الشهيد سامر أبو دقة وكاميرته المقاومة بامتياز

أقارب وأصدقاء يودعون جثمان مصور الجزيرة سامر أبو دقة، الذي قُتل أثناء عمله في غارة جوية في خان يونس يونس (غيتي)

لعلّ البؤرة الأهمّ والمذهلة والملهمة والمشرقة- فيما سمعناه عن شخصية الشاهد بحق على القضيّة، والشهيد بجدارة في صراع المخرز والكفّ سامر أبو دقّة- هي اختياره المكان الملتهب بالقصف والدمار- المكان الذي تنتشر فيه رائحة الموت والرعب الملتحم بالنار والدم- على مكان آمن ومستقر، تتوفّر فيه كل سبل العيش الرغيد والسّعيد المسمّى بلجيكا.

الحسابات الذاتية الخاصّة والرغبات الشخصيّة الراتعة بكلّ ملذّات هذه الحياة تختار الخيار الثاني، ولكن لا شيء يعدل حبّ الوطن، كما قال شوقي، غلبت كفّة الوطن عند سامر وزاغ عن قلبه كلّ شيء سوى ذلك.

حالة التفاني هذه لم تكن عادية أو شعارًا نظريًا يقال في الرخاء، ويختفي في وقت الشدّة، وإنما كانت الثبات بقناعة راسخة رسوخ الجبال، والتعبير عنها بتطبيقات عملية على محكّ صعب، بل في أقسى درجات الصعوبة، وهذا ما ترجمه من خلال الكاميرا المقاوِمة، الكاميرا التي يسخّرها صاحبها أعظم تسخير، ويجعل منها أداة من أهم أدوات المقاومة.

كان لكاميرا سامر نصيب كبير في هذا الفضح لحقيقة الاستعمار، فساهمت مساهمة عظيمة في اكتمال الصورة، ورفع كلّ حجب الزيف والادعاء عنها، لذلك أغاظ أعداء الحقّ

سامر ردّ على الأراجيف الصهيونيّة بقدرته العالية على التقاط الصورة المعبّرة عن واقع الحال، والمتضمّنة رسالة وروح القضيّة المحقّة العادلة، والقادرة على مواجهة ظلمات روايتهم المنكَرة الباطلة، بصورة احترافية، ومن عمق الهولوكوست الصهيونية التي نُصبت للشعب الفلسطيني، من هناك تخرج الصورة لسامر فتضيء سماء الكون، ولتضرب جحافل المعتدين، وتخلخل أسسهم الضيّقة.

جاء السابع من أكتوبر بعزّة مفعمة بكلّ المشاعر النبيلة والإرادة المنتصرة، وبروح قوية عالية، بعنفوان الحق في مراغمة الباطل، والقدرة على تحقيق الكرامة الوطنية الخالدة، فشقّ طريقه لقلوب الأحرار، ليسكن هناك في أعماقها.

انتابت الناس نشوة عزيزة سامية وحلّقت بهم في علّيين بالسماوات السبع، وكان لا بدّ من الكاميرا الحيّة التي تلتقط هذا المشهد العظيم، ثم تكالبت الدنيا على هذا النبض العالي بحرب ضروس لا تبقي ولا تذر.

جاءت أميركا بقضّها وقضيضها، ومن يلف لفّها من دول استعمارية غاشمة، مارست الاستعمار وما زالت تمارسه بطرق ملتوية ناعمة تارة، وخشنة تارة أخرى بما يقتضيه الحال والمآل، وقفت الكاميرا لترسم هذا الوجه القبيح، ولتزيل عنه كل الزيف والادعاء.

وكان لكاميرا سامر نصيب كبير في هذا الفضح لحقيقة الاستعمار، فساهمت مساهمة عظيمة في اكتمال الصورة، ورفع كلّ حجب الزيف والادعاء عنها. لذلك أغاظ أعداء الحقّ فكان لهم أن يستبيحوا دمه، وأن يجعلوه ينزف قطرةً قطرةً، تحوّل من صرامة المادّة إلى نقاوة الروح وطهر السماء، أصبح نورًا يسري في كلّ نور، وروحًا تدخل أرواحنا بسلاسة وجمال ودون استئذان.

ولا بدّ هنا من التنويه بأنّ قيام الجيش الإسرائيلي باغتيال الصحفي المصوّر في قناة الجزيرة، فإنه يرتكب جريمة مركّبة؛ أي عدة جرائم في جريمة واحدة:

  • أوّلًا: القتل عن سبق الإصرار والترصد؛ كونه فلسطينيًا مدنيًّا، وهم بعدوانهم هذا- فيما لا يقبل مجالًا للشكّ- يتعمّدون قتل المدنيين.
  • ثانيًا: كونه صحفيًا يلبس علامات بارزة تظهر مهنته بكل وضوح، وفي ذلك ما فيه من مخالفة قوانين عالمية واضحة في حماية الصحفيين.
  •  ثالثًا: تركه ينزف دون إسعاف ما يزيد على خمس ساعات.
  •  رابعًا: استهداف وتعمد الدور الذي يقوم به؛ حيث إنّ إسرائيل تعتبر نشر صور الجريمة التي تقوم بها يعزّز صورتها المتوحّشة أمام العالم، وبالتالي يصبح سامر هدفًا مشروعًا للقضاء على هذه الصورة، خاصة أنه يعمل لصالح شبكة الجزيرة التي تتميّز بهذا الدور، وبطريقة احترافية عالية.
  •  خامسًا: إصرار الاحتلال على هذا النهج القاتل لصوت وصورة المأساة الفلسطينية، وما يقوم به من جرائم لا حدود لها في الكمّ والنوع، ودرجات الساديّة والتوحّش، وخير مثال قتله شيرين أبوعاقلة، ولامبالاته بالفضيحة المدوّية وحجم الإدانة الهائل لهذه الجريمة النكراء على المستوى العالمي.

لذلك ولغيره، يجب أن يفهم العالم أنّ سامر وغيره من الشهداء ليسوا أرقامًا بل هم بشر لهم حياة كاملة الأركان، كما لبقية البشر، ولهم أسرة وأبناء ينتظرونهم كلّ يوم وكلّ مساء.

ولقد رأينا أبناءه وهم يغنّون بأرقى الألحان الإنسانية النبيلة، ويعبّرون عن لوعة الفراق وشوق اللقاء، وقد رأيناهم بعد الشهادة، وقد تقطّعت بهم السبل، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، لم تسع الأرض أحزانهم واحتاجت إلى سعة السماء، لولا يقين برحمة ربّ غفور، لما استطاعت هذه القلوب المكلومة أن تحمل أثقال هذه الأحزان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.