في انحياز ألمانيا إلى إسرائيل في حربها على غزة

امرأة تتفاعل خلال "مسيرة من أجل فلسطين" في دورتموند، غرب ألمانيا (الفرنسية)

لا تفتأ الحكومةُ الألمانيّة تَذكُر "حقَّ إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس المكفول لها في القانون الدوليّ" ردًا على هجوم حماس فجر السابع من شهر أكتوبر الجاري، الذي أسفرَ عن مصرع نحو 1400 إسرائيليّ، وأسْر أكثرَ من مائتَي إسرائيليّ. فألمانيا- كجلّ الدول الغربيّة- اختارت منذ الوهلة الأولى الاصطفافَ غير المشروط إلى جنب إسرائيل، ودعمها المطلق "في حربها على الإرهاب"، مهما كانت الفاتورة الإنسانيَّة الباهظة التي سيدفعها المدنيّون الذين يتجرّعون الأمرَّين في غزَّة؛ جرَّاء حصار شديد منقطع النّظير منذ عَقد ويزيد.

فحتّى وإن كانت ألمانيا – التي بات مستشاروها يؤكّدون في كل وقت وحين على أنَّ "أمن إسرائيل مصلحة عُليا للدولة"- قد خفَّفت قليلًا في الأيّام الأخيرة من حدّة لهجة تصريحاتها بخصوص دعمها المطلق، وغير المشروط إسرائيلَ، كما جاءَ في كلمة وزيرة خارجيّتها، أنالينا بيربوك، في مجلس الأمن، حيث أشارت أخيرًا إلى أنَّ دفاع إسرائيل عن النفس لابدّ أن يتم "وَفق القانون الإنساني، ومع توخّي أكبر قدر ممكن من الاعتبار للسكّان المدنيين"، إلا أنّ هذه النبرة الطفيفة المتغيّرة في موقف ألمانيا تظلُّ مجردَ كلام لا يُجاوز تَراقيها، مادامت لا تعبأ لمعاناة الفلسطينيّين، ولا تستنكر استباحة إسرائيلَ محظورات القوانين الدوليّة على نحو صريحٍ لا يقبل التأويلَ، وما دامت لا تطبِّق المعايير نفسَها على الجميع، كما كان دأبها دومًا في صراعات أخرى، حينما كانت تنحاز إلى القيم الإنسانية.

بلغت ذِروة الدعوات الرامية إلى شيطنة الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني، في محاولة نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تجريمَ هتاف "فلسطين حرّة" الذي كثيرًا ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف "فلسطين حرة ليس هتافًا بريئًا، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة"

كما أنَّ دعوة بيربوك إلى احترام القانون الإنسانيّ، تفقد مصداقيّتها تمامًا إذا أخذنا بعين الاعتبار كلمة المستشار الألمانيّ، أولاف شولتز، في تصريحٍ للصحافة، إذ أكّد أنّه لا يساوره شكّ ألبتّة في أنَّ الجيش الإسرائيليّ سيلتزم حتمًا بمبادئ القانون الدوليّ بحُجّة أن "إسرائيل دولة ديمقراطيّة ذات مبادئ إنسانية تديرها". فإلى أي أساس يستند هذا اليقين المطلق للمُستشار الألمانيّ، وهذا وزير الدفاع الإسرائيليّ، يوآف غالانت، نفسه يفنّد هذا الزعمَ حين يضرب بمبادئ القانون الدوليّ عُرض الحائط، ويأمر على مرأى ومسمع من العالم بقطع الماء، والطعام، والوقود، والكهرباء عن غزّة، والتعامل مع سكّانها باعتبارهم "حيوانات بشرية"؟!

فالبند الثامن من النظام الأساسيّ للمحكمة الجنائية الدولية يعتبر "تعمّد تجويع المدنيين- كأسلوب من أساليب الحرب بحرمانهم من الموادّ التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمُّد عرقلة الإمدادات الغوثيّة على النحو المنصوص عليه في اتفاقيّات جنيف "- جريمة حرب. فضلًا عن أنّ تجريد صفة الإنسانيّة من الفلسطينيّين- أو غيرهم من البشر مهما كانت جريرتهم- عنصريةٌ مقيتةٌ، وخرقٌ صارخٌ لحقوق الإنسان، لا يختلفُ حول ذلك اثنانِ.

