هل هي حرب بين الضعفاء والأقوياء؟ عن معاني النصر والهزيمة في غزة

أطفال غزة ٢
تمادي أميركا في القبول بمشاهد الإبادة والتهجير والتجويع لشعب بأكمله يدل على إفلاس عقلي مبين (غيتي)

تدلّ لفظة "معنى" (sense) في سياقها التداولي اللغوي الغربي على معاني: "الوجهة" و "الطريق"، مثلها مثل لفظة "المقصود" في اللغة العربية، التي تحيل بدورها إلى القصد والمشي في اتجاه معين.

وبهذا يكون طالب المعنى كمن يطلب تحديد وجهة الحركة والفعل؛ كما يكون فاقد المعنى على الحقيقة فاقدًا للوجهة، لا يدري إلى أين هو ذاهب أو ما هو فاعل؛ أو إن شئت قلت: إن فاقد المعنى هو عند التحقيق إنسان ضالّ، يضل الطريق. والضلال قد يكون قريبًا، كما قد يكون بعيدًا.

وأي دليل على الضلال البعيد أوضح من تمادي إسرائيل – والغرب من ورائها- في الوجهة الخطأ، وهم يصرون على استئصال الإنسان الفلسطيني، وتدمير مقومات الحياة في فضائه ومجاله وفوق أرضه.

من يقرأ رواية "العجوز والبحر" للكاتب الأميركي "إرنست همنغواي" لا بد أن تستوقفه عبارة بطل الرواية "سنتياغو" التي تقول: "إن الإنسان قد يُدَمَّر، ولكنه لا يُهْزم". مفاد هذا الكلام أنه باستطاعتك أن تدمر وتقتل شعبًا، ولكنك لن تستطيع أن تهزمه، بل يكون فيما تعتبره انتصارًا هزيمة لك على وجه التحقيق

بالرغم من كل الجهود التي يبذلها المتفاصحون لتبرير ما يحصل في غزة، تظل مشاهد القتل العشوائي والإبادة الجماعية التي يقترفها الجيش الإسرائيلي في حق أناس عزل، مفتقرةً إلى المعنى؛ بل إن شئت فقل: إن ما يحصل في غزة اليوم يقوم على اغتيال المعنى أساسًا، والتمادي في الغي والضلال، بعيدًا عن المقاصد التي تحددها المروءة، والأخلاق، والدين، والفطرة، والعقل السليم.

إذا كان المعنى المرجو أو الوجهة المقصودة، هو تحقيق النصر من وراء عمليات إسرائيل العسكرية ضد الفلسطينيين العزل، فظاهر جدًا أن هذه العمليات أخطأت الطريق، وابتعدت عن المعنى. فقد فاتَ الساهرين على أعمال التخريب والتدمير الممنهجَين- من الجيش الإسرائيلي – أن للنصر معانيَ يتحقق عندها.

فمتى يُخطِئ الإنسان الطريق إلى هذه المعاني، لا يأمن أن يسقط في معاني الهزيمة الأخلاقية. وهل للهزيمة الأخلاقية معنى آخر غير الإصرار على إظهار القوة في غير موطنها؟، حيث يحسب القوي أن النصر يتحقق مع إبادة الخصوم، ومع رمي الأطفال بالقذائف من السماء، وقتل المستسلم الرافع للراية البيضاء، وقطع الطريق أمام سيارات الإسعاف، وهدم المستشفيات، والتنكيل بالأسرى.

كل هذه الأعمال الشنيعة التي تصدر عن الجيش الإسرائيلي، توضح أن مطلوب إسرائيل إنما هو تحقيق النصر المادي الخالص، دون إقامة أي اعتبار لأوجه النصر المعنوي الأخلاقي.

من يقرأ رواية "العجوز والبحر" للكاتب الأميركي "إرنست همنغواي" لا بد أن تستوقفه عبارة بطل الرواية "سنتياغو" التي تقول: "إن الإنسان قد يُدَمَّر، ولكنه لا يُهْزم". مفاد هذا الكلام أنه باستطاعتك أن تدمر وتقتل شعبًا، ولكنك لن تستطيع أن تهزمه، بل يكون فيما تعتبره انتصارًا هزيمة لك على وجه التحقيق.

