فكّاكون يهود وأسرى مسلمون في أوروبا… صفحة مطوية من العصور الوسطى

جامع قرطبة الكبير في إسبانيا يبقى شاهدًا على أصالة الحضارة الإسلامية (غيتي)

في ربيع 2009، أشرف وزير الثقافة المصري السابق فاروق حسني على حادث تطبيعي مفاجئ. فتنة دفعت كبار موظفيه إلى تسويغ الواقعة. حشدٌ حماسي مريب أوقع في شراكه بعض عتاة مقاومي التطبيع السابقين.

واستخدم اسم إدوارد سعيد للتضليل، لولا أصوات وطنية استنكرت هذا الاختراق. حفظتُ نِثارات مما نُشر. وجاء طوفان يناير/ كانون الثاني2011، فنسف ما قبل الثورة من سخافات، إلا ما تحتويه ملفات تُعدّ بعناية، ثم تختفي كالعادة وتُطوى.

وبعد "طوفان الأقصى"، 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بحثتُ عن ذلك الملف، فعثرت على ترجمة قصة نادرة لإيفو أندريتش، ودراسة عنوانها: «الأسرى المسلمون في أوروبا الغربية خلال القرون الوسطى المتأخرة»، للمستشرق الهولندي بيتر شورد فان كونينغسفيلد.

عمل الدكتور كونينغسفيلد أستاذًا للدراسات الإسلامية وعلوم الأديان بجامعة لايدن، وأسس قسم أصول الدين الإسلامي بكلية اللاهوت، لتدريس الفقه والمذاهب والتيارات الفكرية الإسلامية وعلاقة المسلمين بالدول الأوروبية.

ولهولندا تجربة مبكرة في مجال الدراسات العربية بجامعة لايدن، منذ نهاية القرن السادس عشر، حين تأسس أول كرسي للدراسات العربية. وفي يونيو/ حزيران 2006 دُعيت إلى بيته.

من روتردام أستقلّ القطار إلى لايدن، حيث ينتظرني الصديق عمرو رياض، آنذاك كان حاصلًا على الماجستير من كلية الأديان والآداب، ويوشك أن ينتهي من رسالة الدكتوراه عن رؤية الشيخ محمد رشيد رضا للغرب والمسيحية، من خلال مجلة المنار. وقابلت الباحثَيْن: محمد غالي، ومحمود الصيفي، ومعهما الدكتور كونينغسفيلد.

لم أقرأ شيئًا للدكتور بيتر شورد فان كونينغسفيلد، حتى اسمه نسيته، ولم أتذكر منه إلا «فان». قلت له إن معظم الهولنديين اسمهم «فان». هل هو مثل محمد في العالم العربي؟ أوضح أن «فان» ليس اسمًا، وإنما يشبه ياء النسب في العربية، كأن تقول: "فلان مصري أو مغربي أو جنايني". وضحك قائلًا: إن بعض العرب ينادونه: «دكتور فان». أنا أيضًا دعوته «دكتور فان».

من محطة القطار إلى بيته، قاد «الأستاذ» الهولندي سيارته، بصحبة أربعة مصريين. وفي البيت أعدّ الشاي لي وللباحثين الذين يشرف على رسائلهم، فلم تكن زوجته الرسامة العراقية عفيفة لعيبي موجودة. وفي معرضها بالقاهرة، نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أخبرتني بوفاة الدكتور.

صراع إسلامي – مسيحي

دراسة كونينغسفيلد (1943 ـ 28 يوليو/ تموز 2021)، غير المنشورة، تضعنا في قلب القرون الوسطى، وتكشف جانبًا من الصراع الإسلامي- المسيحي، بجانبَيه: الفكري الناعم، والعسكري الخشن الذي انتهى بإخراج المسلمين من الأندلس، عام 1492، وبعده بدأت عمليات التنصير، والتطهير الديني والعرقي.

وقبل الخروج لم يكن المراقب ليتجاهل الغليان من ناحية، والاضمحلال من ناحية أخرى؛ فالانهيار الحضاري لا يحدث فجأة، ولا تقوّضه معركة واحدة.

وفرضت قضية استعادة الأسرى اجتهادًا فقهيًا يخص ما ترتب على وجودهم في الأسْر من نسب أبنائهم، وكذلك المواريث. وقد رأى الحكّام المسيحيون، في إيطاليا والبلدان المجاورة للأندلس، منذ القرن الحادي عشر، أن يتخذوا الأسرى عبيدًا بدلًا من قتلهم.

