد الكيان، وأسفر عن مظاهرات مليونية في بريطانيا، وأميركا الداعمتين الأساسيتين للكيان.

لذلك استفادت الإدارة الأميركية من جهود قطر الدبلوماسيّة ووساطتها بين حماس والكيان الصهيوني لإنجاز اتفاق الهدن الإنسانية، واستغلت ضغط الشارع وعائلات المحتجزين على حكومة نتنياهو، لمطالبتها بالتعامل مع هذا المطلب، خصوصًا بعد إعلان حماس أكثر من مرة أن القصف الإسرائيلي على غزة تسبّب بمقتل محتجزين لديها.

ولأن حماس أدركت أن حكومة نتنياهو وافقت على الهدن الإنسانية تحت ضغط الواقع، فقد بدَّلت خُطتها لإطلاق سراح محتجزيها مجانًا، لتطالب بإطلاق 3 من النساء والأطفال من سجون الاحتلال، مقابل كل امرأة أو قاصر تطلقه، كما نجحت في إقناع الفصائل الأخرى مثل الجهاد بالمشاركة في الصفقة، وهو ما تمّ.

وما من شك في أنّ حماس -كقيادة للمقاومة- كانت معنية جدًا بالهدن الإنسانية، فهي ليست في سعة من خياراتها. ورغم أنَّ المقاومة لم تتضرر بشكل كبير من ضربات الاحتلال، فإنّ هؤلاء المحتجزين شكلوا عبئًا عليها، فضلًا عن أن الخسائر البشرية وصور الدمار والخراب التي يتسبب بها القصف الإسرائيلي تضر بحاضنتها الشعبية والتفافها حول المقاومة.

ولذلك فهي ملزمة بالسعي للتخفيف عن الفلسطينيين باستخدام أوراق القوة التي تملكها، لدفع الكيان الصهيوني للسماح بدخول المزيد من المساعدات الإنسانية والوقود للقطاع المحاصر، وهو ما تم تضمينه باتفاق الهدن الإنسانية، ولكنه مع ذلك بقي أقلَّ من المطلوب!

كانت صحيفة "بوليتيكو" نقلت عن مسؤولين أميركيين، أنّ الرئيس جو بايدن لن يفرض قريبًا أيَّ قيود على المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، وذلك ردًا على طلب عددٍ من المشرّعين الأميركيين من البيت الأبيض بأن يربط تدفق المساعدات العسكرية لإسرائيل بالتزامها بالقانون الدولي

وخلال عمليات التبادل، قدّمت المقاومة صورة إنسانية في التعامل مع الأسرى، وأظهرت المقاطع المصورة أثناء تسليمهم للصليب الأحمر صورًا للتعامل الراقي.

وقد خرج هؤلاء بروايات إيجابية عن حسن المعاملة خلال الأسْر؛ ليمحو ذلك الصورة الكاذبة التي روّجها إعلام الاحتلال منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ، بإظهار مقاتلي المقاومة بأنهم يقتلون الأطفال ويقطعون رؤوسهم ويغتصبون النساء.

وبعد ظهور أكثر من رواية للأسرى بهذا الخصوص، عمد الاحتلال لمنع أيّ محتجز مفرج عنه، من الحديث المباشر في الإعلام.

وبالإضافة إلى 97 محتجزًا من الإسرائيليين، أفرجت المقاومة عن عدد من الإسرائيليين الروس؛ لمكافأة روسيا على موقفها المتقدم، بما في ذلك منع إدانة حماس في مجلس الأمن الدولي.

كما تم الإفراج عن عدد من العمال التايلنديين، على اعتبار أنهم غير متورطين في الصراع، وجاؤُوا للكيان للعمل. وفي المقابل تمّ إطلاق ما يماثل ثلاثة أضعاف الإسرائيليين من سجون الاحتلال من فئة النساء والقصَر، ومنهم بعض الأسرى من فلسطينيي 48.

حرب أم وقف النار؟

ورغم رغبة الاحتلال في تحقيق صورة نصر في غزة، وتمتعه بدعم الشارع المتعطش للانتقام، فلا تزال هناك فرص لتمديد الهدن الإنسانية لحاجة الطرفَين لها، غير أنّ الأهم هو مدى إمكانية تطور هذه الهدن إلى وقف شامل لإطلاق النار؟ وكيفية الوصول إليه؟

لا بد من الإشارة إلى أنّ الأجواء التي فرضتها الهدن الإنسانية ستهيئ المناخات للضغط باتجاه وقف دائم لإطلاق النار. فالبنسبة للإسرائيليين الذين يدعمون حكومتهم في حربها على غزة، فإنهم رأوا أن جزءًا من أسراهم عادوا في ظل هدنة، وأنّ الاستمرار في ذلك وصولًا لوقف إطلاق النار سيعيد لهم ما تبقى من الأسرى أكثر مما ستفعله الحرب.

لقد باتت الحكومة الأميركية أكثر تفهمًا لأهمية الهدن الإنسانية، حيث أرسلت رئيس مخابراتها المركزية (سي آي إيه) للدوحة للتفاوض مع الموساد والمخابرات المصرية بحضور الحكومة القطرية حول صفقة محتملة لوقف إطلاق النار.

