عقدة الذنب والتفوق النوعي.. كيف نفسر هذا الدعم الغربي الهائل لإسرائيل؟

FILE PHOTO: U.S. Vice President Joe Biden (R) prepares to sign the guest book before his meeting with Israel's Prime Minister Benjamin Netanyahu at Netanyahu's residence in Jerusalem March 9, 2010. REUTERS/Ronen Zvulun/File Photo
الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (رويترز)

إعلان أيزنهاور في عام 1957؛ الذي دشن بداية الصعود الأميركي والتراجع للإمبراطورية البريطانية والفرنسية، منذ ذلك التاريخ أصبحت دول القارة العجوز في معظم سياساتها الخارجية تابعة للموقف الأميركي من الأحداث الجارية في الشرق الأوسط، فعندما نتحدث عن الموقف الغربي؛ فنحن نتحدث عن الموقف الأميركي، وما يلحقه من مواقف أوربية مشابهة في الغالب.

بعض أشكال الدعم

الدعم الأميركي الغربي لإسرائيل متنوع وله أشكال متعددة، منها ما هو دعم سياسي؛ إذ اعترفت الولايات المتحدة بحكم الأمر الواقع فور الإعلان عن قيام دولة إسرائيل، وبعد ذلك اعترفت بها قانونياً بعد إجراء أول انتخابات إسرائيلية في يناير 1949.

كما دعمت أميركا إسرائيل في مجلس الأمن؛ إذ استخدمت حق النقض الفيتو المقرر للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن منذ تأسيسه 88 مرة، كانت 43 مرة في وجه قرارات قدمت ضد إسرائيل وممارساتها في فلسطين المحتلة.

كما أن الولايات المتحدة تقدم دعماً مالياً وعسكرياً كبيرين لدولة إسرائيل؛ إذ بلغ الدعم المالي -منذ تأسيس دولة إسرائيل حتى عام 2023- حوالي 158.6 مليار دولار، الجزء الأكبر منه يُصرفُ للدعم العسكري الذي يضمن لإسرائيل التفوق في المنطقة؛ إذ بلغت المساعدات العسكرية حوالي 124.4 مليار، أي بما نسبتهُ 78% من قيمة المساعدات الأميركية لإسرائيل، كما يتم تزويد إسرائيل بأسلحة متطورة لا تُمنح لغيرها من دول المنطقة، إضافة إلى أن هناك حجم دعم اقتصادي يبلغ 34.2 مليار دولار -على مدار التاريخ الأميركي- لإسرائيل.

منذ إعلان قيام حماس بتنفيذ عملياتها في السابع من أكتوبر بدأ الدعم الأميركي لإسرائيل والضوء الأخضر لعملياتها بشكل غير محدود، إذ تم تخصيص 14.3 مليار للدعم العسكري لإسرائيل، وتم تحريك مجموعتين من حاملات الطائرات مُزوّدة بـ 150 طائرة حربية، إضافة إلى تحريك غواصة نووية، وتقديم دعم سياسي كبير؛ وصل حد إعلان وزير الخارجية الأميركي عن نفسه أنه يتحدث مع الإسرائيليين كيهودي وليس كوزير خارجية، كما وصل الرئيس الأميركي جو بايدن إلى هناك، وأعلن عن نفسه كصهيوني أيضاً.

وتوالت زيارات ساسة الدول الغربية الكبرى لإسرائيل؛ إذ وصل الرئيس الفرنسي ماكرون، وأعلن عن استعداده لتشكيل تحالف دولي ضد حماس كالتحالف الذي قاتل داعش، كما وصل رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، وأعلن تأييده للإسرائيليين في أحلك أوقاتهم على حد وصفه.

بواعث الانحياز

هذا الدعم الغربي لإسرائيل؛ كيف يمكن وتفسيره؟ وفي أي سياقٍ يأتي؟

قد تبدو الأسباب التي تدفع الغرب لدعم إسرائيل -والانحياز إليها- متعددة ومتشابكة ومتعاضدة، دعم لا متناهي يجعل إسرائيل تلقي بعرض الحائط بكل القوانيين الدولية والضوابط الأميركية والغربية؛ التي تضعها تلك الدول في علاقاتها مع الدول الأخرى وتسليحها، ويمكن إجمال أهم هذه الأسباب على النحو التالي:

إسرائيل دولة وظيفية

أميركا والغرب لديهم مصالح مادية كبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وعصبُ هذه المصالح هي الممرات المائية التي تصلُ الخليج العربي ببحر العرب بالبحر الأحمر؛ عن طريق مضيق باب المندب بقناة السويس، والبحر الأبيض المتوسط، ومن ثم بالمحيط الأطلسي.

بدأ الصراعُ على هذه الممرات المائية والموانئ منذ فترة ما قبل الميلاد بين الدول العظمى في ذلك الوقت، ومع الثورة الصناعية الحديثة أصبح التنافس على هذه الممرات أكبر؛ لضمان تدفق الطاقة المتمثلة في النفط من دول الخليج العربي، وتدفق البضاعة من وإلى منطقة الشرق الأوسط والقارة الهندية.

