سجلّ إسرائيل حافل بانتهاك الهدن والاتفاقات.. هل من ضمان قانوني؟

الهدنة جزءًا من روح القانون الإنساني الدولي، وهي خطوة تُستخدم لإنهاء النزاعات المسلحة (رويترز)

بعد مفاوضات عسيرة غير مباشرة بين حماس ودولة الاحتلال- بواسطة قطرية، مصرية، أميركية- دخلت الهدنة حيزَ التنفيذ يوم الجمعة الموافق 24/11/2023، في تمام الساعة الـ 7 صباحًا، تسري التهدئة لمدّة 4 أيام تمتد حتى تمام الساعة الـ 7 صباحًا من يوم الثلاثاء.

يرافق هذه التهدئةَ وقفُ جميع الأعمال العسكرية من المقاومة الفلسطينية، وكذلك من طرف الاحتلال الإسرائيلي طوال الأربعة أيام.

كما سيتوقّف الطيران الإسرائيلي عن التحليق بشكل كامل في جنوب قطاع غزة، وسيتوقف لمدة 6 ساعات يوميًا من الساعة الـ 10 صباحًا وحتى الــ 4 عصرًا في مدينة غزة، وشمال القطاع.

أما بالنسبة لتبادل الأسرى، فسيشمل فئة النساء والأطفال دون الـ 19 عامًا من كلا الطرفين، حيث سيتمّ الإفراج عن 50 أسيرًا إسرائيليًا، مقابل 150 فلسطينيًا؛ أي بمعدّل 3 أسرى فلسطينيين، مقابل كل أسير إسرائيلي، وستستمر عملية التبادل طوال الأيام الأربعة.

وفيما يخصّ المواد الإغاثية والطبية فسيتم إدخال 200 شاحنة يوميًا لكافة مناطق قطاع غزة، وأيضًا سيتمّ إدخال 4 شاحنات من الوقود وغاز الطهي يوميًا لكافة مناطق القطاع.

طرحت هذه الهدنة جملة من الأسئلة حول مفهومها بالمعنى القانوني، وما الضمانات الدولية لاحترامها؟ وما الجزاءات الدولية تجاه الجهة التي تخرق الهدنة؟ وهل هذه الهدنة تختلف عن الهدن التي أُبرمت بين الدول العربية وإسرائيل؟

ما الهدنة؟

الهدنة: هي اتفاق مؤقت بين الأطراف المتحاربة لوقف القتال أو التصعيد العسكري، قد يكون نتيجة مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، كما هو الحال في الهدنة بين حماس ودولة الاحتلال.

تعتبر الهدنة جزءًا من روح القانون الإنساني الدولي، وهي خطوة تُستخدم لإنهاء النزاعات المسلحة، أو تقليل حدة الصراعات العسكرية، وقد تؤدي إلى اتفاق نهائي في نهاية المطاف.

توجد أشكال مختلفة للهدنة، بما في ذلك الهدنة الكاملة التي تعني وقف جميع الأعمال القتالية، والهدنة الجزئية التي تخفف من حدة العمليات العسكرية في مناطق محددة.

غالبًا ما تتضمن الهدنة شروطًا وأحكامًا محددة تحدد الالتزامات والمسؤوليات لكل طرف، مثل: تحديد المناطق الآمنة، أو تسليم المساعدات الإنسانية، أو تبادل الأسرى والمحتجزين.

لا توجد جزاءات دولية يمكن أن تُفرض على إسرائيل في حال عدم احترامها الهدنةَ؛ لأسباب مرتبطة بغياب العدالة على مستوى مجلس الأمن، وبسبب الرعاية الغربيّة الشاملة لدولة الاحتلال

من يضمن احترام الهدنة؟

لا توجد ضمانات قانونية أو سياسية ملزمة لأطراف الهدنة؛ أقصد ضمانات يفرضها مجلس الأمن أو جهاز دولي آخر.

ومن حيث المبدأ وفي الظروف الطبيعية، على أطراف النزاع احترام الهدنة، ما دامت قد حصلت برضاهم التام، ونتيجة لعوامل ذاتية وأخرى موضوعية فرضت نفسها على الظروف المحيطة بها، وما دامت بنود هذه الهدنة قد نُشرت للملأ، وتناولتها وسائل الإعلام استنادًا لنصوصها الأصلية.

مع ذلك، فإن تحللَّ أو تنصل أحد الأطراف، (إسرائيل هي من تخرق الاتفاقات)، من الالتزامات الواردة فيها، كلِّها أو جزء منها، ممكنٌ جدًا.

