بعد موت الآلاف.. هل يمكن اعتبار تبادل الأسرى نصرًا؟

مشاهد من تسليم الأسرى في اليوم السادس للهدنة
من مشاهد من تسليم الأسرى في اليوم السادس للهدنة الاسرى في اليوم السادس للهدنة (الجزيرة)

في الصورة روافد متعدّدة لنصر شارك بتحقيقه شرفاء العالم وأحراره، والمقاومون والشهداء والصامدون والمُحتسبون، والأسرى في المعتقلات، والمُطاردون في الضفة، والنازحون والمرابطون ووسطاء الهدنة وأبطالها -أتحدث عن الجانب القطري- ثم الضحايا الناجون، والجرحى والمفقودون، والفريق الطبي والصحفيون والمصورون والقنوات الفضائية والتفاعلية من كل ميدان.

إنّها صورة شرف جماعية لنصرٍ مُتعدد في تجلياته وجولاته، فمن أين أبدأ؟

هل نحارب لننتصر، أم أننا نحارب مقاومة للهزيمة؟! هل تستحق مُكتسبات هذه الحرب ما بُذل في سبيلها؟ هل علينا أن نقيس النصر بمنطق عددي لمن تحرروا مقابل من استشهدوا، متناسين أن حكم المؤبد يصل لمئة عام، فكم شهيدًا نحتاج لتحرير المحكومين بخمسة مؤبدات مثلًا؟ أية عقلية هذه التي تعاقب الفرح وتكسر النفوس وتحبطها، إنها ثقافة البخس!

اشتغلتُ لأكثر من 15 عامًا بالتحقيقات الصحفية عن الضحايا النّاجين من المجازر، وملف الأسرى الفلسطينيين، حيث القتل البطيء والمنظم بأساليب وحشية تغتال الأسير ألف مرة، وتمارس تدميرًا نفسيًا وذهنيًا لمعنوياته وعقله، وهو دمار يفوق ما رأيناه في غزة.. فلماذا، إذن، تتحمل المقاومة جريمة الاحتلال في القطاع وتُنكر إنجازاتها؟ هذه حرب نفسية يمارسها العدو وعملاؤه لتغييب الحقيقة وزجّ الوعي العام في غيبوبة، يغطي بها على جرائمه، بالتباس المفاهيم  وإفساد الأفكار وغسل الأدمغة، واختطاف الضمائر والتلاعب بالمواقف، ما ينتج شعوبًا ومجتمعات منخرطة بعقيدة النفاق والتواطؤ والضلال والهزيمة.

معركة "طوفان الأقصى" أحدثت ثورة في أسلوب إعمال العقول، وصياغة الأحكام، كما رآها الباحث الأميركي اليهودي " Norman Finkelstein "، معتبرًا الظلم الذي مارسته (إسرائيل) على الفلسطينيين طوال هذا الزمن، ارتد عليها، كنتيجة طبيعية لديناميكية الدوافع، والاستجابات السلوكية لها.

كل ما كانت تحتاجه فلسطين لإجراء النقلة النوعية أو الزلزلة، هو معجزة إلهية تتحول بها غزة إلى قميص يوسف الذي يرَدّ إلى البشرية بصرها، بترتيب إلهي محكم لموازين الطوفان، عبر جولات نصر استثنائية.

هؤلاء المقاومون الذين يعيشون في الأنفاق، معتزلين الحياة وملذاتها، يحتاجون لهذا إلى المقدار نفسه من الشجاعة التي يبدونها، وهم يقاتلون من "المسافة صفر" وبأبسط الإمكانات "ولاعة، قداحة"

الجولة الأولى: الإعداد

أعادت المقاومة الفلسطينية الاعتبار لمفهوم النضال الحقيقي، ليس فقط كوثيقة أخلاقية لآداب الحروب، بل أيضًا كمنظومة أمنية منيعة، قادرة على إنشاء مُجتمع مُعَزّز بوسائط الحشد المعنوي من صبر وصمود، واحتساب وحمْد، مع أُهْبة الاستعداد للشهادة، كما رأينا ذلك ماثلًا في صمود غزة الأسطوري، من حيث يَرْفدُ جُنْدٌ من المُحْتَسِبين نُخْبَةَ الشرف من جنود المقاومة، لخوض معركة فكرية تنهض بوعيٍ نضالي مُسْتَلهم من روح الإسلام.

للنضال أشكال ومستويات مختلفة، القتالُ ليس هو الإستراتيجية الإجرائية الوحيدة لها، إنما آخر الخيارات بعد استنفاد كل السبل، حينها يصير فرضًا تُراعَى آدابُه وأطره السلوكية المثلى التي تتعامل مع العدو كإنسان كرامته هي مكرمة الله له، مهما كان دينه أو عرقه أو وحشيته!