وجد الغرب في إقامة دولة إسرائيلية في المنطقة ما يحقق له هذا الغرض، واعتبار دولة إسرائيل قاعدة غربية في المنطقة تحقق له الحماية بأقل تكلفة مالية وبشرية، كما أنها كيان غريب يفصل أفريقيا عن غرب آسيا؛ بما يحولُ دون أي تكتل لتحالف فيدرالي أو كونفدرالي، أو دولة عربية قوية متصلة تشكل مشروعاً عربياً ينافس المشروع الغربي في المنطقة.

الباعث الديني

جزء ومحرك مهم من الدعم الغربي لإسرائيل هو الباعث الديني، وإن كانت الدول الغربية دول علمانية؛ لكنَّ الساسة يستخدمون الدين كورقة يمكن توظيفها لخدمة مصالح دولهم ومصالحهم السياسية، فمنذ أن أنشأ القس -والراهب، وأستاذ اللاهوت الألماني- مارتن لوثر الحركة البروتستانتية أصبحت ثورة على الكنيسة الكاثوليكية، وخطوة كبيرة في تهويد المسيحية.

هذه الحركة نادى فيها مارتن لوثر كينج بالعودة إلى الكتاب المقدس كمصدر أولي ورئيسي للتعليم المسيحي، وبالتالي، يعتمد البروتستانت بشكل كبير على نصوص العهد القديم: (التوراة والكتب المقدسة اليهودية)، إلى جانب العهد الجديد. هذا يعني أن بعض الممارسات والتفسيرات البروتستانتية قد تعكس احترامًا وتقديرًا للأصول اليهودية للمسيحية. على إثر ذلك، أصبح هناك العديد من فروع البروتستانتية تؤيد المسيحية الصهيونية التي تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي إلى فلسطين، وسيادة اليهود على الأرض المقدسة في فلسطين.

اللوبي اليهودي المؤثر في أميركا: يُشكِّل اليهود ما يقدر بـ 8 مليون نسمة؛ إذ يُشكِّلون في الولايات المتحدة أكبر تجمع لليهود في العالم بعد إسرائيل، وهم يمثلون ما نسبته 1.7 بالمائة من العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة، حيث يتشكل اللوبي اليهودي -الذي يحاول توجيه السياسة الخارجية الأميركية بما يدعم ويعمل لصالح دولة إسرائيل- من 34 منظمة تنشط داخل الولايات المتحدة.

الشعور الغربي بعقدة الذنب

كانت فكرة إنشاء وطني قومي لليهود في فلسطين سابقة بمئات السنوات على وعد بلفور، وكان نابليون أول سياسي أوروبي ينادي علانية بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، حتى وإن لم تكن في الأساس بمثابة دعوة لإنشاء دولة يهودية ذات سيادة، بل كان يُنظر لها على أنها محاولة لكسب تأييد اليهود في حملته ضد العثمانيين. ثم الحركة الصهيونية الحديثة -التي نادت بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين- بدأت بشكلها المعروف في أواخر القرن التاسع عشر بقيادة شخصيات مثل ثيودور هرتزل. ثم كان وعد بلفور هو الخطوة العملية والتنفيذية لكل الدعوات التي سبقتها.

لكنَّ هذا التعاطف مع إسرائيل اتخذ منحىً آخر بعد الحرب العالمية الثانية، وصعود النازية وما يعرف بالمحرقة أو الإبادة الجماعية لستة ملايين يهودي؛ إذ تم استغلال تلك الرواية لتحويل الأمر إلى عقدة ذنب لدى الإنسان الغربي؛ عقدةً تمنح الصهيونية لعب دور الضحية؛ الذي يتيحُ لها أن تفعل ما تشاء تحت ضغط التعاطف والمظلومية وصعود مصطلح معاداة السامية ليصبح عقيدة مقدسة وخطيئة يُمنع الاقتراب منها في العقلية الغربية.

إسرائيل امتداد ثقافي وقيمي للغرب

تقدم إسرائيل نفسها كدولة علمانية راعية للحريات والثقافة الغربية في المنطقة، وإن كان مؤسسوها استثمروا السردية الدينية البروتستانتية واليهودية للمساهمة في إنشاء وطن قومي لليهود؛ لكنَّ إسرائيل لا زالت تتغنى أنها الدولة العلمانية الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وهي تمثل رأس وطليعة المشروع الغربي الناجح في منطقة الشرق الأوسط، مما يحتم على الغرب إنجاح هذا المشروع ودعمه؛ خاصة في ظل فشل قيام أي نموذج ديمقراطي، وفشل تكرار النموذج الياباني في المنطقة؛ النموذج الذي نجح به الغرب في تحويل اليابان من دولة معادية إلى أهم حلفاء الغرب في آسيا.