في بدايات القرن الرابع عشر، وضع الحكام المسيحيون أيديهم على مناطق من «إسبانيا المسلمة»، ولأسباب عملية منحوا الأقليات المسلمة حماية وحرية دينية. سلوك لم يرضِ الكنيسة التي وافقت، في مجمع فيينا سنة 1311، على حظر كل الطقوس الإسلامية، كالأذان. وبعد 1492، سُمي الباقون من المسلمين «الزنادقة غير المهتدين»، وأجبروا على التنصير الجماعي.

وباستثناء تاريخ العبودية، يبدو «التاريخ الثقافي» للعبيد المسلمين في أوروبا مجهولًا، «لم يدرس بعد بما فيه الكفاية». الفقهاء، مثلًا، بحثوا قضايا الانفصال الاضطراري للزوجين، هل يحق لزوجة أسير طلب الطلاق؟ وهل يجوز زواج عبدة وعبد يعقده مالكهما النصراني؟ وما حكم الزوجين عند الرجوع إلى دار الإسلام ومعهما ابن؟

الأسرى المسلمون، قبل أن يساقوا إلى أسواق العبيد، كان يجري تحريرهم بالفداء أو التبادل مع أسرى مسيحيين، لإنقاذهم «من ربقة عبودية الكفر».

كان الرقّ والعبودية حول البحر المتوسط «ظاهرة اجتماعية واقتصادية مهمة سمح بها وأقرها كل من الإسلام والمسيحية». وتأسست تجارة العبيد الدولية على مصالح مشتركة، «للطرفين الإسلامي والمسيحي… ففي إطار القانون الدولي آنذاك، كانت ذات طبيعة سلمية».

وعن مؤسسة العبودية نتجت «حركة تجارية دولية لنقل العبيد» بين أفريقيا وأوروبا، وكانت إسبانيا بلد عبور. ومصادر العبيد هي الحروب والقرصنة البحرية، «وكان الحكام يمنحون سفن القرصنة- مقابل دفع مبلغ من المال- ترخيصًا يسمح لهم ببيع غنائم الأسرى في موانئ الربط كعبيد».

استحداث وظيفة الفكاك

وضعني الدكتور فان، للمرة الأولى، أمام مصطلح «الفكاك». وظيفة مستحدثة لتاجر، أو صاحب علاقات دولية يستطيع افتداء الأسرى في رحلاته التجارية، فيكتب عقدًا لافتداء «أسرى معينين من البلاد المسيحية مقابل مبلغ مالي محدد».

وكان المؤلفون الأندلسيون يلحقون بكتبهم وثائق من عقود الافتداء. ومن مواد عقود الافتداء احتفاظ المفتدِي بالمبلغ المتفق عليه لو هرب المفتدَى، ويُشهِد على ذلك مفتدين آخرين من الأسرى المسلمين. وقد يضاف بندٌ بزيادة مبلغ مالي، على مكافأة الفكاك، بسبب تكاليف إضافية، كأداء مكوس يفرضها الروم.

وفي أوروبا نشأت مؤسسة «Alfaqueque»، وتعني الفكاك باللغة العربية، وكان «الفكاكون، غالبًا، من اليهود الذين يتحملون مسؤولية مرافقة الأُسارى إلى البلاد الإسلامية».

وفي العودة، يرافق الفكاكون أسرى مسيحيين إلى البلاد المسيحيّة التي أثارت إقامة أسرى مسلمين فيها جدلًا فقهيًا حول عدالة شهاداتهم.

وتناول ابن رشد قضية أسير قال: إنه افتُدِي بأقل من المال الذي جُمع لتحريره.

شهادة الأسير

رأى ابن رشد أن شهادة هذا الأسير تثبتها شهادات أسرى كانوا معه، وسلّم بهذه الشهادات، قائلًا: «إن الإقامة خارج الديار الإسلامية باعتبارها تمس استقامة الشاهد في نظر الخصم، استدعتها في الواقع الضرورة، ومن ثَم لا يمكن لها أن تبطل قيمة الشهادة».

وكان للأسير افتداء نفسه من أموال الزكاة، إذ أجاز قاضٍ مسلم لأسيرين، عام 1303، أخذ الزكاة من المسلمين في مملكة بلنسية تحت حكم ملك أراجون.

