لبنان في قلب التحول الإقليمي.. صناعة حل أم عجز مديد؟

حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله اللبناني
حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله اللبناني (الجزيرة)

لم تكد تمضي دقائق على انتهاء الهدنة في قطاع غزة، حتى استأنفت إسرائيل توجيه ضرباتها ضد المدنيين في القطاع المحاصَر، ولكن مع تركيز أكبر على القسم الجنوبي هذه المرة.

الواضح أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو اتخذ قراره بالهروب من نتائج الحرب الكارثية، عن طريق الهجوم والاندفاع نحو الأمام.

والأكيد أن فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة، وعدم إمكانية نتنياهو توظيفَ أي انتصار عسكري على المستوى الداخلي؛ للتخفيف من حدة النقمة عليه، جعله يائسًا ومستعدًا للذهاب إلى النهاية في مغامرته غير المحسوبة مع حركة حماس، حاملًا معه هذه المرّة هدف إنجاز "المنطقة العازلة"، التي باتت حديث كل الأروقة الدبلوماسية.

فنتنياهو مع القادة العسكريين والأمنيين باتوا يبحثون عن حبل نجاة يخفّف من وطأة الحساب ولجان التحقيق؛ نتيجة الإخفاق الكبير الذي بدأ في 7 أكتوبر/ تشرين الأول مع أول طلقة من عبور "طوفان الأقصى".

الشارع الإسرائيلي- الذي يعيش صدمة من تداعيات "طوفان الأقصى"، وهو ما سيبقى محفورًا في وعيه الجمعي- ما زال بغالبيته مؤيدًا للحرب. لكن مزاجه قد يتبدل في حال بقيت نتائج الميدان سلبية، إلى جانب التراجع الاقتصادي المدوي، والعجز المديد في السياسة والأمن.

نتنياهو وائتلافه الحكومي مُرتعبان من أرقام الاستطلاعات، ولا سيما أن إعلان انتهاء الحرب سيقود فورًا إلى انتخابات جديدة؛ لذلك رسمت الحكومة الإسرائيلية ثلاثة أهداف لها لجولتها الجديدة؛ أهمها تحقيق المنطقة العازلة في غزة، وإبعاد حزب الله عن الحدود باتجاه الليطاني، وتنفيذ اغتيالات تعطي صدى في الداخل الإسرائيلي، وتعيد له بعض الثقة بقيادته.

وخلال الأيام الماضية كُشف النقاب عن طرح نتنياهو المنطقةَ العازلةَ من خلال قنواته السرية مع الأردن، ومصر، والسعودية، فيما التواصل قائم مع قطر كوسيط في ملف إطلاق الرهائن.

أرفق ذلك بتسريب خُطة تقضي بتقسيم قطاع غزة إلى عشرات المناطق الصغيرة، وسط تلميحات للجيش الإسرائيليّ بأنّه يتوقع أن تستغرق الجولة العسكرية الجديدة في جنوب غزة وقتًا أطول من الشمال، بحيث تستمر حتى شهر يناير/ كانون الثاني المقبل، ولو مع هدن مؤقتة.

من المعروف عن جغرافيّة قطاع غزة أنها بطول حوالي 40 كيلومترًا، ولكن بعرض يتراوح ما بين 5 إلى 12 كيلومترًا، ويقطن القطاع زهاء مليونين و300 ألف فلسطيني.

وبالتالي، فإن المنطقة العازلة التي تطالب بها إسرائيل، تعني الإبقاء على مساحة ضئيلة للفلسطينيين تكون أقرب إلى المنطقة الرمزية؛ ما سيؤدي إلى إحراج أكبر لإدارة بايدن وعواصم أوروبية وعربية، وخاصة أن الجميع عاد ليطرح حل الدولتين.

وعليه فإنّ هذا المسار بات يؤشر بوضوح إلى إسقاط إسرائيل- حكمًا- خيارَ حل الدولتين الذي تصر واشنطن على تطبيقه- ولو صوريًا- قبيل الدخول بجولة انتخابية رئاسية منتظرة.

لذلك كان منطقيًا إعلان واشنطن معارضتها أيةَ خطوة تؤدي إلى تقليص مساحة غزة، وبالمقابل تتمسك الحكومة اليمينية الإسرائيلية بفكرة المنطقة العازلة، ولو أنها ألمحَت إلى إمكانية تقليص العمق الذي تطرحه لها من كيلومترين إلى كيلومتر أو أقلّ.

خلال زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان، أطلق العديد من الرسائل التي بدت أكثر حزمًا هذه المرة. وهذا ما أعطى انطباعات جديدة في جولته الأخيرة

هل الفيتو الأميركي يبدو حازمًا؟

فإسرائيل من جهتها، أظهرت أنها مستمرة في مشروعها، وهي باشرت هجومها البري في القطاع الجنوبي عبر خان يونس، مسقط رأس يحيى السنوار، ومحمد ضيف، وهدفها يبقى إفراغ الجنوب على غرار الشمال، وهذا ما استدعى وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن إلى توجيه ملاحظة علنية للإسرائيليين نابعة من الدروس التي تعلمها الأميركيون من العراق، ومفادها؛ أنّ حماية المدنيين ليست مجرد مسؤولية أخلاقية، بل ضرورة إستراتيجية؛ خشية أن يؤدي عكس ذلك إلى استبدال النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية.

وعلى هامش أعمال مؤتمر المناخ- الذي عقد في دبي- أعلنت نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس أن واشنطن لن تسمح بإعادة الترحيل القسري للفلسطينيين، أو إعادة رسم الحدود. وأعادت التأكيد على ضرورة ترتيبات أمنية مقبولة لإسرائيل والشركاء المعنيين بحرب غزة.