ذلك أن الإنسان جسد وروح، مادة ومعنى. فأنت إن أفنيت الجسد، لن تُفني الروح التي تسكن هذا الجسد. قد يُسلّم لك الآخرون بتفوقك المادي، لكنهم لن يُسلّموا لك بالتفوق الأخلاقي، أو بالحق في الريادة على مستوى القيم.

لهذا نجد الفيلسوف الألماني "فريدريش نيتشه" يتساءل في كتابه عن "الإنسان المفرط في إنسانيته" (Menschliches, Allzumenschliches) بخصوص الطريقة المثلى لتحقيق النصر فيجيب: "لا ترغب في النصر إطلاقًا إذا لم يكن في نيتك سوى تجاوز الخصم بشعرة. إن النصر الحقيقي يبعث الفرحة في نفوس المنهزمين ويتوفر على شيء ذي طبيعة ربانية يرفع عن المنهزمين الإحساس بالخزي والخجل".

يُمكِّننا كلام "نيتشه" هذا من تلمس أجوبة لما يحصل في غزة اليوم. فكلما زاد العدوان الإسرائيلي شراسة، زادت روح المقاومة قوة، وذلك لأن لا شيء فيما تقوم به إسرائيل- في سعيها لتحقيق النصر- يعكس تلك الطبيعة الربانية التي تدفع من هو أقل منك قوة إلى التسليم لك بالحق في الريادة الروحية والبطولة الأخلاقية.

من المفارقات العجيبة التي تستوقف المتأمل أن يكون من بين الجهات الإسرائيلية- التي تنادي بإبادة الشعب الفلسطيني وتسعى لإيجاد تبرير لذلك- جهات تحسب على اليمين المتطرف المسنود من طرف الأحزاب الدينية.

هذا يجعلنا في حَيرة من أمرنا، لا ندري كيف تجمع السلطة المشرفة على إدارة الصراع من داخل دولة إسرائيل- الداعية إلى الإبادة والتقتيل- بين الحس الديني، من جهة، وبين الإفراط في الإنسانية، من جهة أخرى!، حيث لا يستقيم أن يكون الإنسان متدينًا فيطلب نوعًا من النصر لا يطلبه إلا الإنسان المفرط في إنسانيته، هذا الإنسان الذي يعميه تأليهه لذاته عن التفكير في الروح، فتراه يتمادى في تدمير الجسد؛ ظانًا أنه بذلك قادر على حسم الصراع.

الحاصل هو أن العدوان على غزة أسقط عن إسرائيل وحلفائها صفة الأخلاق، وجردهم من الحق في الانتساب إلى الأخلاق الدينية؛ ذلك أن الدين، بمعناه النبيل، جاء ليخرج الإنسان من طور البطولة الإنسانية الجسمانية- حيث لا رادع ينهاه عن التمادي في القتل- إلى طور بطولة أخلاقية يتحدد معها المعنى الذي يقف عنده هذا القتل. يظهر لنا هذا المعنى الديني جليًا في قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". تقوم هذه الآية شاهدًا على معنى من معاني الدين السامية التي تخاطب الإنسان، وهو في وسط القتال، محددة له قواعد الاشتباك، طالبة منه الالتزام بالحدود الأخلاقية وعدم الاعتداء.

عبثًا، يلجأ الناطقون باسم دولة إسرائيل إلى ألفاظ مستحدثة، يرومون التفسير العقلي لما يصنعون. فبعد أن سقطت عن إسرائيل صفة الأخلاق المرتبطة بالدين بمعناه العام، نجد حكومتها والدائرين في فلكها يتوسّلون بالعقل لتسويغ ما يقومون به من إجرام مبين. فالعقل عندهم تحول إلى وسيلة لصناعة المعنى وتركيبه.

يظن العاقل أن إسرائيل، بعد عجزها عن إخفاء حقيقة ما يقع من تدمير وإبادة في حق الشعب الفلسطيني، ستجد نفسها مجبرة على تقديم الاعتذار عن سقوط أرواح بريئة وضحايا جانبيين خلال هجومها الشرس من أجل تفكيك المقاومة كما تدعي. غير أننا نفاجأ ببروز خطاب يتوسل بمقولات عقلانية ليبرر المزيد من الشراسة في الهجوم على المدنيين العزل والإصرار على إذلالهم وتجويعهم وقتلهم القتل السريع والبطيء على حد سواء.