وكان العبد يفتدي نفسه بتعليم سيده فنًا خاصًا. أحد السادة حرّر عبدًا علمه صباغة الحرير «غير المعروفة في البلاد المسيحية». وقد يراسل العبد أهله، لإخبارهم بمكانه والمبلغ المطلوب. بعض العائلات جعلت ولدًا لها رهنًا، حتى يجمع الأب العائد القدر المالي المطلوب. وأثيرت قضية فقهية عن الابن الرهينة، في حالة وفاة الأب قبل جمع القدر المالي لتحريره، «كان يشترط تحريره من ممتلكات أبيه قبل تقسيم الميراث».

وقد استُخدم الأسرى من نخبة المثقفين لإنجاز مهام خاصّة، فالجغرافي المغربي الحسن الوزان أسره القراصنة الصقليون، في رجوعه من مصر سنة 1519، ومعه دراسة عن رحلاته الأفريقية.

أدرك القراصنة قيمة الصيد، فذهبوا به إلى روما. قدم القراصنة الهدية الثمينة إلى البابا ليون العاشر الذي «نصّر العالم المسلم»، وسماه يوحنا ليون، وبدأ يتعلم الإيطالية، وألف كتابه «وصف أفريقيا».

قصة ليون الأفريقي مشهورة، وغير المشهور هم الأسرى ناسخو المخطوطات العربية، في الطب والفلسفة، وكان يختمون المخطوطات بأدعية يرجون فيها خلاصهم. كتب ناسخ من برشلونة سنة 1166: «فك أسره ورحم من قال آمين حين يقرؤُه». وكتب ناسخ من طليطلة سنة 1227: «أطلق الله سبيله».

ولعب الأسرى المسلمون النساخون «دورًا وسيطًا في نشر العلوم والفلسفة العربية في العالم المسيحي»، إذ كانت دراسة الإسلام واللغة العربية من الشروط الأساسية «لتكوين المبشرين بتبليغ تعاليم الإنجيل إلى الذين كان يطلق عليهم الوثنيون».

ويروى أن عالمًا عبدًا مسلمًا أنكر ألوهية المسيح والأقانيم الثلاثة أمام عالم اللاهوت الكتالوني ريموندس لولوس؛ فسخر من النبي محمّد؛ فصفعه العبد. ثم تأسف «العالم المسلم المغلوب على أمره» على تعليم العربية والشريعة الإسلامية لريموندس، وحاول قتل سيده، وأودع السجن وفيه مات مخنوقًا. وأورد اللاهوتي الكتالوني في سيرته الذاتية «هذه المأساة البشرية».

عودة الهُوية الإسلامية الأصيلة لأوروبا

ولم يكن مسموحًا لليهود امتلاكُ عبيد مسيحيين. وأبناء العبيد المسلمين ينصّرون مباشرة بعد الولادة، أما تنصير العبيد فكان «نتيجة ثقل الضغط الاجتماعي»، لتحسين شروط العبودية، أو التحرر منها. وقد ظل البعض يكتم إسلامه، بل إن البعض من فرسان الهيكل أنكر «الاعتقاد بالمسيح». وينهي كونينغسفيلد دراسته برؤية مهمة للحاضر:

«إرغام هذه الأقليات المسلمة على التنصير من أهم العوامل التي تفسر لنا النجاح الذي تلقاه اليوم الحركات الإسلامية الإحيائية في الغرب، حيث يعاد اكتشاف الإسلام كهوية أصيلة مفقودة. هذا لا يهم فقط ما يُدعى «الصحوة الإسلامية» وسط أقلية مسلمة من أصل إسباني خاصة في إقليم "أندلوسيا"، بل يخص أيضًا «المسلمين السود» في الولايات المتحدة… لا يهم في هذا المجال معرفة ما إذا كانت هذه الأقليات تنحدر مباشرة… من سلف مسلم. المهم هو أن هذه الأقليات المسلمة تجد في الإسلام عنصر إلهام بحيث ترى فيه استعادة لمجد ثقافة وهوية مهضومتين، خاصة أن الضغط على الإسلام ومحاربته في الغرب كان واقعًا تاريخيًا».