ظهر السنوار جالسًا على أريكة ناجية من مشهد الخراب، متعهدًا بإعمار غزة التي تحولتْ إلى حاضرة إسلامية، وباكورة حضارية لأندلس معاصرة، أرعبتْ أعداءها وهم يراقبون جيلًا جديدًا تربى في المساجد، وتخرج في الجامعات، وألّمَّ باللغات، فصيح اللسان، عميق البيان، محروسًا بجند لم يروها، فسارعوا لمعاقبتها على قيامتها ومقاومتها، أفقروها، عزلوها، ثم دكّوها ليشوّهوا المشهد ويعيدوها إلى العصر الحجري، وقد فاتَهم أن البناء الحقيقي لغزة لم يكن فقط بالحجر، إنما بالاستثمار الجوهري" البيداغوجي"  بالبشر.. وهذا نصر.

الجولة الثانية: الشجاعة

لأنَّ القوة بالإعداد لا بالمعدات، "فللزحف" منطق فكري أحاله ابن خلدون إلى مفهومه الإسلامي: البنيان المرصوص، يوحد الصفوف في كافة الميادين بعروة وثقى، ووحدة روحية هي الشجاعة، فالغلبة " حسب ابن خلدون" محكومة بكثرة الشجعان، والعوامل الغيبية؛ أي: التدخل الإلهي الذي يردع المجاهد عن التخاذل أمام الله تعالى.

الاختراق بالطيران الشراعي، كسر أسطورة الاستخبارات الأقوى والجيش الأضخم تسليحًا، فهل كانت شجاعة العدو التكنولوجية كافية ليقاتل بها؟ أم أنه استعاض عن الشجاعة بالضخامة، فقتل كي لا يُقاتل!

هؤلاء المقاومون الذين يعيشون في الأنفاق، معتزلين الحياة وملذاتها، يحتاجون لهذا إلى المقدار نفسه من الشجاعة التي يبدونها، وهم يقاتلون من "المسافة صفر" وبأبسط الإمكانات "ولاعة، قداحة".. تراهم يتصدرون الصفوف، إذ يلتقي الجمعان، ويركضون إلى الجنة خفافًا، فأية نفوس عظيمة هذه التي تتعب في مرادها الأجسام!

على الجانب الآخر، ترى جنديًا صهيونيًا يجلس من وراء مكتب مزود بأحدث أجهزة التحكم، أو في برج عاجي" طائرة" أو قلعة ميركافا، يكبس زرًا، فيفجر جنة مخضبة بدم شهداء في عمر الملائكة!

أي فضيلة أفلاطونية لا تُعينها قوتها إلا على القتل من وراء جدار؟ أين النبل في القتال؟ أين البطولة؟ أين تكمن روح الجندية وإنجازاتها بذبح الأبرياء والمدنيين العزل!

هذا التوازي في الأداء يترجم مستوى العقيدة القتالية، ويظهر حقيقة القاتل العاجز الذي لم تستطع تحصيناته أن تحميه من جبنه وجريمته، مُعيدًا الاعتبار للحق والمقاومة وفضيلة الشجاعة.. وهذا نصر.

الجولة الثالثة: جولة الحق

إنها صحوة أعادت الاعتبار للحقيقة، بمفارقة دلالية لحقَّين: حق الضحية بالدفاع عن حقها المسلوب، وحق المُغتصِب بالدفاع عما سلبه!

عادة يتخذ الصهاينة من معاداة السامية حصانةً، ضربتْ عليهم الذلة والمسكنة التي تخفي وراءها غولًا، وهناك كُثُرٌ تواطؤُوا معه، مُدَّعين التعاطف كأقصر الطرق لدرء شره وإرضائه!

"طوفان الأقصى" أفقدت العدو آلياته، أسقطت أسباب حصانته: المسكنة والترهيب، ليحتقره العالم وقد تجاوز حدود هشاشته وشيطانيّته، وهو ما وضع الأمور في نصابها الصحيح، فالضحية هي الضحية، والجلاد هو الجلاد، لا التباسَ في الأدوار، أو إلباس كل طرفٍ ثوبَ نقيضه.. وهذا نصر.

الجولة الرابعة: ثورة حقائق وتصحيح مفاهيم

قامت المدنية الغربية على الفكر التآمري وعقيدة الشر، حرفتْ المعايير وزوّرتْ الحقائق، بماكينة تفرعتْ أذرعها الأخطبوطية كاللَّبلاب السام، انصبتْ دسائسها على أرْهَبَة المسلم، الأجندة التي حاول الاحتلال منذ اللحظة الأولى اجترارها، بسيناريو يضع المقاومة موضع "داعش" على لوحة الشطرنج، كذريعة للإبادة وتضييق الخناق على من يناصر فلسطين.

لكن شاءت إرادة الله- سبحانه وتعالى- أن تكون غزة حفرة الانهدام للسرديات الزائفة للغرب ومسْخه غير الشرعي: الاحتلال.

رفد الله – تعالى- جنوده المقاومين بجندٍ من الشهداء الأطفال، تسجيهم الأكفان البيضاء المُدماة، بمشهد مهيب لقوافل ملائكية تعرج إلى السماء؛ ما هزّ ضمير العالم، وانتشله من قاع الصمت، ناقلًا المعركة من ميدانها العسكري إلى ميدانها الأخلاقي: معركة المواقف!