هنا تأتي مسؤولية الجهات الضامنة التي رعت المفاوضات. وفي حالة الهدنة بين حماس وإسرائيل فإن الجهات الراعية، وهي: قطر، ومصر، والولايات المتحدة، هي التي تتحمل المسؤولية في احترام بنود هذه الهدنة، وفي دفع الطرف الآخر إلى احترامها، كما حصل عندما تلاعبت إسرائيل ببنود الهدنة، (التلاعب بأسماء الأسرى لجهة الأقدمية، أو إدخال المساعدات والوقود للشمال، ووسط قطاع غزة على النحو المتفق عليه).

يبقى أن نشير بهذا الخصوص إلى أن الظروف الميدانية: (عسكرية، أو سياسية)- التي أحاطت بهذه الهدنة والتي دفعت إسرائيل للقبول بها- كفيلةٌ باحترام إسرائيل لها.

والضمانة الهامة أيضًا هي أنّ الولايات المتحدة معنية باحترام إسرائيل لها، ولأسباب مختلفة. كما أن الدول الغربية: بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا على وجه الخصوص، معنية كذلك باحترام إسرائيل لها، وأيضًا لأسباب مختلفة. أما من الجهة الأخرى- ونقصد حماس- فإن قطر، ومصر معنيتان باحترامها لها.

لا توجد جزاءات دولية يمكن أن تُفرض على إسرائيل في حال عدم احترامها الهدنةَ؛ لأسباب مرتبطة بغياب العدالة على مستوى مجلس الأمن، وبسبب الرعاية الغربيّة الشاملة لدولة الاحتلال. وحدَها الظروف الميدانية، ونزاهة الوسطاء، وجديتهم هي التي تضمن احترام إسرائيل الهدنةَ.

الهدنة ليست اتفاقًا دوليًا

الهدنة ليست اتفاقًا دوليًا يُودع في سجل الوثائق الدولية في الأمم المتحدة. الهدنات، عادة ما تكون اتفاقات مؤقتة تمّ توقيعها بين الأطراف المتحاربة لوقف العمليات القتاليّة أو تخفيف التوتر العسكري.

وعلى الرغم من أنَّ بعض الاتفاقات الدولية يتم تسجيلها في الأمم المتحدة؛ لغرض توثيقها وتوفير الوثائق، فإن تسجيل الهدنة ليس شيئًا اعتياديًا.

ومع ذلك، يمكن أن يتم إدراج الهدنة أو الاتفاقات المتعلقة بها في السجلات الرسمية للأطراف المتحاربة، كجزء من الوفاء بالالتزامات الدولية ولأغراض التوثيق. وقد تبرم اتفاقات هدنة برعاية الأمم المتحدة بين دولة وأخرى، وقد يكون ذلك سببًا لإيداعها في سجلات الأمم المتحدة.

ما الخروقات التي تعتبر نسفًا للهدنة؟

هناك نوعان من الخروقات للهدنة:

الخرق المبدئي: هو خرق ينتج عنه تغيير في الوقائع الميدانية، ويشكل تهديدًا حقيقيًا قد ينسف التهدئة كلها. كأن تمتنع إسرائيل، مثلًا، عن إطلاق سراح أسرى أو إدخال مساعدات إنسانية. الخرق الإجرائي: هو خرق إجرائي مرتبط بتطبيقٍ خطأ أو تجاهلٍ لأحد بنود الهدنة، (عن قصد أو غير قصد)، وهو لا يؤثر في الوقائع الميدانية، ولا يشكل خطرًا حقيقيًا على التهدئة ككل، لكن تراكم الخروقات الإجرائية قد يهدد التهدئة في الحد الأقصى، أو يؤخر تطبيقها في الحد الأدنى. (تلاعب إسرائيل بأسماء الأسرى لجهة الأقدمية، أو إدخال المساعدات والوقود للشمال، ووسط قطاع غزة على النحو المتفق عليه هو خرق إجرائي).

سجل إسرائيل حافل بانتهاك الهدن والاتفاقات

أبرمت إسرائيل منذ نشأتها عام 1948 سلسلة من الاتفاقات والهدن لم تحترم معظمها، وتعاملت معها باعتبارها فرصًا سياسية وعسكرية لفرض وقائع ميدانية.