إنَّ محاولة ألمانيا تزكية الجيش الإسرائيليّ- عبر ادّعاء اكتراثه لأي من المبادئ أو المواثيق الدوليّة في حرب لا تبقي ولا تذر، أودت حتى الساعة بأكثر من تسعة آلاف شهيد، منهم أكثر من ثلاثة آلاف طفل، ودمّرت %50 من الوحدات السكنيّة جراء قصف غير مسبوق لا يفرق بين هدف عسكري ومدني- ما هو إلا تضليل وتمويه للأحداث؛ لأنّ سفك دماء ألوف من الأبرياء لا يمكن أن يكون دفاعًا عن النّفس، وإنما مجزرة مهولة لا يجوز الصمت عنها.

فجلّ المنظمات الدولية – بما فيها الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة العفو الدولية، و"هيومن رايتس ووتش"- وغيرها تُفنّد السردية الألمانية، وتدين إسرائيل بشدّة. وترى بعض هذه المنظمات في إمعان الجيش الإسرائيليّ في القصف العشوائي الأحياءَ السكنيةَ، واستهداف المستشفيات، والمدارس، ودور العبادة، وتدمير البنية التحتية، والتهجير القسري، والحصار المطبق، أدلةً دامغةً على ارتكاب إسرائيل جرائمَ حرب لا لبسَ فيها. هذا ناهيك بالاحتلال الذي هو علّة العلل في كل ما يحدث من كوارث إنسانيّة للفلسطينيين منذ بضعٍ وسبعين سنة.

من اللافت للنظر أن يصاحب انحياز الحكومة الألمانيّة شبه إجماع سياسيّ داخليّ منقطع النّظير، تبنَّت فيه جلّ الأحزاب الموقف الرسمي بحذافيره، ما عدا حزب اليسار الذي شكّل في هذا الصدد ذاك الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة. وتجلّى هذا التوافق السياسي في إخماد كل الأصوات الداعمة لفلسطين، تارة عبر محاولة حظر المظاهرات المندّدة بالحرب جملة وتفصيلًا، ومصادرة منظميها حقّهم الدستوري في التجمّع السلمي، والتعبير عن الرأي. وتارة أخرى عبر وضع كل ناقد لسياسة إسرائيل تحت طائلة معاداة السامية دون فرق أو تمييز.

قد بلغت ذِروة الدعوات الرامية إلى شيطنة الاصطفاف إلى الجانب الفلسطيني، في محاولة نائبة رئيس حزب الاتحاد الديمقراطيّ المسيحيّ، كارين بْرِين، تجريمَ هتاف "فلسطين حرّة" الذي كثيرًا ما تصدح به حناجر مؤيدي فلسطين في المظاهرات، إذ صرّحت في لقاء تلفزيوني بأنّ هتاف "فلسطين حرة ليس هتافًا بريئًا، وإنما صيحة حرب لعصابة إرهابيّة".

وفي جملة التصريحات، والدعوات التي تنضح آنية كثير منها بالعنصريّة، والشعبوية نجد تصريحات فريدة برع أصحابها في ممارسة سياسة خلط الحابل بالنابل، على نحو سُريالي مثير للغثيان، كتصريح رئيسة لجنة الدفاع في البوندستاغ (البرلمان الألماني)، ماري-أغنيس ستراك-زيمرمان، من الحزب الديمقراطي الحر، التي رأت أن "ثمة علاقة وطيدة بين هجوم روسيا على أوكرانيا، والهجوم الإرهابي لحماس على إسرائيل"، لافتة الأنظار إلى أنّ هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر، موافقٌ لعيد ميلاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وهو أمر يستحيل – حسَب زعمها – أن يكون محضَ صدفة.

أدَّى هوس إخماد أصوات كلّ من يحاول أن يغرّد خارج سرب الموقف الرسمي، إلى المبالغة في كيل تهم معاداة السامية، والتوجس خيفة من كل ما من شأنه أن يوشي بانتقاد مباشر أو غير مباشر لحرب إسرائيل على غزّة. وقد كان من ضحايا هذا التوجّس الهستيري الكاتبة عدنية شبلي التي تمّ تأجيل تكريمها بجائزة "ليبيراتوربرايز" (LiBeraturpreis) لأجلٍ غير مسمّى لمجرد أنّها ذات أصول فلسطينية.