كما أرسلت رسائل مباشرة، وفي الإعلام لحكومة نتنياهو بأنها تتوقع حربًا أقل حدة في استهداف المدنيين، الأمر الذي يشير لضجرها من سلوك حكومة المتطرفين، واضعة نصب عينَيها ردود الفعل المتعاظمة عالميًا والمناهضة للحرب، وتأثيرات ذلك السلبية على حجم التأييد للرئيس الأميركي جو بايدن وحزبه الديمقراطي.

وكانت صحيفة "بوليتيكو" نقلت عن مسؤولين أميركيين، أنّ الرئيس جو بايدن لن يفرض قريبًا أيَّ قيود على المساعدات العسكرية الأميركية لإسرائيل، وذلك ردًا على طلب عددٍ من المشرّعين الأميركيين من البيت الأبيض بأن يربط تدفق المساعدات العسكرية لإسرائيل بالتزامها بالقانون الدولي.

ولكن يلاحظ أنّ الموقف الأميركي- الداعم بلا تحفظ لإسرائيل- مرتبط بمدة زمنية قصيرة، إذ سيبدأ عدّاد الوقت بالنفاد مع اقتراب إطلاق حملة الانتخابات الأميركية، التي تريد إدارة بايدن دخولها بعد تحقيق نجاح في إنجاز الهدوء في المنطقة.

كما أنّ إدارة بايدن تتخوف من اندلاع حرب إقليمية في حالة استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة، تتورط فيها الولايات المتحدة.

وقد نقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، عن مسؤولي الأمن القومي أنّهم يخشون أن يؤدي سوء التقدير بين واشنطن وطهران إلى صراع إقليمي، لا تريده واشنطن؛ لأنه سيصرفها عن تركيزها على الصين وروسيا.

تعقيدات صفقة التبادل

وما دام أن وقف إطلاق النار يتطلب موافقة طرفي الصراع، فمن الجيد التذكير بأن حكومة نتنياهو أصبحت أكثر قناعة بأنها لن تتمكن من إنهاء حركة حماس، كما كانت تتوعد. ويُستدَل على ذلك من عدد من التصريحات لمسؤولين إسرائيليين تؤشر على التراجع عن التمسك بهدف إنهاء حماس، لصالح هدف إضعاف قدراتها السياسية والعسكرية، وصولًا لقيامها بالتفاوض غير المباشر معها على الهدن الإنسانية!

وقد أكد مندوب الاحتلال في جلسة لمجلس الأمن في  نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 على هذا التراجع، حينما قال: "هذه الحرب يمكن أن تنتهي غدًا، أو حتى اليوم، إذا أعادت حماس جميع الرهائن، وسلمت جميع الإرهابيين الذين شاركوا في مجزرة 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. يمكن التوصل إلى هدنة حقيقية تدوم لعقود. أطلب ذلك من حماس، هذا هو الحل".

غير أن قوات الاحتلال تسعى الآن لتحقيق أي إنجاز ينزلها عن الشجرة، مثل اغتيال رموز في المقاومة، وعلى رأسهم رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار، إذ إن التركيز عليه -في تصريحات نتنياهو ووزير دفاعه- يعد محاولة لإظهار أن التمكن من قتله سيشكل انتصارًا كبيرًا لإسرائيل وتحقيقًا لأهدافها.

هذا مع أن كل تجاربها السابقة تدل على عدم تمكنها من تحقيق أهدافها باغتيال رمز للمقاومة أو حتى باغتيال كل قادتها، ذلك أن حماس حركة وفكر وتيار عريض متجذر في الأرض، وله أتباع ومؤيدون في العالم أجمع، وأن هناك أجيالًا قيادية ستحل لا شك محل من يتم اغتيالهم.

في الطرف المقابل، فإن هدف حماس بتبييض سجون الاحتلال عبر مبادلة أسرى الاحتلال بهم، لن يتم إلا بوقف النار وانسحاب قوات الاحتلال وفك الحصار المطبق عليها. وإن كان أبوعبيدة الناطق باسم كتائب القسام، قد أشار إلى إمكانية الإفراج عن الأسرى دفعة واحدة أو على دفعات، فليس من المتوقع أن تكتفي حماس بصفقة المبادلة وتقبل باستمرار الاحتلال والحصار، إذ إن ذلك يتناقض مع نظرتها للمكاسب التي حققتها هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

لذلك، تنطوي قصة التبادل الشاملة على الكثير من التعقيدات، ويصعب التكهن بالصيغة والظروف التي ستنتهي إليها، وإن كانت المؤشرات تدلّ على فشل العدوان الصهيوني في تحقيق أهدافه بعد قرابة الشهرَين من عدوانه على غزة، بما يجعله عرضة للتراجع والتنازل والقبول بشروط المقاومة، خصوصًا مع استمرار صمود المقاومة، وتراجع زخم الدعم الأميركي والأوروبي للعدوان.

ويبقى التساؤل مطروحًا حول الشروط التي سيتضمنها وقف إطلاق النار، وما إذا كان ذلك سيشكل نهاية الاحتلال الإسرائيلي لغزة أم لا، وما يترتب عن ذلك من شكل الحكم في غزة، ودور الأطراف الفلسطينية، وربما غير الفلسطينية فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.