النهاية السابقة حادّة لمقال يحتاج إلى نهاية تخفف توترات تاريخية تتصادى، حاليًا، مع موجات وآثار ارتدادية. سأختار نهاية أخرى فيها شيء من المفارقة وشيء من السخرية، وهي محاورة في القرن الخامس عشر، نقلها كونينغسفيلد من كتاب: «رسالة السائل والمجيب ونزهة الأديب» لمحمّد الأنصاري الأندلسي، وكان أسيرًا في قشتالة، وكتب ردودًا على المآخذ المسيحية على الإسلام.

فن المناظرة بين العقل المستنير والتقليد الأعمى

على سبيل المثال، ذكر أنه بعد محاضرة في جامعة "شلمنقة"، خرج في رفقة الخطيب وقسيس الاعتراف الخاص بالملك، عبر رحبة الكنيسة العظمى في طريقه إلى مسكنه، ودار بينهما الحوار التالي:   " فلما بلغنا وسط الكنيسة رأيت صورًا من الخشب مطلية بأنواع "الألوان" محكمة الصنعة تخيل للناظر أنها تكلمه. فجعلت أسألهم عنها وأسوق لهم المعلوم سوق الجاهل معرضًا بهم ومستدرجًا للأسقف، فقلت وقد وقفت على صورة عيسى مصلوبًا على خشبة الصلب ويداه مسمّرتان وكان الدم يقطر منهما:

  • من هذا المسكين؟
  • قال لي: أو ما تعرفه؟
  • قلت: لا!
  • قال: هذا عيسى بن مريم.
  • قلت: فما له على هذه الحالة؟
  • قال: أو لست تعلم أن اليهود صلبوه؟
  • قلت: لا علم لي بذلك!
  • قال: فإنه كان من قصته كذا وكذا.
  • فقلت: أليس هذا من تزعمون أنه إله؟
  • قال: بلى!
  • قلت: فإن إلهًا تصلبه اليهود ولا ينتصر لنفسه؟

فعلم أني كنت أتجاهل مستدرجًا له الكلام، فقال: قصة المسيح من الخفاء والغموض بحيث لا يهتم إليها المسلمون ولا كثير من النصارى لدقتها وخفائها، إلا من أُيد بتأييد إلهي مثل علمائنا وإنما أنظاركم معشر المسلمين جلية لا تذكر، ونحن قد خصنا الله- تعالى- بهذا السر الخفي واتخذناه عهدًا يؤمن به عوامنا تقليدًا لا علمًا.

  • قلت: ليت علماءَكم مثل عوامكم إذا كان يرجى لهم الفلاح، وكيف لعوامكم بفهم ما تستحيله العقول وبديعة المعقول والمنقول، بل من أين ذلك لعلمائكم فضلًا عن عوامكم؟
  • قال: فإن صحت لك الحكمة في ذلك هل تعتقده صوابًا؟
  • قلت: إن قبله العقل وعضّده النقل اعتقدته، وإن كان صوابكم في كل ما تزعمون ضربنا به الأرض!    – – قال: فإن الحكمة في صلب المسيح والتحامه في بطن أمه مريم هي أن آدم – عليه السلام – لما خالف أمر الله بأكله من الشجرة استوجب بذلك النار هو وجميع ذريته من النبيين وغيرهم، وأنهم كانوا في النار أجمعين؛ بسبب ذنب أبيهم حتى صلب المسيح وأريق دمه، فحينئذ كسر أقفال النار فأخرجهم منها.

فلما أراده من الصلب حل في بطن مريم والتحم فيها وصار إنسانًا ذا جسم كسائر البشر واحتمل معاناة الصلب والقتل ليخلصنا من النار بحكمته وفضله، إذ لم يكن في الحكمة الإلهية أن يعاقب آدم على ذنبه؛ لأنه عبد ومنزلته حطيطة بالنسبة إلى منزلة مولاه وسيده، فاقتضت حكمته أن يقتص من إله مثله فأخذ الجسم كما ذكر وصبر على صلب اليهود وامتهانهم ليخرج صفوة خلقه الأنبياء من الجحيم.

فعل ذلك وأراده بفضل رحمته ورأفته فهو "الإنسان" التام من جهة الجسم، و"الإله" التام من جهة الروح.    قال المؤلف: فلما ملأ أسماعي من التشنيعات الكافرية المستحيلة عقلًا ونقلًا ضحكت متعجبًا.

  • فقال: ممَّ ضحكت؟
  • قلت: ما كنت أحسب أن الجهل يبلغ بكم هذا المبلغ العظيم الذي لا يجوز على الحيوان البهيمي!».

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.