كما أنّ محاولة تناول أحداث حرب غزّة، في سياقها التاريخي، باتت اليوم أمرًا مرفوضًا. ولم تسلم من النقد في هذا الصدد شخصيات مرموقة كالأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، حين صرّح بأن "هجمات حماس لم تحدث من فراغ"، ولا الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجيك.

فعلى الرغم من إدانة جيجيك الصريحة "هجوم حماس على الإسرائيليين دون قيد أو شرط" في كلمة افتتاحية معرِض فرانكفورت للكتاب، قامت عليه الدنيا ولم تقعد لاستغرابه من محاولة فرض "الحظر على التّحليل"، إذ لاحظ أن مجرد إبداء الرغبة في تحليل الخلفية المعقدة للصراع، يعرض المرء لتهمة "دعم إرهاب حماس". وهذا ما أكّده أيضًا أودو شتاينباخ، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، حين أثار الانتباه إلى عدم وجود ثقافة الاختلاف حينما يتعلّق الأمر بفلسطين، وحذّر من "أنّ تهمة معاداة السامية باتت حجّة قاتلة لوأد أي نقاش في مهده".

إنَّ اصطفاف ألمانيا غير المشروط إلى جنب إسرائيل- دون مراعاة حقوق الفلسطينيين، وتجاهل خروقاتها التي لا تخطئها العين- لن يؤدي إلى تحقيق المبتغى المنشود. فحتى لو تمكّنت إسرائيل من اجتثاث حماس من فوق الأرض إلى الأبد، كما قال وزير خارجيتها، فإنّ هذا لن يضعَ حدًا للصراع العربيّ- الإسرائيليّ، ما دامت إسرائيل ماضيةً في انتهاكِ حرمة المسجد الأقصى، وحصار غزّة، وبناء المستوطنات، ونسف كلّ أمل في بناء دولة فلسطينيّة مستقلّة. فالتجاربُ الماضيةُ أظهرت أنّ الحَيف العظيم الذي استساغه الغرب بحجّة محاربة الإرهاب للقضاء على تنظيم القاعدة لم يسفر في آخر المطاف سوى عن ظهور جماعات جديدة أكثر غلوًّا، وتطرفًا، وإرهابًا كالدولة الإسلامية (داعش). علاوةً على أنَّ ما يحدث الآن سيقوّض مشاريع التقارب مع الدول العربيّة، وسيزيد الهوّة بين إسرائيل وجيرانها عمقًا واتساعًا، ما سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار الهشّ في منطقة باتت على برميل بارود يوشك أن ينفجر.

لقد كان حريًا بألمانيا- خاصة لمسؤوليتها التاريخية تجاه اليهود- أن تسعَى جاهدةً إلى العمل على إحلال سلام عادل، وشامل يضمن العيش الكريم لكلا الشعبَين: الفلسطيني، والإسرائيلي على حدّ سواء في ظلّ دولتَين مستقلتَين ذواتَي سيادة كاملة. وهذا لن يتأتّى بانحياز أعمى دون قيد أو شرط إلى طرف على حساب طرف آخر، وإنّما عبر العمل الجادّ على إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، والإفراج عن الأسرى، وعبر الانحياز المطلق إلى القوانين الدوليّة، ومبادئ حقوق الإنسان.

فليس ثَمة من سبيل أمام الحكومة الألمانية- إن كانت جادّة في وقف رحى الحرب- إلا تسمية المسميات بأسمائها، والوقوف على مسافة واحدة من كلّ الأطراف، وتطبيق المعايير نفسها على الجميع، كما طالب بذلك عام 2012 الأديب الألمانيّ الكبير غونتر غراس، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، حين ذمَّ في قصيدته المشهورة "قول ما لا بدَّ أن يقال" هذا "النفاق الغربيّ الذي ضاق به ذرعًا"، وسياسة الكيل بمكيالَين في التعامل مع إيران، وإسرائيل بخصوص امتلاك الأسلحة النوويّة:

فهكذا فقط سيتم مساعدة الجميع: الإسرائيليين والفلسطينيين، وأكثر من ذلك، مساعدة كل أولئك الذين يعيشون في هذه البقعة التي يسيطر عليها الهوس جنبًا إلى جنب أعداء، وفي النهاية مساعدتنا نحن أيضًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.