التفوق النوعي

أدركت الحركة الصهيونية أنَّ القلة العددية لليهود في العالم لا بد من تعويضها في التفوق النوعي في كل المجالات -وخاصة في العلوم الإنسانية- فتوجه الكثير منهم إلى دراسة أكثر التخصصات الإنسانية تأثيراً في ميدان السياسة؛ القانون والإعلام، إذ تشير دراسة منشورة إلى أن من أكثر أسباب تعاطف الشعب الأميركي مع إسرائيل: "ما رآه أو قرأه في وسائل الإعلام، وبنسبة من 30 إلى 35 بالمائة "؛ إذ استطاعت السردية الصهيونية والقوة الإعلامية أن تكون الأقرب إلى أذن السامع الغربي والأقرب إلى تشكيل القناعات الشخصية لهم؛ سرديةً تقدم إسرائيل كدولة متحضرة محبة للسلام، متواجدة في منطقة تحمل لها الكثير من الكراهية والعداء؛ والذي يمثل كراهية وعداء للنموذج والنمط الغربي في منطقة الشرق الأوسط.

نهاية الدعم الغربي لإسرائيل

وإن كانت هناك بيئة معقدة ومتشابكة تحقق الدعم الغربي لإسرائيل؛ لكن متى يمكن أن ينتهي هذا الدعم، أو يصبح أقل حدةً وانحيازاً؟ هذا يعتمد على عدة عوامل أهمها: 

التحول الديمقراطي في المنطقة

التحول الديمقراطي في المنطقة وحكم الشعب العربي لنفسه سوف ينهي السردية الإسرائيلية باعتبارها الدولة المتحضرة الوحيدة في المنطقة، كما أن القيادات القادمة من رحم الصندوق سوف تجعل القيادات في المنطقة تدير مصالحها مع أميركا بعيداً عن منطق التبعية وضرورة أخذ الشرعية الغربية في تولي السلطة؛ مما يجعل العلاقة مع الغرب وأميركا متوازيةً؛ بما يحفظ مصالح الدول العربية على حساب إسرائيل، وهذا ما يفسر دعم إسرائيل -اللامتناهي- للثورات المضادة على الربيع العربي.

باعث المصلحة

كما أنَّ باعثَ المصلحة؛ هو المحرك الأهم في ذلك الدعم، فأميركا تريد أن تكون الدول العربية -ومنطقة الشرق الأوسط- كشريك لها في صراع النفوذ مع الصين، وعندما تشعر أميركا أن إسرائيل أصبحت عبء عليها في علاقتها مع منطقة الشرق الأوسط سوف تتخلى عن إسرائيل، وحتى لا تجد أميركا نفسها أمام هذا الخيار فقد عملت في العقد الأخير على فكرة إدماج الدول العربية؛ لتكون صديقةً للمشروع الإسرائيلي الأميركي، وإقامة تحالف واحد يخدم ويساعد أميركا في صراع النفوذ مع الصين، ويحد من النفوذ الإيراني في المنطقة؛ لذلك تسارعت عجلة الدعم الأميركي لتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية في المرحلة الأخيرة، بذات الوقت كانت أميركا تثير مشكلة أقليَّة اليغور المسلمة في الصين.

إنشاء لوبي عربي وإسلامي

يعيش في الولايات المتحدة الأميركية ما يقارب 5 مليون مسلم يُشكِّلون ما نسبته 1.1 بالمائة من مجموع السكان الإجمالي فيها، وإن كان هناك لوبي إسلامي "كيرباك" لكنَّه لوبي لازال في بدايات تشكله وبناء بنيته التحتية؛ لوبي ضعيف مقارنة باللوبي اليهودي، كما أنه لوبي يعاني من شح وقلة الموارد المالية، كما يمنع توسعه وانتشار تأثيره تباينات الجماعات الإسلامية؛ إلا أنَّ بذل المزيد من الجهود، والاستثمار في تلك اللوبيات المشابهة يمكن أن يحقق شيئاً مؤثراً في السياسية الأميركية الخارجية والسياسات الغربية.

استثمار مواقع التواصل الاجتماعي

من قِبل الجاليات العربية والإسلامية في الغرب كمنصات إعلامية للكشف عن الوجه الحقيقي لإسرائيل؛ إذ كان لميلاد مواقع التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في إدارة تحول تعاطف الأجيال الغربية الحديثة مع القضية الفلسطينية؛ إذ أشارت جميع استطلاعات الرأي أنَّ الشباب الأميركي أصبح أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية من ذي قبل، كما أنَّ لليسار الغربي نشاطاً واضحاً في دعم القضية الفلسطينية، لكنَّ ذلك لم يصل إلى الحد الذي يمكن أن يغير السياسات الغربية اتجاه القضية الفلسطينية؛ خاصة في ظل غياب سردية ومطالب عربية موحدة اتجاه القضية الفلسطينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.