وفي موازاة ذلك شكك الرئيس الفرنسي في إمكان تحقيق إسرائيل أهدافَها، في ظل ما نُقل عن اتصال متوتر بين البابا فرنسيس، والرئيس الإسرائيلي.

هذه المواقف تظهر التباين الموجود بين إسرائيل وداعميها حول النتائج المطلوبة من الحرب، فيما وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بات يؤيّد البحث حول مستقبل غزة والصورة السياسية قبل وقف الحرب؛ أي إنجاز العناوين العريضة للتسوية الشاملة. وهذا ما يفتح الباب حول الوضع في ساحات المنطقة، وفي طليعتها: اللبنانية، والسورية، والعراقية.

ولذلك لا بد من التوقف مليًا أمام الآتي:

العراق: مع الظهور العنيف المستجد لداعش في شمال العراق، فالاشتباكات عادت مع الجيش في محافظة نينوى. والمعروف أن عناصر داعش يستغلون الفراغات الأمنية الموجودة، خصوصًا ما بين محافظتي صلاح الدين وديالى، وما بين كردستان وكركوك.

سوريا: عاد التحفيز الأكبر للاحتجاجات الشعبية في السويداء والمنطقة الجنوبية القريبة للحدود مع إسرائيل. فقد سُجِّل انخراطٌ أوسع شمل قطاعات جديدة، ومشاركة للنقابات الحرة. وكان معبرًا جدًا اقتحامُ المتظاهرين- في مدينة شهبا شمال السويداء- مقرَّ حزب البعث، وتفريغ محتوياته، وهو ما يعزز الانطباع بإنشاء منطقة عازلة، هُويتها سورية، ولكنها ستتمتع بحكم ذاتي مستقل.

لبنان: عاد القلق من احتمال تنفيذ الموساد الإسرائيلي عمليات اغتيال وَفق التهديد الإسرائيلي، وخاصة أنّ التلميحات أظهرت وجود توجّه جديد تحت عنوان: "تطبيق القرار 1701″، والهدف إبعاد البنية العسكرية لحزب الله عن الجنوب.

وبات أغلب الظن أن ما يشهده لبنان الآن هو أقرب إلى مرحلة تحضيرية واستباقية منه إلى الشروع في تنفيذ البرنامج. والسبب أنه لا بد من تأمين المروحة الإقليمية قبل ذلك؛ أي إنجاز التفاهمات مع إيران على مستوى الإقليم.

لذا وخلال زيارة الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى لبنان، أطلق العديد من الرسائل التي بدت أكثر حزمًا هذه المرة. وهذا ما أعطى انطباعات جديدة في جولته الأخيرة.

لكن تبقى ثلاث إشارات أساسية لها رابط واضح بالتطورات الإقليمية، فهو تعمد إظهار تحركه باسم الدول الخمس: (الولايات المتحدة، وقطر، والسعودية، ومصر، وفرنسا)، ولذلك كان الإعلان عن عشاء سفراء هذه الدول في قصر الصنوبر.

إضافة إلى إظهاره التطور في الموقف السعودي لناحية انخراطه في الملف اللبناني، وهو ما كانت تتمنع عنه السعودية طوال المراحل الماضية؛ ما يعني أن الوقت قد حان للتحرك، وهذا ما أعلنه سرًا السفير السعودي وليد البخاري، من تَماهٍ سعودي – قطري – فرنسي بدعم أميركي، في الملف اللبناني.

أما الإشارة الثانية للودريان، فهي حديثه عن أن الحرب في غزة ستسرع عملية انتخابات الرئاسة في لبنان لا العكس كما هو سائد. والربط هنا مع ضرورة أن يكون للبنان رئيس وحكومة شرعية؛ لحضور مؤتمر دولي حول الشرق الأوسط، يجري التحضير له على ما يبدو لمواكبة إعادة رسم الخارطة السياسيّة الجديدة للمنطقة.

بالمقابل سعى لودريان لإظهار مؤشرات تتعلّق بحسابات المؤسسة العسكرية في لبنان، وقضية التمديد لقائد الجيش الذي يحظى بدعم أميركي – سعودي – قطري، وحديثه إلى الأطراف السياسية بضرورة تجاوز الصراعات الضيقة والشخصية، والانخراط في سياق التحولات الكبرى التي عمّت وستعمّ كافة أرجاء الشرق الأوسط. إضافة إلى المخاطر المرتفعة والظروف الدقيقة التي تنتظر لبنان وجنوبه.

ولذلك تعمّد لودريان أن يكون حاسمًا من خلال قطع اجتماعه برئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وهي رسالة مقصودة في حد ذاتها، للقول؛ إنه لا أحد من الأطراف مستعد لمجاراة أي طرف لمصالحه.

يحصل كل ذلك، في ظل استمرار رسائل التحذير الدبلوماسية للبنان من أن استمرار المواجهات سيؤدي إلى تصعيد إسرائيلي في المرحلة المقبلة؛ لأن إسرائيل وحكومتها المتطرفة لن تكون قادرة على تحمل البقاء تحت ضربات حزب الله وقوته النارية.

وهنا تنقسم الآراء، بين من يعتبر أن ما يجري سيكون هدفه تثبيت الوقائع من دون الدخول في حرب واسعة ومفتوحة، وأن الرسائل الدولية تندرج في إطار الضغط فقط، وبين من يرى أن التحذيرات الدولية الكثيفة مشابهة جدًا لتحذيرات فرنسية عمل على توجيهها الرئيس فرنسوا ميتران إلى لبنان عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في العام 1982، حيث إن اللبنانيين حينها لم يتعاطوا معها بجدية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.