أنهت الهدن التي أُبرمت بين الدول العربية وإسرائيل، منذ عام 1948 برعاية الأمم المتحدة، القتالَ الدائر بينهم لفترة من الزمن، ورغم اتفاق الهدنة شنّت إسرائيل عدوانًا ثلاثيًا مع فرنسا، وبريطانيا عام 1956 على مصر، ثم حربًا شاملة على مصر، وسوريا، والضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، قبل أن تبرم اتفاقات سلام مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.

واستغلت إسرائيل هذه الهدن وجعلت حدودها الأولية هي آخر ما وصلت إليه قواتها العسكرية؛ أي 77% من مساحة فلسطين التاريخية، وليس ما قرره قرار التقسيم عام 1948؛ أي 55%، وفي عام 1967 احتلت ما تبقى من فلسطين: الضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس.

بخصوص الهدنة بين مصر وإسرائيل والموقعة في 24 فبراير/ شباط 1949 في جزيرة رودس، فقد استطاعت إسرائيل بالحيلة والخداع- كما يوثق المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة- ضمَّ حوالي 200 كيلومتر مربع من مساحة قطاع غزة التي كانت تبلغ بحسب اتفاق الهدنة، 555 كيلومترًا مربعًا، وليست 362 كيلومترًا مربعًا.

انتهزت إسرائيل فرصة الشكاوى المقدمة منها إلى لجنة الهدنة، وطلبت تحديد خط الهدنة بعلامات واضحة؛ لإيقاف تعديات الفلسطينيين التي اقترفوها أثناء عودتهم إلى ديارهم، وسمتهم "المتسللين" إلى أرض إسرائيل.
تمّ الاتفاق مع ضباط الهدنة المصريين برئاسة محمود رياض على تقليص مساحة قطاع غزة. وكان هدف إسرائيل الحقيقي، من وراء ذلك، تقليصَ مساحة قطاع غزة قدر الإمكان، والاستيلاء على المياه الجوفية في شمال القطاع من خلال اتفاقية سرية عرفت باتفاقية التعايش بتاريخ 22 فبراير/ شباط 1950؛ أي بعد سنة من اتفاقية الهدنة.

أمّا بخصوص الهدنة مع لبنان، فلم تحترمها إسرائيل، بل ارتكبت مجزرة الحولة. وفي عام 1967 ألغتها من طرف واحد، واحتلت جزءًا من أراضيه، ثم واصلت انتهاكها بشكل متصاعد، إلى أن احتلت جزءًا آخر منه عام 1978.

أمّا اتفاقية أوسلو الموقعة في 13 سبتمبر/ أيلول 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية، وبين إسرائيل، فقد كان من المتوقع- خلال 5 سنوات- أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي، وهي: الاستيطان، والقدس، والأمن والحدود، واللاجئون، والمياه؛ تمهيدًا لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، لكن إسرائيل تجاهلت هذه الملفات وفرضت وقائع خطيرة على الأرض، تمثلت بالاستيلاء على أراضٍ واسعة من الضفة الغربية، والقدس المحتلة، كما فرضت حصارًا شديدًا وقاسيًا على قطاع غزة.

ويصعُب أمام هذه الوقائع إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو /حزيران، وعاصمتها القدس الشريف.

خلال الفترات السابقة: (2008، 2012، 2014، 2021)، شنت إسرائيل عمليات عدوانية واسعة على قطاع غزة. انتهت هذه الجولات القتالية بإبرام هدن مع حماس برعاية مصرية. وفي كل مرة كانت إسرائيل تنتهك هذه الهدن.

نخلص مما سبق إلى أن الهدنة ليست اتفاقًا سياسيًا ينهي حالة الحرب نهائيًا، بل قد تكون خطوة في هذا الاتجاه. وثمة جهات ضامنة، قد تكون الأممَ المتحدة أو دولًا ذات علاقة وتأثير بأطراف النزاع.

لكن الظروف الميدانية والسياسية التي تحكم الأطراف المتحاربة هي الضمانة الكبرى لاحترام الأطراف لها. وسجل إسرائيل حافلٌ بانتهاك اتفاقات الهدن العسكرية أو الاتفاقات السياسية، وفي كل التجارب السابقة لم يكن هناك ما يمنع إسرائيل من انتهاك اتفاق الهدنة أو استغلاله.

لكن الحالة تبدو مختلفة في اتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل هذه المرة، حيث فرضت حماس شروطها على إسرائيل، ولم تسمح لها حتى بالخروقات الإجرائية، وساعد ذلك وجود وسطاء يتمتعون بالمصداقية والجدية، كما هو الحال مع الوسيط القطري على وجه الخصوص.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.