أنّى وَلَّيْتَ وجهك، في مشارق الأرض ومغاربها، ترى جنودًا من أحرار العالم وشرفائه، يتساءلون عن سر القرآن الكريم، ومكامن قوته التي تسند الفلسطينيين، بمشاهد مدهشة للبطولة بأرقى تجلياتها، لتصبح غزة هي الطريق إلى الله. ويصبح الحلال بيّنًا والحرام بَيّنًا إلى الحد الذي يُطيح بالسردية الكاذبة، وأدوات حجب الرؤية وذرية الشيطان.

اتقدت شرارة الوعي معيدة الاعتبار للفطرة السليمة، نُصِبَتْ المحاكم على مواقع التواصل الاجتماعي، لمحاسبة شاملة طالت رؤساء دولٍ ومشاهيرَ ونخبٍ، وغيرهم.

أما تخاذل الساسة، وشجاعة المقاومة ونبلها بالتعاطي مع أسرى الأعداء، فقد أنتج ذلك حقول تفاعل رفدت طوفان الأقصى بمعركة الرأي الحر، مُعيدة الاعتبار للمفاهيم الإسلامية ومُصوبة النظرة المغلوطة عن المقاومة وفلسطين، كاشفة عورات حقوق الإنسان المخادعة، وأفكار الغرب السامّة التي حشا بها الرؤوس  فغدتْ أصنامًا تُعْبَد.

إنه طوفان الحقيقة التي لا تُورّث بل تكتَشف، فتُسقط الأصنام، وتهوي الحضارة المزوّرة في حفرة الجحيم.. وهذا نصر.

الجولة الخامسة: النَّمْذَجَة

إنها مفارقات دلالية بليغة، انحازت للجوهر، نابذة لعنة المظاهر لحضارة الدولار، وحكمة هوليوود السوداء.

قلبت معركة "طوفان الأقصى"المعايير، مقدمة للعالم نموذجًا نقيضًا لأبطال حقيقيين لا يهتمون بالتماثيل قدر ما تهمهم المُثل، فقراء بالكاد يجدون ما ينتعلونه، ملامحهم مُضمرة بكوفياتهم، لا تراهم، ولكن تدلك عليهم أفعالهم، لغتهم العالية "عقلهم الراجح"، شخصياتهم الهادئة الواثقة، ونفوسهم المطمئنة، التي لا تقنع بما دون الحُسنيَين. ما أعاد الاعتبار للنموذج الآمن أخلاقيًا ورمزيًا- كأمثولة عُليا.. وهذا نصر.

انتصرت المقاومة أم هزمت العدو ولم تنتصر عليه؟

دخلت الحروب مرحلة ما بعد الحداثة، استنادًا إلى الإيكونوميست البريطانية، بعد انتشار أنماط جديدة لمليشيا مسلحة في الشرق الأوسط، فضحت الفشل الأدائي لعساكر الغزاة وشرنقتهم التكنولوجية الهشة!

يقول بروفيسور التاريخ العسكري:" ستبحث عبثًا عن أي تعريف للنصر في العقيدة العسكرية الأميركية. لأن المثال الكلاسيكي للنصر اختفى وفقد جاذبيته رغم سيطرته لفترة طويلة على الفكر والممارسات العسكرية، لذلك لا يمكنك أن تعرّفه، فأنت لا تتحدث عن تاريخ أبيك العسكري"!

جيوشنا العربية المعطلة – كحال المرأة المُعلقَة "لا متزوجة ولا مطلقة"- مؤتمرة بأمر أعدائها ومحاصرة بمهمتين لا ثالث لهما إلا الانقلاب، فهي إما تحرس الغزاة من ضربات المقاومين، وإما تحمي الطغاة من الشعوب.. لا بديل، إذن، عن جيش بديل، يتجاوز حالة العجز والانصياع للغزاة وربائبهم، بوعي سماوي له يقينه بأن من يَنصر اللهَ، يَنصُره!

أما وقد راوح الاحتلال مكانه، باجترار أكاذيب وجرائم غدتْ مثار سخرية وغضب يجتاح الكوكب.. فإن المقاومة تتوّج نصرها عليه به، إذ بلغتْ هزيمتها له كُل مبلغ!

لم يتبقَ سوى جولة الهدنة وتحرير الأسرى لتكتمل الصورة الجماعية لصناع النصر، دون أن أستبعد جولةً ما فوق استثنائية، نرى بها نشطاء الغرب ونخبه يستبسلون بالدفاع عن المقاومة وقادتها وليس فقط عن غزة؛ ما يرد إلى الأمة اعتبارها الريادي، ودورها المؤثر على وعي الشعوب، بعيدًا عن عبودية الاستهلاك الأعمى لقيم مُشوهة، جعلت منها تلميذة كسلى، بدوام كامل في فصل العقاب والتأنيب التعسفي.

حسنًا إذن، لا بد أن نستفيد من التأييد الشعبي الدولي لتمهيد الطريق إلى نصر عظيم ومُسْتَحق لجنة من الشهداء: حرية فلسطين، وهذا نصر من فوقه نصر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.