يحاول العقل المتحكِّم في إسرائيل اليوم الارتكاز على مقولات يُدخلها في صميم المسلمات العقلية؛ بغية تبرير جرائمه الحربية، وهي مقولات تمتّ للفكر الاستعماري بوثيق الصلة. فما معنى أن يربط هذا العقل بين الانتساب إلى الحضارة وإلى الديمقراطية وإلى العقلانية من جهة، وبين الحق في إجبار الآخرين وإرغامهم على الخضوع وتخييرهم بين الموت أو الاستسلام؟

يدخل هذا الضرب من الخلط في نطاق العقل المجرد الذي يصنع المعنى صناعة، بعيدًا عن مقتضيات الحس الطبيعي السليم؛ مثله مثل العقل الذي يُسوِّغ إتلاف ملايين الأطنان من المواد الغذائية إما حرقًا أو رميًا في البحر؛ تحقيقًا لمصلحة اقتصادية مزعومة، بينما ملايين البشر يتضوَّرون جوعًا ويموتون. لا يسع صاحب العقل السليم، وهو يتأمل في مآلات الاشتغال بهذا العقل المصطنِع للمعنى، إلا أن يردد: "اللهم، إن هذا منكر".

تدرجت إسرائيل- ومن ورائها الاستعمار الغربي- في تحصيل القوة المادية تَدرُّجها في استعمال العقل، فجعلت تتوسل بأحدث الوسائل العقلية في إدارة صراعها مع محيطها، وتبرير ما تقوم به من إجرام. فإسرائيل- كما نرى ذلك من خلال تعاملها مع المنتظم الدولي- لم تعد تكترث بالواقع الموصوف، إثباتًا أو نفيًا لحقيقته؛ فحتى لو اجتمع العالم على إدانة أفعالها- بناء على ما يثبته هذا الواقع- تُصِر هي على اعتماد العقل التكنولوجي وما يتيحه من إمكانات لإخفاء الحقائق، وتزويرها، والتلاعب بالعقول؛ من أجل فرض "واقع مبرمج" تحكمه معانٍ مصطنعة هي أقرب دلالة على الضلال المبين، منها على المعاني الحقيقية.

إن استمرار أميركا في الدفاع عن فكرة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها دفاعًا لا معنى له- وتماديها في القبول بمشاهد الإبادة والتهجير والتجويع لشعب بأكمله- يدل على إفلاس عقلي مبين. نشعر عند التأمل فيما يجري أمام أعيننا أن الاشتغال بالعقل قد بلغ المنتهى الذي صار عنده هذا العقل ضربًا جديدًا من السفسطة التي لا تقيم للحقيقة وزنًا.

وعلى خلاف السفسطة القديمة التي كان أصحابها يمارسون أنواعًا من الدجل والتحايل من أجل إقناع العقول بوجود حقيقة- أي بتطابق بين الواقع وما يقولون- فإن السفسطة الجديدة لا تكترث بتطابق الواقع والحقيقة، بل تعنى ببرمجة الواقع وبصناعة المعنى والحقيقة.

كل شيء يدل على أن المعركة في غزة اليوم لم تعد معركة بين إسرائيل والفلسطينيين، وإنما هي معركة بين المعنى البيّن والضلال المبين، معركة بين الحق والباطل. وواهم من يعتقد أنه باستطاعة القوة الضالة أن تنتصر، وإن كانت القوة المادية في صفها.

لقد ورد في كتاب "هايدي وآلفن توفلر" عن "الحرب وضدها" (War and Anti-War)، أن البشرية مقبلة على ضروب جديدة من الحروب لم تتّضح معالمها الكبرى بعدُ. بعد مرور ما يقرب من ثلاثين سنة، جاءت الحرب على غزة لتوضّح لنا طبيعة هذه الحروب.

إن حرب غزة اليوم هي حرب بين "قوي ضعفه في قوته"، و"ضعيف قوته في ضعفه". فأما ضعف القوي فيكمن في ضلاله؛ وأما قوة الضعيف فتكمن في المعنى الذي يحمله أو المقصد الذي يقصد إليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.